الشرق الاوسط

صناعة الموت: من المسؤول عن استعادة الحرب في ليبيا؟

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا 5

كارولين روز
منذ بضعة أسابيع فقط، ازدادت حدة الموقف في ليبيا وذلك منذ أن قام البرلمان التركي بالتصديق على قرار إرسال بعض القوات العسكرية التركية إلى ليبيا لمساندة حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة إلى جانب البدء في تجنيد بعض عناصر الجيش السوري الحر للقتال كمرتزقة. هذا في الوقت الذي قام فيه الخصم الأكبر لحكومة الوفاق، الجيش الوطني الليبي بشن حملة عسكرية على العاصمة الليبية طرابلس حيث المقر الأساسي لحكومة الوفاق والسيطرة على بعض المواقع الاستراتيجية الأخرى مثل سرت وبعض الأحياء الجنوبية. ولعل مبادرة تركيا بإشهار أنيابها في وجه العالم حفزت بعض الأطراف الدولية الأخرى على التحرك ضدها مثل مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وفرنسا وروسيا مما أوجد نوعا من سباق التسلح فوق الأراضي الليبية.
وفي الوقت الذي كانت تتصارع فيه القوى وتنشأ التحالفات الجديدة في ليبيا، تغير المشهد تماما وذلك عندما ضغطت كل من أنقرة وموسكو على فايز السراج زعيم حكومة الوفاق، وقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر من أجل الذهاب إلى موسكو لمناقشة وقف التصعيد والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
ويجب ألا يترجم التغير الكبير في سير الأحداث إلى نوع من التحسن الفجائي في العلاقات بين كل من أنقرة وموسكو، ولكن الأمر يكشف عن تعديل في التفكير الاستراتيجي الخاص بالدولتين، وعلى الرغم من أن الديناميكية بين الجانبين تظل هي مركز الثق الأساسي في ليبيا، إلا أن ثمة لاعبين دوليين آخرين يحاولون تشكيل الصراع، الأمر الذي يستدعي الوقوف على اتجاهاتهم لمحاولة تقديم قراءة تحليلية منطقية للمشهد داخل الأراضي الليبية.
ماذا تريد تركيا من ليبيا؟
تتمثل الأهداف التركية الجيوسياسية في ليبيا في تأمين مصادر النفط من خلال ضمان الوصول المستمر إلى المواقع النفطية الليبية، كما تحتاج إلى الحفاظ على عقود المشروعات القائمة حاليا في البلاد. فبعدما تم الإطاحة بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي عمدت أنقرة مباشرة إلى استغلال الفرصة من خلال إعادة بناء البنية التحتية الليبية مع المقاولين الأتراك. وخلال الأسابيع الأخيرة حرصت تركيا على تنفيذ استراتيجيتها بوتيرة أكثر تسارعا من أجل تأمين عقود العمل والنفط والغاز.
وعليه فقد عمدت أنقرة إلى توقيع مذكرة تفاهم مع حكومة السراج بحيث تقدم تركيا الدعم الفني والاستشاري والتسلح في مقابل إنشاء منطقة بحرية محددة في شرق البحر المتوسط ، مما يمكّن تركيا من القيام بمشاريع المسح الزلزالية والتنقيب قبالة سواحل ليبيا الغنية بالغاز وتمهيد الطريق لعقود النفط المستقبلية مع الشركات التركية.
ومن ناحية أخرى تعتبر ليبيا- ولا سيما حكومة الوفاق الوطني- امتدادا للنفوذ التركي للتوغل في شرق البحر المتوسط وتوسيع حدودها البحرية. وذلك من خلال تقديم الدعم للزعيم الإسلامي فايز السراج في مواجهة منافسه العلماني خليفة حفتر. حيث يمكن لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا الترويج لجدول أعماله الإسلامي ووضع نفسه في موضع منافس لخصومه في الخليج والبحر الأبيض المتوسط.
بالإضافة إلى ذلك ، ترى تركيا ليبيا بمثابة رصيد عسكري يعزز وضعها الإقليمي المتنامي في المنطقة. فعلى الرغم من امتلاك تركيا بالفعل قواعد في السودان والصومال تتيح لها الوصول إلى البحر الأحمر والخليج العربي ، إلا أنها تريد إنشاء قاعدة لها في شرق البحر المتوسط تمكنها من الوقوف في وجه منافسيها كاليونان وقبرص ومصر وإسرائيل.
لكن تركيا لا تزال تواجه مجموعة من العقبات في تحقيق أهدافها ومراميها في المغرب العربي، فقد أثبتت الأحداث تراجعا ملحوظا لقوات السراج أمام الجيش الوطني الليبي والذي نجح مؤخرا في تطويق المنطقة الجنوبية من طرابلس والسيطرة على معظم حقول الغاز والنفط في البلاد. بالإضافة إلى ذلك ، على الرغم من أن الأمم المتحدة تعترف بالحكومة الوطنية ، وعلى الرغم من أن قطر وعدت بتقديم المساعدة الاقتصادية لحكومة الوفاق، إلا أن تركيا لا تزال الداعم العسكري الوحيد لقوات السراج ، حيث توفر 350 مليون دولار من الطائرات المسلحة بدون طيار والشاحنات والمعدات ، وكذلك أفراد المرتزقة من الشمال سوريا. في المقابل ، يحظى الجيش الوطني الليبي بدعم وافر من قبل كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وروسيا ومصر والأردن والسودان، وحتى فرنسا ولو بصورة غير مباشرة.
ومما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أيضا هو القدرات والإمكانات العسكرية التركية ، فالقوات الجوية التركية الداعمة لقوات السراج ليست على قدم المساواة مع نظيرتها التابعة لحفتر والذي يحصل على الدعم الروسي الكامل من القنيات الهائلة في مجال الطائرات بدون طيار والتشويش على المجال الجوي. كما أن الطائرات التركية غير مؤهلة للضرب من القواعد التركية الموجودة في شمال قبرص وغير قادرة على التزود بالوقود عبر تلك المسافة الشاسعة.
وأضف إلى ذلك فإن القرار التركي بالتدخل في الأراضي الليبية قد لاقى معارضة حاسمة على الصعيد الداخلي، حيث أعلن 58% من الأتراك عن رفضهم للقرار، وبالتالي فإن تركيا قد أصبحت محاطة بعدد من التهديدات داخليا وخارجيا قد تعيقها عن استئناف مسيرتها داخل الأراضي الليبية.
تحقيق التوازن بين أنقرة وموسكو
الجدير بالذكر أن المصالح الروسية تتقاطع مع نظيرتها التركية في ليبيا من حيث السعي للحصول على عقود التنقيب عن النفط والغاز وبناء استراتيجية دفاعية في شرق البحر المتوسط. فقد بدأت موسكو في المشاركة في الحرب الأهلية الليبية بعد مهمة الناتو لعام 2011 في المقام الأول للحد من النفوذ الأمريكي والغرب في المنطقة. حيث تركز موسكوعلى أن تصبح لاعبا أساسيا في المنطقة. مثل أنقرة ، تعتقد أن وجودها يمكن أن يترجم إلى هيمنة ما بعد الحرب. والتدخل من خلال جهود إعادة الإعمار. كما تهدف روسيا أيضًا إلى إبرام الصفقات على الموارد الليبية (القمح والنفط والغاز) من أجل التخفيف من حدة مشكلاتها الاقتصادية ، لذا وجدت موسكو نفسها مؤهلة للفوز بعقود الطاقة في ليبيا نظرا للخبرة الروسية الطويلة في مجال النفط والغاز.
ولعل سعي روسيا للتدخل في ليبيا يكشف عن واحد من أعظم أهدافها الإستراتيجية، إقامة قاعدة روسية على الحافة الجنوبية لأوروبا. بالنسبة لموسكو ، تعتبر حالة عدم الاستقرار في ليبيا فرصة لبناء قاعدة عسكرية مماثلة للقواعد البحرية التي تم إنشاءها خلال الحقبة السوفيتية في طبرق وطرابلس ، مما يمكن روسيا من تعزيز وجودها في شرق البحر المتوسط ، كامتداد للقاعدة البحرية الروسية الموجودة بالفعل في طرطوس في سوريا. هذا فضلا عن رغبة موسكو في تفادي حالة انعدام الأمن في البحر الأسود ، حيث تسيطر تركيا على الوصول إلى البحر المتوسط عبر مضيق البوسفور.
وبعد أن قام البرلمان التركي بالتصديق على قرار نشر قوات تركية في ليبيا، تراجعت الحكومة في أنقرة قليلا، حيث ادرك بعض المسؤولين حجم المخاطر التي ربما تتكبدها القوات التركية هناك وبخاصة في حال مواجهة القوات الروسية. حيث جاء نص البيان التالي:” إن تركيا لن تنشر قوات إلا إذا لم يتم التوصل إلى حل سياسي” ولعل ذلك البيان يعكس حالة القلق التي انتابت بعض المسؤولين في تركيا خشية أن تخسر أنقرة في قتالها ضد نظام التحالف المتسع في الجيش الوطني الليبي مما يؤثر سلبيا على المصداقية التركية إقليميا.
ومن جانبها، قامت موسكو أيضا بتقدير حجم المكاسب والخسائر، حيث أصبحت على يقين تام بأن مواجهة القوات التركية لا يعني سوى المزيد من التصعيد في المنطقة ولفت انتباه الجانب الأمريكي وهو ما لاتريده موسكو على الإطلاق.
والجدير بالذكر أنه قبل تدخل تركيا ، اعتقدت روسيا أنها ستكون المستفيد الوحيد من عقود الطاقة والبنية التحتية والدفاع في ليبيا ما بعد الحرب. لكن وجود تركيا يعني التنافس على الموارد على المدى الطويل – والحرب لم تنته بعد.
ولذلك فقد عمدت كل من أنقرة وموسكو إلى إدخال تعديلات جذرية على استراتيجياتهما. واتفق الجانبان على التوصل إلى حل سياسي مما يمكن الطرفان من مراعاة مصالحهما في المنطقة دون استخدام القوة. وتتجنب هذه الإستراتيجية المواجهة المحتملة بين روسيا وتركيا ، مما يحد من الأضرار الإضافية التي لحقت بالبنية التحتية النفطية الليبية والتي ترغب كلتا القوتين في الحفاظ عليها.
إيطاليا وفرنسا ودول الشرق الأوسط
ولا يقتصر المشهد على كل من موسكو وأنقرة فقط، فهناك بعض الأطراف الدولية الأخرى. فيجب الا ننسى أن إيطاليا طالما أبدت اهتماما ملحوظا بالملف الليبي نظرا لكون ليبيا مستعمرة ايطالية قديمة منذ مطلع القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد ترددت كثيرا في التدخل في الصراع الليبي، إلا إن ما تسعى إليه حاليا هو محاولة الحد من حالة عدم الاستقرار الناجمة عن الصراعات والتي قد تطال الأراضي الليبية من خلال تدفق موجات الهجرة الغير شرعية.
وتمتلك إيطاليا بعض المصالح الاقتصادية في ليبيا أيضا، حيث كانت ليبيا المصدر الرئيسي للنفط الخام لإيطاليا ، لكن الحرب أثرت بالسلب على صادراتها النفطية مع مرور الوقت ، واليوم تقف ليبيا كأكبر مورد للنفط في إيطاليا. حيث حصلت إيني ، أكبر شركة للنفط والغاز في إيطاليا ، على اتفاقية مشتركة مع شركة النفط الوطنية الليبية لإنشاء شركة مليته للنفط والغاز في عام 2008.
ومنذ ذلك الحين ، أصبحت إيطاليا أكثر انخراطًا في ليبيا لحماية مصالحها وأصولها النفطية. مما يجعل لإيطاليا الثقل الأكبر في عملية السلام الليبية. لقد فضلت ايطاليا اتباع النهج المحايد ، ساعية نحو تحقيق التوازن بين تركيا المؤيدة لحكومة الوفاق، وروسيا المؤيدة للجيش الوطني الليبي بهدف إيجاد حل دبلوماسي. هذه ورقة ترغب روما في لعبها لتأمين مصادر الطاقة لديها ، وتجنب استئناف الحرب في الخارج القريب وإنقاذ مصداقيتها الدبلوماسية ، خاصة في وقت تواجه فيه حكومة رئيس الوزراء جوزيبي كونتي معارضة شعبية في الداخل.
من ناحية أخرى، اضطلعت فرنسا بدور غير مباشر في الملف الليبي، فقد فضلت تقديم الدعم الكامل لقوات حفتر وذلك لثلاثة أسباب: أولا مساعدتها في حملتها في القضاء على الإرهاب والتطرف في إفريقيا، ثانيا البحث عن موارد الطاقة في ليبيا، وأخيرا تأكيد السيادة الفرنسية في طرح حلول استعادة وتمكين السلطة فيي ليبيا. ولقد مهدت الخطوات الفرنسية لإرساء عقود النفط المستقبلية، فمثلا على سبيل المثال ، أبرمت شركة توتال الفرنسية متعددة الجنسيات اتفاقًا مع شركة النفط الوطنية الليبية لتبادل الخبرات الفنية للحصول على امتيازات نفطية في حوض سرت.
وقد بدا الموقف الفرنسي أكثر وضوحا في ليبيا خلال اجتماع موسكو الاخير واقتراح وقف إطلاق النار، حيث يقال بأن فرنسا والإمارات العربية المتحدة قد تمكنا من إقناع حفتر بمغادرة موسكو دون توقيع اتفاق السلام، في محاولة لكبح النفوذ التركي والروسي مع تعزيز الدور الفرنسي في تشكيل نتائج الحرب. فلطالما كان التوسط من أجل إقرار السلام في ليبيا هدفا رئيسيا على أجندة الاولويات والاهتمامات الفرنسية.
أما عن الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن والسعودية، فقد كانوا داعمين أكثر وضوحًا للجيش الوطني الليبي. بالنسبة لأعضاء جامعة الدول العربية ، وخاصة مصر ، فإن امتداد النزاع الليبي المحتمل أمر بالغ الخطورة بحيث لا يمكن السكوت عنه. ومع ذلك ، فبينما تهتم بلدان مثل إيطاليا باللاجئين الليبيين ، تختلف اهتمامات مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. فالاهداف المشتركة هنا هي ردع الجماعات الأصولية السلفية الليبية وخلايا الإخوان المسلمين. وبالنسبة لمصر بشكل خاص ، يعد تأمين شرق القرينة كمنطقة عازلة بين الجماعات الإسلامية في الغرب الذي تسيطر عليه حكومة الوفاق الوطني والحدود المصرية أمرًا بالغ الأهمية لاستراتيجيتها للأمن القومي.
وفي الوقت الذي قدمت فيه المملكة العربية السعودية الدعم الاقتصادي للجيش الوطني الليبي، فقد حرصت كل من مصر والاردن والإمارات على دعم حفتر عسكريا وبخاصة خلال الغارات الجوية في بنغازي وطرابلس، ولم تكثف تلك الجهود العسكرية المشتركة إلا في أعقاب التهديدات التركية بالتدخل في ليبيا.
وعليه فإن تعدد الاطراف وتعقد الموقف قد دفع كل من روسيا وتركيا للتأكيد على أنهما القوتان الرئيسيتان ليبيا بعد الحرب من أجل تأمين مصالحهما النفطية والاقتصادية والاستراتيجية في مشهد ما بعد الحرب في البلاد. المصالح الروسية والتركية متوافقة – إلى حد ما. وما دعم كل منهما لفريق مختلف سوى وسيلة متباينة لتحقيق نفس الهدف. وهو الحفاظ على البنية التحتية للبلاد ، وإقامة وجود دفاعي في شرق البحر المتوسط.
رابط المقال اضغط هنا

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى