اجتماعالاحدث

ولما بلغ ملء الزمان | بقلم شارل س. صليبا

الله لا يُدرَك، وهو يُدرِكُ أنه لا يُدرَك، وأننا لا يمكن أن ندركَه. ولكن الأبناء بحاجة لأن يتكلموا مع أبيهم، وأباهم الذي ولدهم، يهوى أن يتكلم مع أبناءه من أجل الخلاص. إن هذه العلاقة بين الإله السامي، والمخلوقات الدونية التي رُفعَت الى مرتبة البنوة بدم يسوع المسيح، هي علاقة مستحيلة لولا إرادة الرب. ولولا هذه الإرادة المحبة للبشر، لبقينا في شقاءنا مخلوقات تتخبط بين غريزة الجسد التي تنتهي بالموت، وطوق الروح الذي لا ينتهي إلا باتحادها بالمصدر الحقيقي لهذه الروح، ألا وهو الله.

ولكن الله بالرغم من أنه لا يُدرَك، فإنه قد كلمنا بلغة بسيطة يمكن أن نفهمها. ولعله عندما جعلنا أبناء له، كان يتكلم هذ اللغة البسيطة. فإننا كلنا أبناء لآبأء أرضيين، ونحن نعرف هذه اللغة. فلغة آباءنا الأرضيين تشبه الى حد ما لغة الله من ناحية المحتوى والهدف على الأقل. فكما أننا ونحن صغار لم نكن نعرف ماذا يدور في بال والدنا من محتوى، كذلك هو مستوى ادراكنا لما يدور في خلد الله من محتوى. وكما أننا كنا نثق بأنه بغض النظر عن ما يخططه لنا والدنا، فإنه يريد ماهو لمصلحتنا، كذلك فإننا نثق بأن ما يخططه الله لنا ليس فيه الا ما هو لخلاصنا. وفي الاطار ذاته، فإننا كنا نعلم أيضاً أننا اذا خرجنا عن طاعة والدنا ونحن مازلنا صغار، فإن العواقب كانت ستكون وخيمة ليس لناحية التأنيب، وإنما لناحية الأذى الذي سيقع علينا نتيجة خروجنا عن إرادته والتمسك بإرادتنا. هذه هي اللغة ذاتها التي كلمنا بها الله الآب عندما طلب منا أن لا نخرج عن طاعته، لا لأنه يريد بنا العبودية، وأنما ليحمينا من شر إرادتنا التي يمكن أن تتخلى عنه كما فعل آدم وحواء في عدن. ولهذا السبب ذاته سألنا في الصلاة الربانية أن نطلب مشيئته، لا ليأخذ مشيئتنا، بل ليرفعها الى مستوى الألوهية الذي أدركناه بعد أن صرنا أبناءً له.

أن نُدرِك الله أمر لن يتم إلا بالاتحاد به بفضل نعمته بعد ان ننتقل إليه، وليس بسبب إرادتنا. في هذا الحين، جُلَّ ما يمكن أن نفعله هو أن نتكلم معه ونفهم لغته ونؤمن بها.  ولعل من أكثر المواضيع الصعبة الفهم في لغة الله معنا، هي لغة الوقت والسبب. لماذا يحصل ما يحصل، ولماذا الآن؟ إن فكري المراهق بالمسيح لا يسمح لي بمحاولة الإجابة عن ما حاول الآلاف من القديسين والمتأملين والفلاسفة والمفكرين أن يجيبوا عليه. لذلك سأكتفي بتأملٍ بسيط من وحي الميلاد الذي هو قمة بداية لغة الله معنا بعهده الجديد الذي جعلنا فيه أبناءً له. ولكن قبل الغوص في تأمل الميلاد، لا بد أن نحاول فهم قواعد اللغة الإلهية، حتى نتمكن من معرفة أين يمكننا الاجتهاد في الفهم، وأين يجب علينا التسليم.

في ال “ماذا” أعطانا الله كامل الإرادة لنختارها. نحن نختار ماذا نفعل وبماذا نفكر بكل حرية؛ حرية لم يضمنها لنا القانون كما يشاع، وإنما كفلها الله لنا بعد أن أصبحنا أبناءً له. ولكن في هذه ال “ماذا” بعد إيماني، ألا وهو أن يكون لدينا الجرأة والإيمان بأن نختار بكامل إرادتنا طريق الرب وعمله في حياتنا.  أما في ال “كيف” فقد وضع الله قاعدتها في حيِّزَين، ال “كيف” البشرية، و “كيف” التسليم. ال “كيف” البشرية مرتبطة مباشرة بال “ماذا” البشرية، لأنها تتميم لإرادة الانسان في ما يقرر من عمل. أي ال “ماذا” وال “كيف” البشريتين هما تظهير لحرية الاختيار لدينا نحن البشر، بغض النظر عن ما هو طبيعة هذا الفعل الذي نختاره. أما “كيف” التسليم فهي مرتبطة بالحوار بيننا وبين الله في ما يتعلق بحاجاتنا، وهي اتحاد مباشر مع ال “ماذا” الملتزمة بعمل الله. فإذا اجتمعت ال “ماذا” وال “كيف” التسليميتين، نكون قد تممنا مشيئة الله فينا، ويكون الله قد عمل من خلالنا ما فيه خلاص لنفوسنا بواسطة سر التدبير الذي لا يُدرَك.

وتبقى القاعدتين الاكثر صعوبة في لغة الله معنا، ألا وهما قاعدة ال “متى” وال “لماذا”. ولعل هذه الأخيرة هي أكبر نقطة تحدي في علاقتنا مع الله، فال “لماذا” قد جبلت قديسين كما أنها قد صنعت مرتدين عن الإيمان. ولكن لما هذا التعقيد في ال “متى” وال “لماذا”؟

لنتمكن من فهم هذا التعقيد، يجب علينا أولاً أن نعرف بأن إرادتنا الأرضية يمكن أن تختلف عن الإرادة الإلهية، هذا حتى لا نجزم بأنها بالحقيقة تختلف كلياً عن الإرادة الإلهية. والعبرة في آباءنا الأرضيين. فإن ليس كل ما نطلبه بإرادتنا من والدنا الأرضي، نناله. وبالرغم من تعدد الأسباب لعدم تماهي ارادتنا مع إرادة والدنا الأرضي بشكل دائم – في حال كنا نطلب مايؤذينا، أو ما ليس له من مقدرة على كلفته، أو ما لا يتماشى مع قيمنا وأخلاقنا – فإن لأبينا السماوي سبب وحيد لعدم تماهي ارادتنا مع إرادته، ألا وهو مشروع خلاصنا. فإن عظمة الله الآب تكمن في أنه يريد خلاصنا بأي ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو دم الحمل الوديع ابنه الوحيد يسوع المسيح. ومن مبدأ هذه الذبيحة التي لا تُدرَك، ولمعرفته بنقصنا وبأنه يمكننا من خلال ال “ماذا” وال “كيف” البشريتين أن نصل الى الهلاك، فإنه لا يمكن لإرادته أن تكون خاضعة لإرادتنا؛ هو يحترم إرادتنا، ولكنه لا يخضع لها! وعدم الخضوع هذا ينطبق على كل من ال “لماذا” وال “متى”.

إذن، انطلاقاً من إرادة الله المطلقة التي لا هدف لها سوى خلاصنا، فإن ال “لماذا” وال “متى” يبقيان في أمر الله الآب. وهذا هو صلب تأملنا في هذا الميلاد. إذا كنا نؤمن بعقيدة ال “لماذ” وال “متى” الإلهيتين، فإننا لا بد أن نؤمن بأن الله لديه التوقيت التام، والخطة الكاملة Perfect Timing and Perfect Plan. بمعنى آخر، إذا أردنا أن نكون مع الله، يجب علينا أن نكون تسليميين؛ المسيحي الحق هو المسيحي التسليمي الذي يلتمس مشيئة الرب في كل شيء، ويؤمن بتوقيت الله وخطته الكاملة لحياته. والشرط الوحيد لحصول هذا الأمر هو الثقة التامة بالرب. فمن دون هذه الثقة لا يمكن أن نعاين ونلمس التوقيت التام وخطة الله الكاملة لحياتنا.

لنعيد ترتيب أفكارنا. نحن البشر ولدنا من الله بالعهد الجديد، وقد مَنَحَنا الرب حرية الاختيار. بواسطة هذه الحرية، يمكننا أن نختار الابتعاد عن الله أو التسليم التام له ولإرادته في حياتنا. ويجب علينا أن نعلم أيضاً، بأنه يمكن لإرادتنا أن تكون – باختيارنا – خاضعة لمشيئة الرب، ولكن لا يمكن لارادته أن تكون خاضعة لمشيئتنا. كذلك يجب أن نؤمن بثقة، أنه إذا سلمنا حياتنا للرب، فإنه سيتمم خلاصها وسيستخدمها لخلاص الآخرين من خلال سر التدبير الخلاصي. ومن هنا، فإننا عندما نُسَلِّم ذاتنا للرب، فإننا يجب أن نؤمن من تلك اللحظة وحتى انتقالنا الى الحياة، بأن الله لديه توقيت تام وخطة كاملة لكل تفصيل في حياتنا، وأنه إذا سلمناه مركز القيادة، فإننا من الآن فصاعداً، لا يمكن أن نقود كما نريد، بل كما هو يريد؛ هذا هو سر التسليم.

والميلاد ليس هو الا الافتتاحية الكبرى لسر التسليم. هو لوحة رائعة، ومعزوفة لذيذة، ومشهدية سماوية، ومخطوطة متناسقة حول توقيت الله التام، وخطته الكاملة لنا. قال القديس بولس “لما بلغ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين هم تحت الناموس، لننال التبني”. ما أدق هذه الرسالة في توصيف كمال التوقيت والفعل لدى الله. “لما بلغ ملء الزمان” قالها بولس لنعرف بتمام توقيت الله. إن تعبير “ملء الزمان” هو أدق من أن نُدرِكه كبشر، وأرفع من أن نحاول تقليده. “ملء الزمان” هو فقط عند الله؛ هو فقط يعلمه، وهو فقط يطلقه. هنا وفي هاتين الكلمتين – ملء الزمان – تتجلى ال “متى” الإلهية التي يمكن أن تُعَقِّد حياتنا إذا أردنا أن نُخضِع مشيئة الله لإرادتنا، والتي يمكن أن تملأنا بالسلام إذا اخترنا أن نُخضِع إرادتنا لمشيئته. وما خبر هذه الافتتاحية إلا تجسيد لكمال خطة الله بالوقت والفعل. ففي ملء الزمان، “أرسل” الله ابنه. وكأن القديس بولس يريد أن يقول بوحي إلهي، أن التوقيت يسبق الفعل؛ بالرغم من أن الفعل هو أصلاً حاصل في إرادة الله. فالفعل عند الله لا يحتاج الى وقت، ولكن حتى نفهم لغة الله معنا، وضع الرسول بولس الوقت قبل الفعل، وكأنه يريد أن يقول لنا، أنه فقط عندما يرى الله أن الوقت قد تم، سيحص الفعل في حياتنا. هذا فقط إن كنا من التسليميين وليس ممن يرون في الله أباً أرضياً جاهزاً لتحقيق رغباتنا في الوقت الذي نريده. ويعيد هنا القديس بولس تأكيد ارتباط تمام توقيت الله وكمال خطته، بالهدف الأوحد لعلاقة الله بنا، ألا وهو فدائنا نحن الذين تحت الناموس، لننال الخلاص من خلال التبني.

الله لديه التوقيت التام والخطة الكاملة He has the Perfect Timing and Perfect Plan؛ أتؤمن بهذا؟ إذا كانت إجابتك “نعم”، فإنك من اليوم فصاعداً ستعاين يد الله في كل شيء في حياتك؛ ما عليك الا أن تثق به، بالرغم من صعوبة التخلي عن ارادتنا وجعلها متحدة بإرادة الله. كل ما عليك هو أن تثق به. تثق بأن مشيئته لك هي الخير، و”أنه يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ”. الثقة بالله وبإرادته هي الثقة بأن توقيته تام وأن خطته لك كاملة، فكما أنه حين بلغ ملء الزمان، وُلِدَ الرب يسوع من أمنا العذراء القديسة، كذلك فإنه عندما تستسلم لمشيئة الرب، سيحصل لك كل الخير في التوقيت التام الذي يختاره الله، بما في ذلك الانتقال الى الحياة الحقيقية في السماء.

وليس أعظم من إنجيل البشارة للتعرف على ما يعنيه توقيت الله التام وخطته الكاملة لنا بواسطة سر التسليم. فالملاك أتى الى الناصرة وكلم البتول مريم العذراء مبشراً إياها بأنها ستحمل وتلد ابن الله الذي سيكون خلاصاً لشعبه. وماذا كان قول مريم للملاك؟ “ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك”. ومن المهم جداً أن نعرف بأن مريم لم تقل هذا الأمر عن عدم معرفة، وإنما عن يقين تام بأن خطة الله الكاملة لها، لا يمكن الا أن تكون عطيمة؛ فالعظيم لا يأتي الا بالعظائم. وقد أكدت ذلك عند لقائها أليصابات قائلةً: “تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر الى اتضاع أمته. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني، لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس، ورحمته الى جيل الأجيال للذين يتقونه.” ما أروعكِ، ما أجملكِ، ما أعظم محبتكِ وثقتك بالرب يا أمي. ما أروعكِ، ما أجملكِ، وما أرفعك بين كل البشر. حدث عظيم كهذا، ملاك يظهر لها، وسلام من الله مباشرةً، وبشرى بالحبل الإلهي، وماذا تقول هذه العذراء الوديعة المتواضعة؟ “ها أنا أمة الرب” فليكن لي بحسب مشيئته. لا خوف، لا رعدة، لا تردد، بل ثقة تامة لا حدود لها بالرب، ثقة نقية من الشك، وثقة خالية من التخاذل والتردد والتراجع. ثقة لا خوف فيها من الوضع الحالي، ومن الحرب، ومن القتل، ومن الدمار، ومن الفقر، ومن الجوع، ومن كل الأفكار المخيفة عن المستقبل والتي يزرعها فينا الشرير ليسلب منا بنوتنا لله. نعم هذه العذراء غير المتعلمة، وغير المثقفة، وغير العالمة بشؤون المجتمع والسياسة والحضارة والتطور تقف بكل قوة وتقول لله، أنا أثق بك، إفعل بي ما تشاء. ونحن الأشقياء المتعلمين، والمثقفين، والعالمين بالحضارة والمعرفة، والذين حصلنا على التبني ونعرف به لأننا لبسنا المسيح في المعمودية، ماذا نفعل؟ تتقاذفنا بعض من الاخبار، وكثير من الصورالإيحائية، وحفنة من جَهَلَة يُطلَقُ عليهم تسمية مؤثرين، وحكايات مستنزفة للمشاعر وللطاقة، ومعلومات مختلة نتبناها كأنها الحقيقة المطلقة، متجاهلين أن الحقيقة المطلقة قد سبق فعرفناها، وليس هناك شيء لنعرفه بعد الآن إلا أننا أبناء لله، وأن الله بتوقيته التام وخطته الكاملة لنا يسعى فقط لأمر واحد لا ثاني له، ألا وهو خلاص نفوسنا. إذن، ما علينا الى أن نثق، ونؤمن به، وما تبقى، فإنه سيحمله عنا، والأجدر القول أنه قد سبق فحمله عنا.

شارل صليبا، كاتب وخبير متخصص في الموارد البشرية والحوكمة

شارل صليبا، مؤسس والمدير العام لشركة "أتش آر وركس" HR Works وهي شركة متخصصة في مجال الاستشارات التنظيمية والموارد البشرية. هو عضو مؤسس ورئيس جمعية الاستشاريين اللبنانيين، خبير تنفيذي، ريادي أعمال، كاتب، ومستشار في مجال القيادة وتطوير الأداء. لديه ٢٥ عاماً من الخبرة في إدارة الموارد البشرية وتهيئة المواهب. يتقن بناء القدرة عند الأفراد من خلال خبرة عميقة في تنمية القيادة. ومنذ العام ٢٠٠٩، قام بتدريب، وابداء النصح والاستشارة وتطوير أكثر من٢٠٠٠ مدير تنفيذي ورئيس شركة في البلدان العربية، الأمر الذي جعل منه أحد أبرز الخبراء في هذا الحقل في المنطقة. يتمتع بفهم عميق لاتجاهات السوق، وديناميكيات الأعمال ومعوقاتها، وتأثير تكنولوجيا الترقيم على تغير النماذج التشغيلية للأعمال، مما يضعه في طليعة المستشارين وخبراء الادارة التي تسعى اليهم المؤسسات والشركات الرئيسية لكفاءته في الجمع بين الشق التطويري والإداري والقيادي لعالم الاعمال. قام بين عامي 2010 و 2013 بإصدار ونشر مجلة The HR Review التي كانت المجلة الوحيدة في مجال الموارد البشرية التي تصدر من العالم العربي وللعالم العربي. وهو أيضاً كاتب ناشط في شؤون الحوكمة، والقيادة، والإدارة والتظيم، والموارد البشرية، وشؤون التنمية الاقتصادية والإقتصاد السياسي. الموقع الإلكتروني: www.charlessaliba.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى