إقتصاددولي

المانيا: الاقتصاد الذي يحب تعذيب النفس

عن فورن بوليسي

رغم كونه الاقتصاد الأقوى في أوروبا ورغم قدرته المؤكدة على وقاية نفسه من خطر السقوط في بئر الركود، إلا أن بعض الخبراء يرون بأنه لا يريد ذلك، فهو في نظرهم اقتصاد مازوشي يستمتع بتلقيه للضربات الموجعة وشعوره بالألم.
في غضون سنوات قليلة، نجحت ألمانيا في تحقيق مكانة رائدة في العالم، فقد أشاد الجميع بها من حيث قدرتها الفائقة على التكيف مع العولمة، وإدارة الموارد الاقتصادية والمالية إلى جانب نظامها السياسي المستقر، إلا أن المخاوف تتزايد يوما بعد يوم من احتمال تضرر الاقتصاد الألماني المعتمد على التصدير في المقام الأول جراء التوترات الاقتصادية العالمية واحتمال تباطؤ الحركة الاقتصادية في الصين، مما يهدد بعودة ألمانيا إلى الحقبة الزمنية المعروفة بـ “رجل أوروبا المريض” والتي عايشت أحداثها على مدار السنوات الأولى من الألفية الجديدة.
ويرى بعض الخبراء بأن الاقتصاد الألماني لم يكن بالكفاءة المطلوبة خلال العشر سنوات الأخيرة كما يزعم البعض، ولازال بإمكان الحكومة الألمانية أن تتغلب على ذلك ولكن يبدو أنها لا ترغب في تجاوز الأمر، فالمؤشرات الحالية لا توحي بنيتها في تحسين الأوضاع وربما يعزو ذلك في الأساس إلى الاعتقاد الراسخ في ألمانيا والذي يعكس الاتجاهات السياسية للحكومة بأن الإنفاق على العجز سيأتي بنتائج عكسية على كلا الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
وقد تمكن الاقتصاد الألماني من تحقيق تفوق ملحوظ على غيره من اقتصادات أوروبا مثل فرنسا والمملكة المتحدة، لكنه لم يكن أفضل حالا من اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى مدار السنوات الماضية اعتمد الاقتصاد الألماني على الصادرات بشكل أساسي ونجحت ألمانيا في تحقيق أكبر فائض تجاري في العالم بحلول عام 2018 بما يقارب 300 مليون دولار.
ولعل تركيز الاقتصاد الألماني بصورة واضحة على التجارة في المقام الأول هو ما يفسر قدرة ألمانيا على تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة وذلك مقارنة بباقي دول العالم، إلا أنه في الوقت نفسه يفسر مدى تراجع الآفاق المستقبلية لاقتصاد ألمانيا إثر وقوع التوترات الاقتصادية الأخيرة حول العالم.
قد تميل ألمانيا في كثير من الأحيان إلى الحديث عن الأرصدة التجارية باعتبارها المعيار الحقيقي للقدرة التنافسية بين الدول، فالدول التي تمكنت من تحقيق فوائض تجارية هي صاحبة الاقتصاد الأقوى عالميا والعكس، وكنوع من الرد على الانتقادات الأمريكية في عام 2017 والتي وجهها الرئيس ترامب إلى المعيار الاقتصادي الذي تعتمده ألمانيا والمستند في الأساس إلى مبدأ حجم الأرصدة، قال وزير الاقتصاد الألماني آنذاك سيجمار غابرييل مازحا :”إن الولايات المتحدة بحاجة إلى صناعة نوع أفضل من السيارات” ويبدو عادة أن رجال الاقتصاد في ألمانيا يميلون إلى التأكيد على أن تحقيق الفوائض التجارية هو نتاج قرارات القطاع الخاص الذي لا يخضع للسيطرة الحكومية.
وكنوع من المقارنة بين كل من الاقتصاد الأمريكي والألماني بالنظر إلى الميزان التجاري في كلا البلدين، فإنه من الملاحظ أن ألمانيا تنتج أكثر مما تستهلك وذلك لأن حجم المدخرات يفوق حجم الاستثمارات في البلاد ولا يرتبط ذلك في الأساس بالطبيعة السكانية فقط، ولكن التنامي الملحوظ لقطاع الشركات والمدخرات الحكومية قد ساعد ألمانيا على تحقيق فائض تجاري منذ عام 2013 وفي المقابل نجد الولايات المتحدة تستهلك أكثر مما تنتج مما يجعل المدخرات غير كافية لتمويل الاستثمارات المحلية، وحقيقة الأمر فإنه لا يمكن اعتبار ذلك دلالة قوية على معدل نجاح الاقتصادين المعنيين، على الأقل إذا كان مفهوم النجاح يشير إلى مستويات الإنتاجية وبالتالي مستويات المعيشة في مقابل القدرة التنافسية السعرية لصادرات أي بلد في الأسواق العالمية.
ولعل السبب الرئيسي وراء ارتفاع المدخرات الألمانية وانخفاض الاستثمارات هو تحول الاقتصاد الألماني من نظام اقتصاد الأسر إلى اقتصاد الشركات، مما يعكس نموا محدودا في قيمة الأجور بالنسبة لأصحاب الدخول البسيطة والمتوسطة والسياسات الضريبية التي أصبحت تميل بطبيعتها إلى قطاع الشركات على حساب الأسر المنتجة، وبحسب التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي، فقد انخفض استهلاك الأسر الألمانية من حوالي 63% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2005 إلى 51% في عام 2018 هذا في الوقت الذي ساعد فيه تحول الاقتصاد إلى نظام الشركات على رفع قدرة الصادرات الألمانية من أجل تحقيق درجة عالية من المنافسة في الأسواق العالمية ولكن ضعف الاستهلاك قد أدى إلى تقويض الحوافز الإستثمارية للشركات.
ومن الشواهد الحالية التي باتت واضحة للعيان، انخفاض الإقبال الخارجي على السلع الألمانية مما أدى إلى حالة من الجمود الاقتصادي في البلاد.
ولكن على أية حال فإن ألمانيا ليست مضطرة إلى العودة إلى الوراء واستعادة وضع رجل أوروبا المريض، فحقيقة الأمر أن التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد حاليا نابع في الأساس عن سياساتها الخاصة وليس الظروف الاقتصادية العالمية فحسب، ويمكن لألمانيا أن تتخذ بعض الإجراءات لزيادة الاستهلاك المحلي وتعويض ضعف الطلب على المنتجات المحلية في الأسواق العالمية، وذلك من خلال خفض الضرائب المفروضة على أصحاب الدخول الضعيفة والمتوسطة وزيادة أجور العاملين في القطاع العام وتنفيذ برنامج شامل للاسثمار في البلاد.
رابط المقال الأصلي: اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى