اجتماع

بؤس الخِطاب التنمَوي المُتجاهل للبحث العلمي

يثار في مسار التنمية تساؤلات متعددة ولعل أهمها ما يتعلق بتحديد أولويات التحديث والتطوير، فهل تعطى الأولوية لقضايا التنمية الإدارية أم الاقتصادية أم السياسية الاجتماعية أم التعليمية والرأي الغالب أنه من الصعب السير بالتنمية في مجال دون المجالات الأخرى نظرا للتكامل بين النظم الاجتماعية المختلفة وفقا لنظرية النظم، فكل نظام يؤثر ويتأثر بغيره، من وجهة نظري المتواضعة أرى ان مخرجات النظام التعليمي والبحث العلمي، تعتبر مدخلات لكل الانظمة الاجتماعية الأخرى. واقع التطوير والتحديث في العالم العربي غير واضح المعالم في طريق التنمية متخبط ومشوش وضبابي، في ضوء الأوضاع والظروف والإمكانات والمحددات الداخلية والخارجية. ومهما اختلفت وجهات النظر في مداخل التنمية وأولوياتها، إلا أن هناك قاسم مشترك يكاد يتفق عليه جميع المعنيين بأمور التطوير والتغيير، ألا وهو تفعيل البحث العلمي وتوظيف نتائجه خدمة لأولويات القضايا الوطنية ، فالبحث العلمي مسئلة مركزية في مسار التنمية الشاملة، فالدروس المستفادة من تجارب الدول المتقدمة تبين أن الفرق هو فرق تقدم نظام التعليم والبحث العلمي، ومؤشرات ” الفجوة الرقمية” تدلل على حجم الهوة بين دول العالم المتقدمة ودول العالم النامي وعلى رأسها العالم العربي. كما أن توظيف تكنولوجيا المعلومات لدعم البحث العلمي، وتوجيه السياسة العلمية وتوطيد الصلة والقنوات المفتوحة بين أصحاب القرار السياسي وأعضاء المجتمع العلمي، سيعظم دور ومسؤولية الجماعة العلمية في مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي خدمة لأغراض تنموية.
باتت ثنائية الفقر والغنى وكأنها من فعل الطبيعة وهي في حقيقة الأمر من صنع الإنسان وتاريخ البشرية ما هو إلا دراما متصلة بين من يملك السلطة والقوة، والعلم والقدرة، ومن حرموا منها أو سلبوا إياها، وتعددت المصطلحات والفقر واحد، حيث يزخر خطاب التنمية الإنسانية بالعديد من المرادفات كالفقر والغنى، التقدم والتخلف ، الشمال والجنوب، المركز والأطراف، ما بعد الصناعي وما قبل الصناعي، ومؤخرا” الفجوة الرقمية بين دول العالم المتقدمة والدول النامية .و ارتبط ظهور الحق في التنمية بظهور مفهوم التنمية وتطوره في سنوات الستينات والسبعينات ، ولعب الفقه القانوني دورا هاما في بلورة هذا الحق ( النويضي،1998) و تنص المادة الأولى من إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاص بالحق في التنمية في شباط 1986 على أن ” الحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف وبموجبه يحق لكل إنسان ولجميع الشعوب المشاركة الإسهام في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية والتمتع بهذه التنمية التي يمكن فيها إعمال جميع حقوق الإنسان والحريات السياسية إعمالا تاما” ( النويضي،1998). والملاحظ أن التركيز في البداية على البعد الجماعي للحق في التنمية كحق من حقوق الشعوب في دول العالم الثالث والدول النامية، (الميداني،2002) وتنص الفقرة الأولى من المادة 11 في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/12/1966 على أن ” تقر الدول الأطراف في هذا العهد، وفي حق الإنسان في تحسين متواصل لظروفه المعيشية. وتتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنقاذ هذا الحق، معترفة بهذا الصدد بالأهمية الأساسية للتعاون الدولي القائم على الارتضاء الحر ”
وتولي الكثير من المنظمات الدولية والإقليمية* بما فيها الاتحاد الأوروبي اهتماما متزايدا مساعدة الدول النامية، ففي إعلان الألفية الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدة كانت الأولوية لمكافحة الفقر والمرض وإشاعة التعليم، و في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أطلق مشروعا للقضاء على الفقر بحلول عام (2015) وغيرها من مبادرات لمساعدات الدول النامية. وتتوالى المشاريع* وفي واقع الحال تظل الأمور على ما هي عليه. وخير شاهد على ذلك ما أسفرت عنه القمة العالمية لمجتمع المعلومات، فقد عجزت أن تقدم حلولا عملية ، أو شبه عملية ، لتضييق الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، وتاهت أمورها المحورية في متاهات الرسمية وتشبث الكبار بعدم المساس -لا من قريب أو من بعيد- بمصالحهم الفردية . وها هي الدول المتقدمة تناقض ما تبديه من حماس ظاهري، برفضها القاطع لأي خطوات عملية للمساهمة الفعلية في تمويل مشاريع التنمية المعلوماتية في الدول النامية ( نبيل وحجازي،2005).
ويجد المتتبع لتاريخ التقدم البشري أن الدول المتقدمة قفزت قفزة أشبه بالطفرة في مجال العلوم الأساسية فأحدثت أثراً تكنولوجياً في المجالات الإنسانية والاجتماعية والعلمية حيث حسنت مستوى معيشة البشرية وقدمت وسائل للسعادة والرفاهية وعالجت جوانب المعاناة من خلال ما قدمته من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والزراعة والغذاء والدواء وغيرها وكل ذلك بسبب إنتاجية منظومة البحث العلمي في مختلف المجالات. فالولايات المتحدة الأمريكية أخذت على عاتقها ومنذ نشأتها مسؤولية تطوير العلوم والتكنولوجيا من حيث انتهى إليهما العالم الذي سبقها في الوجود ولا سيما ما قدمته أوروبا والحضارة الإسلامية وغيرها. وعلى مستوى السياسات نص الدستور الأمريكي بشكل واضح على تطوير العلوم والتكنولوجيا، وقد أنشأت لهذا الغرض مكتباً خاصاً يرتبط مباشرة برئيس الولايات المتحدة وهيأت السياسات والاستراتيجيات والمناهج والبرامج العلمية، إضافة إلى الأساليب البحثية واستقطبت العقول والكفاءات المهاجرة من كل أنحاء العالم كما أنشئت مؤسسات ووكالات متخصصة ومخولة للارتقاء بالعلوم الأساسية والتطبيقية وتطوير التعليم والبحث إضافة إلى عمليات التمويل.(نايفة،2002).هذا وقد حذت دول أخرى في العالم المعاصر حذو الولايات المتحدة الأمريكية، كاليابان وبريطانيا وفرنسا، واعتمدت السياسات والاستراتيجيات والأساليب نفسها مع بعض الخصوصية، فكانت لها التطلعات والطموحات ذاتها، وأنجزت تقدماً علمياً وتكنولوجياً ماثلاً للعيان، فمثلاً انشأ في بريطانيا مكتب يعنى بالعلوم والتكنولوجيا وحددت له أهداف ومهماته ومكتب أخر مماثل له في اليابان بغية إحراز التقدم العلمي وفق متطلبات العصر.
وفي دول العالم الثالث هناك تجارب ناجحة ايضا مثل دول جنوب شرق اسيا ( تايوان، كوريا الجنوبية، سنغافورة، اندونيسيا، ماليزيا، الصين، هونج كونج) اذ استطاعت هذه الدول اللاقطة للإبداعات الاستفادة من التقدم العلمي الذي احرزته الولايات المتحدة. فماليزيا على سبيل المثال حققت طفرة تكنولوجية واضحة يمكن تلمس نتائجها في تحولها من دولة منتجة للتكنولوجيا خلال عقدين من الزمن فقط، وهو ما يتمثل في انتاج وتصدير نموذجين للسيارات (بيرنون وبيردوا)، كما يتمثل ذلك في دخول ماليزيا الفضاء الخارجي في اطار مشروع برنامج “القمر الصناعي الصغير” الذي اطلق بالفعل Measa 1) ) و Measat 11) ) عام 1955 بالتعاون مع الهند. بدأت ماليزيا ، إن التطور الماليزي تطلب اتباع سياسة الاعتماد على العلم والتكنولوجيا والاهتمام بالبحث والتطوير وإعطاء الأولوية لسياسة “البحث العلمي من أجل التطوير” من خلال تخصيص جزء متزايد من الناتج القومي لتلك السياسة، كذلك تطلب الأمر الاهتمام بالتعليم من أجل توفير العمالة الماهرة القادرة على استيعاب وتطوير التكنولوجيا. وقد أدرك مهاتير منذ أن أصبح رئيسا لماليزيا أن الاهتمام بالبعد الثقافي بما يحمله من قيم سائدة في المجتمع يؤثر في التعامل مع التكنولوجيا، فحيث تسود قيم التواكل والسلبية والاعتمادية والاهتمام بالمظاهر التراثية للدين وإهمال الدعوة للعلم والمعرفة ،يصبح الحديث عن العلم امرأ عبثياً، وعليه خصص كتاب عام 1970 حرص فيه على التاكيد بأن الاسلام لا يتعارض مع الاهتمام بالعلوم الحديثة بل أنه يحض المسلمين على طلب العلم والمعرفة من جميع مصادرهما. وفي افتتاحه لمؤتمر الاسلام والتكنولوجيا الذي عقد في كوالالمبور 1987 قال مهاتير: ” انني مقتنع أنه لكي يكون المسلمون شريكاً فعالاً في المجتمع الدولي المعاصر ولكي يقدموا خدمة الى الجنس البشري فانه ينبغي أن يصمموا على الحصول على المعرفة والتكنولوجيا الحديثة” (سليم، 2002).
وبشكل عام يمكن القول أن التقدم الذي وصلت إليه الدول لم يأتي من فراغ ، وأن ما يميز الدول المتقدمة عن غيرها من الدول النامية أنها أدركت_ وفي مراحل مبكرة _ أهمية البحث العلمي ،وأهمية توظيف ما ينتج عنه من معرفة منظمة في إنتاج التكنولوجيا التي كان لها الأثر الكبير في تحقيق تنمية المجتمعات .
أما الدروس المستفادة من تجارب الدول المتقدمة في مجال العلم والتكنولوجيا هي:
1 _ مركزية العلم والتكنولوجيا لتحقيق التنمية.
2_الالتزام القومي بعملية التكنولوجيا، بمعنى أن يكون لأصحاب القرار تصور والتزام محدد ينعكسان على شكل خطة قومية يرتبط فيها الدور القيادي للدولة في البناء .
3_ صياغة سياسة علمية واضحة ومحددة بأولويات البحث العلمي من أجل توفير التكنولوجيا الملائمة (قابلة للتسويق) بدلاً من التكنولوجيا المتقدمة.
4_ التحول التدريجي من مرحلة نقل التكنولوجيا واستيرادها إلى ابتكار وإنتاج التكنولوجيا في إطار مؤسسي وتخطيطي أوسع يقوم على المشاركة بين مختلف قطاعات الدولة.
5_ رسم سياسة علمية تعليمية فعّالة تقوم على الارتقاء بمستوى التعليم والبحث العلمي .
6 _الاهتمام بتوجيه منظومة القيم الثقافية وتوجيهها نحو البحث والتطوير
7_توفير البينة التحتية والتخصص التكنولوجي.

د. صفاء الشويحات، بروفسور مشارك في الجامعة الالمانية الاردنية وباحثة تربوية

دكتور صفاء شويحات بروفسور مشارك في اصول التربية. عضو هيئة تدريس في الجامعة الالمانية الاردنية، ومستشار التطوير التربوي لوزارة التربية والتعليم الاردنية ٢٠١٩. مستشار الخطة الاستراتيجية للشباب الاردني، ومستشار قطاع العلوم الاجتماعية والانسانية في المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا. حاصلة على الزمالة الامريكية في التعليم المدني 2010، ولديها العديد من المقالات والمؤلفات والدراسات العلمية المنشورة في دوريات علمية محكمة. حاصلة على درع عضو هيئة التدريس المتميز عن اعدادها لأول مساق تعليم إلكتروني مدمج في الجامعات العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى