الشرق الاوسطقراءات معمقة

تركيا تلعب اكثر العابها خطورة في شرق المتوسط

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

هل تخطط تركيا لاستعادة سيادتها العثمانية على المتوسط؟

يبدو أن تركيا لا تنسى أبدا أمجادها العثمانية البائدة، ويتجلى ذلك حاليا في محاولاتها وجهودها البارزة للسيطرة على مصادر الطاقة في البحر المتوسط. فقد عمد الرئيس التركي مؤخرا إلى إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق في ليبيا. ورغم ما ينطوي عليه الأمر من مخاطرة لوجيستية عالمية، إلا أنها تعكس مدى حرص الدولة الآسيوأوروبية على استعادة نفوذها الإقليمي الذي فقدته منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية منذ أكثر من قرن.
اللحاق بالركب قبل فوات الأوان
ولم يكد يستفيق العالم من اخبار العمليات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا والمعروفة إعلاميا بـ (نبع السلام) حيث أرادت أنقرة إنشاء منطقة عازلة لها على حدودها الجنوبية، حتى أطل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معلنا عن خطته الجديدة والتي سعى إلى تنفيذها عبر حليف إقليمي جديد.
في الواقع هناك دوافع عديدة تقف وراء رغبة تركيا في استعادة نفوذها في البحر المتوسط، حيث حرمت انقرة منذ سنوات من الاستفادة من مصادر الطاقة المتمثلة في الحقول البحرية للنفط والغاز الطبيعي الموجودة في شرق المتوسط، والتي يتوافر بها حيث يوجد بها حوالي 3.5 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي و 1.7 مليار برميل من النفط الخام. هذا في الوقت الذي كانت فيه كل من مصر وإسرائيل وقبرص واليونان أسبق منها إلى ذلك.
فمنذ أن نجحت اسرائيل في الكشف عن حقلين للغاز الطبيعي في عام 1999 حرصت حكومتها وكذلك حكومات كل من مصر وقبرص واليونان على توقيع الاتفاقيات التي تتضمن إنشاء المناطق الاقتصادية وفتح باب الاستثمارات لصالح الشركات متعددة الجنسيات. الأمر الذي يمكّن تلك البلدان ليس فقط من الاستفادة مالياً من تلك الاكتشافات ولكن أيضًا تعزيز مكانتها واستقلالها في مجال الطاقة.
لقد بذلت تركيا قصارى جهدها على مدار العقد الماضي من أجل الكشف عن مصادر جديدة للطاقة بطول سواحلها الممتدة على البحر المتوسط. فقد تكلفت عمليات النسح والتنقيب أكثر من مليار دولار ولكن دون جدوى. وهنا ادركت أنقرة أن المناطق الساحلية التابعة لها خالية من مصادر الطاقة.
وفي ظل الحاجة المتزايدة للاعتماد على مصادر الطاقة وتحقيق الاستقلال والاكتفاء الذاتي، بدأت تركيا في التوجه نحو السواحل الموازية لبعض جيرانها مثل اليونان وجزيرة قبرص اليونانية، واللتان زعمتا حينئذ بأن تركيا تقوم بانتهاك بعض المناطق البحرية الاقتصادية ذات السيادة.
وبالطبع فإن الدول المجاورة لتركيا تدرك جيدا بأن الأمر لا يتعلق فقط بالحصول على الوقود الأحفوري. فاليونان مثلا لا تستبعد ظهور عدو جديد لها، والتاريخ التركي ملئ بالمزاعم والمناورات مثل قضية بحر إيجة وقبرص وبعض الجزر اليونانية الأخرى. وفضلا عن ذلك فإن تركيا في حد ذاتها ليست طرفا في الاتفاقيات البحرية الكبرى ، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار الدولية، وبالتالي فليس مخول لها إعادة تحديد المناطق الاقتصادية والمياه الإقليمية في المنطقة.
وقد حرصت اليونان مؤخرا على صياغة استراتيجية مشتركة مع القوى المتوسطية الأخرى للإطاحة بتركيا بعيدا عن المناطق الاقتصادية ذات السيادة وأطر العمل المشتركة بين شركاء المتوسط.
والمثال الأقرب إلى ذلك هو مشروع خط أنابيب شرق المتوسط EastMed وهو خط أنابيب للغاز الطبيعي تحت الماء بقيمة 7.36 مليار دولار والذي سيعمل على نقل الغاز من الحقول الإسرائيلية والقبرصية عبر قبرص واليونان إلى محطات الربط الداخلي في إيطاليا، ويساعد EastMed على جذب الاستثمارات من خلال توقيع عقود تصدير الغاز مع مختلف الدول في ظل الاعتماد المتزايد على مصادر الطاقة.
فعلى الرغم من تقاطع هذا المشروع مع المياه التركية، إلا أن حكومات البحر المتوسط عمدت إلى استبعاد أنقرة من الاتفاقيات المشتركة بوصفها منافسا غير مرحب به، حتى بعد أن عرضت أنقرة السماح بمد خط النفط عبر الأراضي التركية بدلا من تكلفة الإنشاءات تحت الماء (وهو الأمر الذي تسعى تركيا من خلاله إلى زيادة نفوذها في مسألة نقل الغاز والاستفادة من تصديره).
وعلاوة على ذلك فقد عمدت كل من مصر وإسرائيل وفلسطين والأردن واليونان إلى استبعاد تركيا من منتدى شرق البحر المتوسط للغاز الطبيعي، وهو برنامج تعاوني للحوار حول الموارد الطبيعية. وبناء على ذلك فقد قامت تركيا بتصميم استراتيجية مضادة للوصول إلى مستوى منافسيها كقوة متوسطية ، وحرصت على اتخاذ خطوات جادة بشكل متزايد لاسترداد نفوذها فيما تعتبره “منطقة تاريخية وشرعية”.
الاتفاق التركي الليبي
في السابع والعشرين من نوفمبر الماضي، التقى كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا فايز سراج. وقد أسفر اللقاء عن الخروج بمذكرتين للتعاون المشترك، إحداهما في المجال الأمني والعسكري، والأخرى تتعلق بالحدود والأملاك البحرية.
وقد حظيت حكومة الوفاق بدعم تركيا منذ سنوات. ولكن هذا الدعم لم يأتي من فراغ، فقد حرصت أنقرة على تعزيز مكانتها داخل ليبيا لسببين؛ أولاً السيطرة على المقدرات النفطية، والتي تعد الأكبر في إفريقيا. وثانيا تشكيل جبهة مضادة في وجه الدول الداعمة لقوات حفتر والجيش الوطني الليبي مثل مصر والسعودية وروسيا. وبالتالي فإن الاتفاقية البحرية بين تركيا وليبيا ليست مفاجئة.
قامت أنقرة على مدار سنوات بتزويد قوات السراج بالمعدات العسكرية والموارد المالية اللازمة لمواجهة قوات حفتر في شرق ليبيا، وتعتبر الاتفاقية البحرية بين الجانبين بمثابة مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الثنائية. حيث تهدف إلى إنشاء مناطق بحرية جديدة ذات سيادة.
وقد أشارت الحكومة التركية إلى أن الاتفاق الجديد سوف يتيح فرصا عظيمة للدولتين للاستثمار في مجال النفط والغاز الطبيعي قبالة السواحل الليبية وبخاصة أنشطة التنقيب عن المواد الهيدروكربونية والتي من شأنها إعادة المجد للاقتصاد الليبي مجددا بعد سنوات من الحرب الأهلية. كما تضمن الاتفاق إنشاء قاعدة تركية في غرب ليبيا للمحافظة على الأمن والسلم في المنطقة.
وبعد فترة وجيزة من إبرام الصفقة الجديدة، قام مسئول دبلوماسي في الحكومة التركية بنشر خريطة عبر حسابه في تويتر تتضمن التوصيف الجديد للمنطقة الاقتصادية الخالصة لأنقرة والتي اشتملت على زيادة بنسبة 30% في ضوء الاتفاقية الجديدة. وتتقاطع تلك المنطقة- المرسومة على الورق- مع المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان من خلال جزيرة كريت. وإذا تم تنفيذ بنود الصفقة فعليًا، فسوف يتم تقويض أي محاولة يونانية لصياغة اتفاقات ترسيم الحدود الخاصة بها مع مصر وإسرائيل وقبرص. كما تحاول الصفقة تقويض خط أنابيب EastMed والذي يتجاهل العمق الاستراتيجي لتركيا ويحرمها حق الانتفاع بمبيعات التصدير، رغم كونه يمر داخل المياه الإقليمية التركية.
وسوف يمكن الاتفاق البحري الجديد تركيا من السيطرة على المناطق التي يمر بها خط أنابيب EastMed بصورة قد تضر بمصالح أصحابه في الأساس.
والأهم من ذلك، أن الاتفاق الجديد سوف يمنح تركيا عمقا استراتيجيا أكبر، ليمتد من شمال إفريقيا إلى بحر إيجة وخليج أنطاليا، كما أنه يعد بمثابة ردا حاسما على خصوم تركيا الذين يعارضون كافة جهودها الرامية إلى محاولة إعادة ترسيم حدودها البحرية.
لقد أدركت تركيا قبل إقدامها على تلك المغامرة بأنها لن تتمكن من التغلب على خصومها والخروج من عزلتها بمفردها. وعليه فقد استعانت بشريكين؛ وهما الجمهورية التركية لشمال قبرص والحكومة الوطنية الليبية. وربما اتجهت تركيا نحو هذين الحليفين الضعيفين كي تتمكن من إحكام قبضتها عليهما.
وقد ناضلت حكومة الوفاق في سبيل السيطرة على القطاعات الاقتصادية الرئيسية بالبلاد والقضاء على الميليشيات التي تهدد الأمن العام. إلا أن الموقف الأمريكي المتذبذب إزاء دعم السراج ومؤشرات عن نوايا بتقديم الدعم لحفتر يشكل تهديدا كبيرا على كيان تلك الحكومة الوطنية.
لقد أبرمت تركيا هذه الصفقة مصحوبة بكم هائل من الوعود الأمنية مما يتيح لها حرية ممارسة عمليات الحفر والتنقيب بطول السواحل الليبية والتواجد المكثف في الموانئ الليبية. وهنا تبرز النقطة الأكثر خطورة في هذا الملف، فالجدير بالذكر ان المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تم ترسيمها لا تخضع لسيطرة الجيش الوطني مما يشكل تحديا لوجيستيا كبيرا بالنسبة لأنقرة.
وقد يؤدي هذا الموقف إلى تفاقم الحرب الأهلية، وهنا ستسعى تركيا بالطبع إلى تسليح حكومة الوفاق في الوقت الذي ستقوم فيه كل من مصر والسعودية بتقديم المزيد من الدعم العسكري لقوات الجيش الوطني الليبي.
ومن ناحية اخرى، تستند الاستراتيجة التركية إلى مبدأ إحياء المجد العثماني من جديد، فقد بدأ المسئولون الأتراك مؤخرا في تداول مصطلح (الوطن الأزرق) والذي يشير إلى استعادة تركيا لنفوذها السابقة في المتوسط. ويتضمن هذا المفهوم التركي الجديد مزاعم بأن الساحل الشرقي لكريت ونصف بحر إيجة – ما يقرب من 18000 ميل مربع – ينتمون إلى تركيا.
وقد حظي هذا المفهوم الوطني بتأييد واسع داخل اروقة حزب العدالة والتنمية حيث يحمل في طياته الحديث عن القوة الجيوسياسية للإمبراطورية العثمانية القديمة. والواقع أن أنقرة نفسها تدرك جيدا بأن مثل تلك المفاهيم تنتهك السيادة اليونانية ولكنها تضفي لنفسها الشرعية في ذلك من منظور نفسي بحت يستند إلى رغبتها في استعادة الماضي العثماني القديم.
وقد أثار الاتفاق الليبي التركي غضبا واسعا بين شركاء البحر المتوسط، حيث قاموا جميعا بتوجيه الاتهامات الصريحة إلى تركيا بانتهاك اتفاقية قانون البحار والتعدي على بعض المناطق الاقتصادية ذات السيادة. وقد أثيرت التساؤلات حول مدى أهلية حكومة الوفاق لعقد الصفقة في المقام الأول ، لأن سراج ليس لديه السلطة القانونية للتوقيع على أي اتفاق خارج نطاق واختصاص اتفاق الصخيرات الذي توسطت فيه الأمم المتحدة والذي أنشأ الحكومة الحالية.
وكنتيجة فورية للمغامرة التركية، قامت اليونان بمناشدة كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لمساعدتها في حل الأزمة الحالية والتصدي للموقف التركي. وحرصت في الوقت نفسه على تسريع وتيرة اتفاقيات ترسيم المناطق الاقتصادية مع مصر. كما قامت قبرص باللجوء إلى محكمة العدل الدولية لمساعدتها في الحفاظ على مواردها الطبيعية.
ويمكن القول بأن الاستراتيجية التركية في شرق البحر المتوسط تهدف في الأساس إلى تحويل دفة التوازن مع القوى الإقليمية وإبراز حقيقة جديدة أمام العالم تتعلق بالتأثير التركي والحقوق السيادية في المنطقة. الأمر الذي يتماشي تمامًا مع طموح تركيا الأوسع في تطوير سياسة خارجية أكثر جرأة وأكثر وضوحًا وتحقيق الاكتفاء الذاتي. لقد نجحت أنقرة في إقرار تلك السياسة في كل من البلقان وآسيا الوسطى والشام والقوقاز ، لكن شرق البحر المتوسط سيظل هو المكان الذي تلعب فيه تركيا أكثر ألعابها خطورة.
رابط المقال اضغط هنا

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

قد يعجبك ايضاً

http://box5852.temp.domains/~iepcalmy/strategicfile/ملفات-دولية/ماذا-يريد-القيصر؟-روسيا-تسطع-مجدداً-في/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى