إقتصاد

لبنان: نقود جديدة لتمويل العجز والانهيار النقدي معاًI زياد فرام

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

سيناريو التّاريخ، وكُتلة تَمويل الإنهِيار

يُسجِّل التَّاريخ أنَّه في خِضَمّ الحرب العالميّة الأولى أقدمت السَّلطنة العثمانيّة على تبديل العملة الذهبيّة ” العثملّي” بالورقيّة، ضرورة تمويل دخولها الحرب والتسلُّح. كانت الليرة العثمانية (الذهبيّة) تساوي مئة واثنين وستين قرشًا، ولكن بسبب المبالغ الطائلة التي أنفقتها على الحرب، وكثرة كميات النقد الورقي التي ضختها في الأسواق، هبطت قيمة هذه العملة بالنسبة للنقد الذهبي والفضي، هبوطًا كبيرًا، إلا أنَّ حكومة السَّلطنة كانت تصرّ على اعتبار الليرة الورقيّة مساوية للذهبيّة، فأجبرت الناس على قبضها والتعامل بها..
على صعيد آخر، كانت الدولة العثمانيّة قد أصدرت، منذ 7 تموز 1914، مرسوماً بتأجيل دفع الديون، وتعليق دفع السّندات، وحظّرت سحب المودعات منها لمدة شهر، ثم اضطرّت إلى تكرار ذلك مرّات عديدة كان آخرها أواخر العام 1917 ولم تسمح بأن يدفع للدائنين إلا نسبة ضئيلة من ديونهم في كل تأجيل.. وبدلاً من أن يخفِّض الأغنياء فوائد ديونهم رحمةً بالفقراء المتكاثرين، فقد رفعوا الفائدة إلى 70  و 100% ما اضطرَّهم لبيع بيوتهم وأملاكهم لقاء مبالغ ضئيلة وحتى بالتقسيط، وارتفعت أسعار المؤن بشكل كبير حينها إلى أن بلغت قيمة الليرة الذهبيّة ثلاثة أضعاف تلك الورقيّة..

بالرغم من فشل الإدارة العثمانية في إقناع السكان بضرورة الاعتراف بقيمة الورق التركي، بقي الذهب أساس التعامل النقدي في لبنان طوال فترة الحرب العالمية الأولى حتى دخوله مرحلة الانتداب الفرنسي منذ 1920 حتى 1943.
ويسجَّل بأنه كان قد تأسس في العام 1919 مصرف سوريا ولبنان الذي خلف البنك الامبراطوري العثماني وبلغ رصيده المالي عشرة ملايين فرنك كرأسمال..
لقد إعتمد الانتداب الفرنسي سياسة الباب المفتوح في التجارة بقصد تمكين الشركات الفرنسية المدعومة من المفوض السّامي، السيطرة على السّوق الداخليّة وإرضاء الولايات المتحدة تطبيقا لصكّ الإنتداب على سوريا ولبنان إذ هدفت سياسة فرنسا الانتدابية للإفراج عن الذهب المدّخر في الداخل واجتذاب أموال اللبنانيين المغتربين المودعة في الخارج خاصّة في مصر إبّان تلك الحقبة من الحرب العالمية التي يذكر خلالها أنه كان مجلس ادارة الدين العمومي العثماني قد نقل متوجّبات السّلطنة على الدّويلات التي نشأت منها منذ 6 تشرين الثاني 1924 بعد أن وزّعت ” اتفاقية لوزان ، 24/7/1923 نصيب سوريا ولبنان من هذا الدّين كبلاد واقعة تحت الانتداب الفرنسي فتحمّل لبنان الكبير نسبة 47 بالمئة من الدين المتوجب على سوريا ولبنان ليكتب على لبنان عبء تحمل الدّيون منذ ما قبل نشأة الجمهوريّة..!!

هذا ما حصل منذ مئة عامٍ، فهل إنّ سيناريو التاريخ يعيد نفسه..؟

مع دخول حقبة تأسيس الجمهوريّة الأولى و بتاريخ 5 آذار سنة 1947 صدر المرسوم الجمهوري رقم 8366/K وقد أجاز للحكومة اللبنانيّة الإنضمام الى كل من اتفاقيتي صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي لاعادة العمران والانماء الاقتصادي الموقع عليهما في ” بريتن وودز ” بتاريخ 22 تموز سنة 1944 والموافقة على احكام قراري كل من مجلس حكام صندوق النقد الدولي ومجلس حكام المصرف الدولي الصادرين في 2 و3 تشرين الاول سنة 1946..
وفي شهر نيسان من سنة 1947 تم قبول انضمام لبنان لصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي حيث بلغت حصة اكتتاب الجمهورية اللبنانيّة لقاء انضمامها اربعة ملايين ونصف مليون دولاراً أميركياً على أن يدفع واحد في الماية من حصته ذهباً او دولارات الولايات المتحدة..

وعلى هذا الأساس فإنّ امتلاك لبنان للذهب يعود للعام 1948 وكان ذلك بمقدار 1.5 طن بعد انضمامه إلى صندوق النقد الدولي والاعتراف بالليرة اللبنانية كعملة مستقلة وفك ارتباطها بالفرنك الفرنسي، وحدّدت
آنذاك قيمتها بما يوازي 0.455 ملغ من الذهب، وسعر صرفها تجاه الدولار بـ 2.20 ليرة. إلى أن زادت الحكومات المتعاقبة احتياطات المصرف المركزي واستحواذ الذهب، بخاصة بعد صدور قانون النقد والتسليف وانشاء المصرف المركزي المنفذ بالمرسوم رقم 13513 تاريخ الأول من آب 1963
حيث تحددت قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص وقد فرض على مصرف لبنان ان يبقي في موجوداته أموالا من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي (30 بالمئة) ثلاثين بالمئة على الاقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب، على أن لا تقل نسبة الذهب والعملات المذكورة عن (50 بالمئة) خمسين بالمئة من قيمة النقد المصدر.
وفي هذا السياق تقيَّم موجودات المصرف المركزي من ذهب وعملات أجنبية في محاسبته بما يوازي قيمتها بالسعر القانوني لليرة اللبنانية.
حدد قانون النقد والتسليف مهمة المصرف المركزي العامة بإصدار النقد ولكن شرط المحافظة على هذا النَّقد لتأمين أساس نموّ اقتصادي واجتماعي دائم وتتضمن مهمة المصرف بشكل خاص:
– المحافظة على سلامة النقد اللبناني.
– المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
– المحافظة على سلامة اوضاع النظام المصرفي.
– تطوير السوق النقدية والمالية.
وقد فرض آنذاك سعر انتقالي قانوني لكلّ ليرة لبنانية، بالنسبة للدولار الاميركي المحدد بـ 0،888681 غرام ذهب خالص كسعر قطع حقيقي اقرب ما يكون من سعر السوق الحرة حيث يقيّد عنصر الذهب في تغطية الاوراق النقدية المصدرة من قبل مؤسسة الاصدار الحالية على اساس “السعر الانتقالي القانوني”.

إذن فإنّ إصدار الأوراق النقديّة الوطنيّة ( الليرة اللبنانيّة)، يفترض أن يكون ذي غطاء ذهبي وعملات أجنبيّة وسندات وغيرها وذلك ضرورة حفاظ البنك المركزي على قيمةٍ و قوةٍ شرائيَّة و سعر صرف معيَّنين..
زادت الحكومات المتعاقبة احتياطات المصرف المركزي واستحواذ الذهب بعد صدور قانون النقد إلى أن صار لبنان متربعاً بين الدول العشرين الأول في العالم بنسبة إحتياطي الذهب، ليملك نحو 268 طن بقيمة تقارب الـ 13 مليار دولار بالأسعار الحاليّة، وفي العام عام 1986 صدر قانون رقم 42 منع التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه، بصورة استثنائية، مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته..

لكن إنهيار سعر صرف الليرة تجاه العملات الأجنبية بين عامي 1984 و 1992 قد أثبت أنَّ التغطية الذهبيّة لا تعدّ كافية بذاتها لحماية قيمة النقد، بل على العكس تبيَّن أنَّ الدور الأساس يلعبه حجم الإحتياطات الخارجيّة السائلة من العملات الأجنبيّة.
خلال تلك الأزمة إنخفض مخزون الإحتياطات الأجنبية إلى حدود نصف مليار دولار، بما أدى إلى خسارة الليرة اللبنانية لـ 99 بالمئة من قيمتها تجاه الدولار الأميركي.

لقد كان المصرف المركزي مكلَّفاً بتمويل إنفاق الدّولة وضخّ كتل مُتناميَة من القاعدة النقديّة بالليرة اللبنانيّة، كانت، تزيد من تمويل الطلب في بلدٍ فقد قاعدته الإنتاجيّة وفقد مع الوقت ثقته بتلك العملة التي كانت يوماً أيقونة عملات الشرق الأوسط..

ماذا عن الأزمة الحاليّة..؟

إنَّ دخول القطاع النّقدي اللبناني بأزمة سيولة، سببت أزمة الثقة وسوء الإدارة، ومرّةً أخرى تورَّط المصرف المركزي في اللعبة الإقتصاديّة، وتأمين سيولة للقطاع العام فوقع بين مطرقة السّلطة السياسيّة المتطلّبة وسندان القطاع المصرفي المحتكر للتمويل، ما اضطره لتركيب هندسات ماليّة أغوت المودعين بالحصول على فوائد مرتفعة مقابل تجميد أرصدتهم بالعملة الوطنيّة، لكنها لم تستطع الصمود عالياً فسرعان ما انهارت فوق رؤوس هؤلاء.. وأقبعت الحكومة في عجز كلي عن أداء التزاماتها سيما دفع رواتب موظفي القطاع العام هذا من جهة، ومن أخرى ازدياد ديون المصارف التجارية لزبائنها، كما وديون الخزينة اللبنانية.. ما أحوجه أمام عجزه المطبق، للطلب على المزيد من السّيولة الورقيّة، ولكن..!!

هل لجوء البنك المركزي اللبناني لطباعة كميات من العملة الوطنيّة الورقيّة، قدِّرت حسب الأوساط المتابعة بـ 13 تريليون ليرة أي تسعة أطنان، هو إجراء إنقاذي..؟ ، أم يعيد السيناريو التاريخي الذي تخطّى فكرة الطّباعة التضخّميّة للعملة الورقيّة ليتعداها إلى انطباع سيِّء الذِّكر حُفر في وجدان الأجيال ..!؟

في ظلّ تراجع مداخيل الدّولة وبقاء نفقاتها على حالها وانسداد أفق تمويل العجز الناتج عن ذلك من السّوق المالي المحلّي أو الأجنبي ، يُخشى أن تكون هذه الكتلة النقديّة الجديدة معرَّضة للتسرُّب للأسواق لتمويل هذا العجز بديلاً عن تمويل الأسواق..بما يُخشَى أن يتسبب بحالة من التضخم الجامح أو ما يسمّى hyperinflation  كمعبِّر عن إنهيار القوّة الشرائيّة. ويتوقف شكل إنعكاس ذلك على سعر صرف اللّيرة اللبنانيّة على استمرار سياسة السُّوقَين أو التحرير الكامل لسعر الصّرف تجاه العملات الصّعبة وبخاصة تجاه الدولار الأميركي في الأسواق المحليّة.. وفي كلا الحالتين يُخشى من الجُموح نحو الإنهيار النقدي المؤسَّس على التمويل بالعجز.

حينما تَكون ميزانيّة الدّولة بحالة عجز، فالحلّ الأسهل والأخطر أيضاً للتخلص من ذلك العجز، يكون بطباعة كميّة نقدٍ تمثِّل قيمته (العجز)، وضخّها في الإقتصاد فذلك يُحدِث تضخماً بسبب ارتفاع العرض أي زيادة كميّة المتاح ليصبح بمتناول الناس المزيد من كميّات النقد، لكن ليس بذات القيمة السَّابقة..

قَد يُعيد التَّاريخ تَكرار ذات السيناريو وإن بظروفٍ مُختلفةٍ.. فَهلّ للعقولِ مخطَّطاتٍ هادفةٍ، أم أنَّ للأقدارِ الكلِمَة الفصل..!؟

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

اقرأ أيضا للكاتب
http://box5852.temp.domains/~iepcalmy/strategicfile/دراسات/ارباحُ-الهندسات-الماليّة-كسبٌ-غيرُ-مش/

المحامي زياد فرام، كاتب وباحث

المحامي زياد قزحيّا فرام ـ محامٍ بالإستئناف لدى نقابة المحامين في بيروت ولدى المحاكم الروحيّة والكنسيّة، حائز دبلوم في القانون الخاصّ، باحث في المجال الحقوقي والإقتصاد السّياسي. كاتب في مواقع قانونيّة واقتصاديّة متخصّصة. حازت مقالاته على اختيارات غوغل للأكثر قراءة مرّات عدّة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى