ازمة لبنانقراءات معمقة

مقاطعجيون جدد في ظل تحلّل مسؤولية الدولة

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

كأن المواطن بات أمام مشهد جديد كلياً اسمه تخصيص السياسات عبر التلزيم! لا يدعو التفلت الحاصل في لبنان الاّ إلى الصدمة من سلوكيات لم يكن من الممكن توقعها من اي هيكل سياسي عام في الألفية الثالثة. التلزيم الخبيث هو عنوان كل شئ هنا بعد انتفاضة الشعب اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول المنقضي.

لبنان اساساً لديه نظام إدارة سياسية قائم على التلزيم، حيث تلزم الدولة الشعب لزعماء الطوائف، وضمناً تلزم معه السيطرة على القطاع العام من خلال التوظيف بالمحاباة والزبائنية السياسية؛ وقد اتسع هذا التلزيم ليشمل كل مفاصل أنشطة القطاع العام وباتت المحاصصة وتوزيع مغانم الدولة جزء من تشكيل الوعي القانوني والمؤسساتي عوضاً وبالضدّ من شفافية وعدالة القوانين.

والتلزيم كلمة كانت معروفة في حقبة استتباع لبنان للسلطنة العثمانية حيث كان “التوب كابي” يلزم المناطق للمقاطعجيين في مقابل الولاء والمال.

لذلك تبدو المقاربة المقاطعجية لسلوك الدولة معبرة عن التطور المركّب واللامتساوي (بحسب تعبير سمير أمين عن الدول العالم ثالثية)، وهي مقاربة دُفعت إلى أقصاها بعد الانتفاضة الأخيرة.

لقد نزعت الدولة إلى التحلّل من كل مسؤولية اقتصادية أو اجتماعية أو مسؤولية فرض القانون بما يحمي المسؤوليتين المذكورتين.

عندها بدأت عمليات تلزيم واسعة إلى مقاطعجيون من طينة جديدة. لُزّم قانون العمل لارباب العمل الذين قرّورا في حقوق موظّفيهم وفي أجورهم وتعويضاتهم دون أي مقاربة قانونية ودون مرجعية من اي نوعٍ كانت.

لكن التلزيم لارباب العمل يتحول إلى “شيطانٍ اصغر” حين ننظر إلى تلزيم الأرزاق. وارباب العمل رغم كونهم اقل وجعاً من موظفيهم فهم ايضاً قد تم تلزيمهم.

لقد تم تلزيم ارزاق الناس، فقراء وميسورين، عمالاً وارباب عمل، إلى مقاطعجي كبير اسمه “جمعية الأمر بالمصروف” أفتت في مداخيل وثروات الناس النقدية فحدّدت أنظمة جديدة كلياً على البيئة النقدية اللبنانية خارج اي تشريع او قانون.

المقاطعجية ايضاً فعلت فعلها في سوق القطع، الذي لُزّم للصرافين في كل ما يتجاوز القمح والدواء والمحروقات.

مقاطعجيون اصغر يرفعون الاسعار بلا حسيب أو رقيب، تتفتح شهايا الربح على مصراعيها. كلّ يريد تعظيم ارباحهُ وثرواته في لحظة الانزلاق نحو الفقر دون حسيبٍ او رقيب.

كأن المواطن بات أمام مشهد جديد كلياً اسمه تخصيص السياسات عبر التلزيم: سياسة سوق العمل وسياسة النقد وسياسة سوق القطع وسياسة ضبط الاسعار والربح الاحتكاري.

تلزيم السياسات هو أعلى مراحل المقاطعجية الذي يعتبر بدوره أغرب أشكال الخصخصة.

يقول التاريخ ان المقاطعجيون قد انقلبوا على السلطنة نفسها وبدّوا مصالحهم الخاصة، وتلك كانت سلطنة لا دولة ضعيفة قامت ركائزها بالمجمل على التلزيم.

نُشر صباح ٧ – ١٢ – ٢٠١٩ في الجمهورية

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

البروفسور بيار بولس الخوري ناشر الموقع

اكاديمي وباحث، خبير في الاقتصاد والاقتصاد السياسي، يعمل حاليا مستشار ومرشد تربوي ومستشار اعمال. عمل خبيراً اقتصادياً في مجموعة من البنوك المركزية العربية وتخصص في صناعة سياسات الاقتصاد الكلي لدى معهد صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة. له اكثر من اربعين بحث علمي منشور في دوريات محكّمة دولياً واربع كتب نشرت في الولايات المتحدة والمانيا ولبنان تختص بإقتصاد وادارة التعليم العالي، ناشر موقع الملف الاستراتيجي وموقع بيروت يا بيروت المختص بالادب. منشأ بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة بوديو. كاتب مشارك في سلسلتي "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط" و" ١٧ تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان" المتوفرتان عبر امازون كيندل. في جعبته مئات المقابلات التلفزيونية والاذاعية والصحفية في لبنان والعالم العربي والعالم ومثلها مقالات في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية الرائدة. يشغل حالياً مركز نائب رئيس الجمعية العربية-الصينية للتعاون والتنمية وأمين سرّ الجمعية الاقتصادية اللبنانية ومدير العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية للثقافة والتعليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى