اجتماع

المال وعودة سوبرمان: لعبتنا المفضلة!

عودة سوبرمان: لعبتنا المفضلة!
– حسنًا، ها نحن نعود مرة أخرى، لنلعب اللعبة القديمة ذاتها.
– لعبة؟ أي لعبة؟
– ماذا بك؟ هذه أحد ألعابنا المفضلة التي مازلنا نستخدمها منذ أكثر من 250 سنة! ألا ترى أن الأمر كان مفيداً بالنسبة لنا دائمًا؛ لماذا نزعج أنفسنا في التفكير بلعبة أخرى إذا كانت هذه اللعبة تعمل بشكل مثالي! دائمًا ما يقولون: “لا تعالج أمراً يعمل بشكل جيد”.

حسنًا، إليك كيف تسير الأمور. هذه لعبة، صنعنا حولها الكثير من الأفلام والحروب حتى أتقناها، خاصة أننا دائماً ما نلعب الدور ذاته، مع القليل من التنقيح هنا وهناك. تحتاج هذه اللعبة دائمًا إلى أربع شخصيات رئيسية.
أولاً، أنت بحاجة إلى البطل؛ إلى سوبرمان الذي يطير في السماء و يتغلب على قوى الشر. ثم، أنت بحاجة إلى صديقنا الشرير الذي يرهب الجميع بتصريحاته المخيفة وأسلحته الفتاكة. ومع ذلك، لا يمكن أن تتم المسرحية بدون ضحايا؛ وهي الشعوب التي تشعر بالرعب والخوف من هذه الشخصية الشريرة. أخيرًا وليس آخرًا، بالطبع أنت بحاجة إلى جمهور لمشاهدة المسرحية. فمن شأن ذلك أن يضيف لمسة من الإثارة إلى العرض، خاصة مع جمهور يطلق الكثير من التنهدات، والاعتراضات والمواقف، والتحليل غير المجدي.

الآن ابدأ في التنفيذ، فأنت تعرف كيف تعمل هذه اللعبة.

ماذا نريد منها؟! المال، نحن نريد المال. نعم، المزيد من المال؛ أكثر مما لدينا الآن! كيف نحصل على هذا المال؟! ماذا تعني بكيف نحصل على هذا المال؟ نحن بالطبع سوف نبذل قصارى جهدنا في صنع الحروب. الحروب التي لا يُقصد الفوزبها، بل تهدف فقط إلى استنزاف أموال وموارد الدول الخائفة، وتركها ضعيفة لدرجة يتعذر عليها العيش بدون حمايتنا. ماذا؟ لا يزال الأمر غير واضح؟

حسنًا، اسمح لي بإنعاش ذاكرتك. بهدف جعل شخص ما يدفع لك المال بسهولة، عليك إخافته باستخدام عدو مرعب. بالواقع، لا حاجة إلى أن يكون هذا العدو حقيقيًا، ولكن مع الكثير من الدعاية والأكاذيب، يمكنك بسهولة تحويل ملاك مُسالم إلى تنين يقذف اللهب من فمه! ثق بما أقوله. والمنطق نفسه ينطبق على الدول. إذا كنت ترغب في الحصول على أموال سهلة من دولة ما، يجب على هذه الدولة أن تكون خائفة بشكل كبير من دولة أخرى شريرة (ولو افتراضياً)، إلى حد يجعلها على استعداد لدفع المال لك مقابل حمايتها.

إذن، نحتاج أولا إلى الشرير، وهذا يمكن صنعه بشكل سهل. بكل بساطة تقوم باتهام دولة ما بأنها سيئة وقبيحة وشريرة. حتى لو لم تكن تلك الدولة أكثر سوءاً أو قباحةً من أي دولة أخرى، عليك أن تتهمها بأن نواياها شريرة وهي تهدد السلام العالمي. بالطبع يجب أن تستعمل بعض السمات المميزة لتلك الدولة ضدها حتى يقتنع العالم بما تقول. تتضمن هذه السمات الدين والأيديولوجية ونظام الحكم والتقاليد والتاريخ الذي يبدو خارجًا عن المألوف (ليس بالضرورة أن يكون شريراً، ولكن فقط خارج عن المألوف). يمكنك أيضًا إضافة بعض التوابل إلى القصة لتضخيم الصورة الشريرة لتلك الدولة في ذهن العالم بأسره. بكل بساطة، ما عليك إلا أن تستمر بالكذب حتى تقتنع الدولة الخائفة كلياً أن الدولة الأخرى شريرة بالفعل. وتبقى تكذب حتى يعتقد الجمهور أن تلك الدولة “الشريرة” تريد تدمير النظام العالمي. حتى أنك تمعن في الكذب حتى تقنع نفسك أنت أيضاً بأن تلك الدولة التي تتهمها بالشر، هي في الحقيقة هكذا وهي تهدد السلام العالمي.

بعد أن تصنع هذا الشرير، تحتاج إلى صناعة دولة خائفة. في هذه الحالة لا يكفي الكلام لتخويف الناس. لذلك، وبما أن فعل واحد خير من ألف كلمة، فما عليك إلا أن تقوم أنت – أو من يعمل لديك – بعدد من الأفعال في الدولة الخائفة. تتسبب في وقوع حادث هنا، وتزرع قنبلة هناك؛ تقتل رجل بريء هنا، وترهب المواطنين المسالمين هناك، كل ذلك حتى يصبح لديك دولة خائفة في متناول اليد. في هذه الأثناء، تستمر بإتهام الدولة الشريرة – التي صنعتها سابقًا – بكل تلك الأعمال الإرهابية. بالطبع، بدايةً تحتاج إلى البقاء في الظل. أنت فقط تدين الأفعال القبيحة التي تقوم بها الدولة الشريرة، وتتعاطف مع الدولة التي يتم مهاجمتها. وتواصل القيام بذلك بشكل متكرر وعلى فترات عشوائية، حتى يحين الوقت.

ماذا أعني بـ “حتى يحين الوقت”؟! حسنًا، هذه هي النقطة التي تتضخم فيها صورة الدولة الشريرة في ضمير الدول الأخرى، بحيث تصبح مكروهة من الجميع تقريبًا؛ وبحيث تصبح الدولة المهددة مرعوبة لدرجة أنها ستتشبث بأي بريق من المساعدة يأتي من أي جهة كانت؛ وبحيث توضع الدولة الشريرة في موقف دفاعي للغاية بسبب ما تُتهم به، وتصبح جاهزة للقتال من أجل الدفاع عن نفسها. وهنا يأتي دورنا! هذه هي اللحظة التي نطل بها على الجمهور بمظهرنا الباهر. هذا هو الوقت الذي يقفز فيه سوبرمان من السماء ويأتي لإنقاذ العالم. فنبدأ بالتصرف نتصرف كما لو كنا غاضبين جدًا من الدولة الشريرة ونقوم بتأنيبها، وفي الوقت نفسه نقدم المساعدة إلى الدولة المهددة، إذا سمحت لنا بذلك. ومع زيادة التركيز على الخوف والترهيب، تبادر الدولة المهددة إلى طلب حمايتنا.

في هذا الوقت، يقوم الجمهوربلعب دوره البسيط، وربما السخيف في بعض الأوقات. فتسمع التصريحات الشاجبة لأعمال الدولة الشريرة من هنا، والاستنكار لنواياها المخلة بالسلام العالمي من هناك. كما وتشاهد المؤتمرات الداعمة لنا وللدولة المهددة، مع رفض الترهيب والتشجيع على اتخاذ اجراءات بحق الدولة الشريرة. كله من دون زبد؛ فقط جزء من المسرحية التي نصنعها.

كل هذا مجانا؟! اللعنة، طبعًا لا! لا شيء مجاني. هكذا نحصل على الأموال بسهولة. نحن نؤكد للدولة الخائفة بكل تواضع، أننا مستعدين للدفاع عنها، لأننا وبكل بساطة محاربون من أجل الحق والسلام والحرية. نؤكد لهم أننا لا نحقق أية أرباح من هذا الأمر، لكننا سنتقاضى منهم فقط تكلفة الحرب. “أنت تدفع ثمن الأسلحة التي نبيعها لك. أنت تدفع أيضًا مقابل المدربين والمستشارين الذين نرسلهم لإرشادك حول كيفية التغلب على الدولة الشريرة، وتدفع مقابل القوات التي نرسلها لحماية المدربين والمستشارين، تدفع مقابل أي هجمات نقوم بها ضد الدولة الشريرة، وتدفع مقابل الذخيرة التي تستخدمها خلال معركتك من أجل الحرية”. ماذا؟ قتال بالوكالة. لا، نحن لا نقدم هذه الخدمة. إنهم يخوضون حروبهم الخاصة، ونحن نحمي ظهورهم فقط.

– كيف يمكنهم التسديد؟
– الأمر في غاية البساطة. نحن نقبل التحويلات البنكية وبطاقات الائتمان والنقد والنفط والذهب والمعادن والسلع، أي شيء سوى الشيكات!
– كم من الوقت سوف يستغرق التغلب على الدولة الشريرة؟
– لا يمكننا التنبؤ بذلك، لكن بالتأكيد سوف نستمر طالما استمروا في دفع تكاليف الحرب، وطالما كانت شهيتنا للمال مفتوحة.
– ماذا لو لم يدفعوا ما عليهم لنا؟
– حسنًا، نحن نكره التفكير في العواقب، لكن لنفترض أننا سنترك الدولة الشريرة تلتهم الدولة الخائفة؛ أليس الأمر عادل بما يكفي؟!

وهكذا تتكرر لعبتنا المفضلة مرة أخرى! مع دولة شريرة أخرى، ودولة خائفة أخرى، وجمهور كسول يسعى إلى المرح، وسوبرمان البطل الجبار. تلك هي قصة حياتنا. هل فهمت الآن؟!

شارل س. صليبا
20 أيلول 2019

شارل صليبا، كاتب وخبير متخصص في الموارد البشرية والحوكمة

شارل صليبا، مؤسس والمدير العام لشركة "أتش آر وركس" HR Works وهي شركة متخصصة في مجال الاستشارات التنظيمية والموارد البشرية. هو عضو مؤسس ورئيس جمعية الاستشاريين اللبنانيين، خبير تنفيذي، ريادي أعمال، كاتب، ومستشار في مجال القيادة وتطوير الأداء. لديه ٢٥ عاماً من الخبرة في إدارة الموارد البشرية وتهيئة المواهب. يتقن بناء القدرة عند الأفراد من خلال خبرة عميقة في تنمية القيادة. ومنذ العام ٢٠٠٩، قام بتدريب، وابداء النصح والاستشارة وتطوير أكثر من٢٠٠٠ مدير تنفيذي ورئيس شركة في البلدان العربية، الأمر الذي جعل منه أحد أبرز الخبراء في هذا الحقل في المنطقة. يتمتع بفهم عميق لاتجاهات السوق، وديناميكيات الأعمال ومعوقاتها، وتأثير تكنولوجيا الترقيم على تغير النماذج التشغيلية للأعمال، مما يضعه في طليعة المستشارين وخبراء الادارة التي تسعى اليهم المؤسسات والشركات الرئيسية لكفاءته في الجمع بين الشق التطويري والإداري والقيادي لعالم الاعمال. قام بين عامي 2010 و 2013 بإصدار ونشر مجلة The HR Review التي كانت المجلة الوحيدة في مجال الموارد البشرية التي تصدر من العالم العربي وللعالم العربي. وهو أيضاً كاتب ناشط في شؤون الحوكمة، والقيادة، والإدارة والتظيم، والموارد البشرية، وشؤون التنمية الاقتصادية والإقتصاد السياسي. الموقع الإلكتروني: www.charlessaliba.com

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرا جزيلا ،هذا تشخيص مفصل ودقيف للاعيب قوى الشر الميغاامبويالية والامبريالية في الساحة الدولية ،وما يجري في المنطقة العربية تجاه ايران او تجاه كل ما له العلقة بالاسلام والمسلمين هو مثال جيوسياسي علي ذالك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى