اجتماعقراءات معمقة

شيعة العراق : أسئلة الدولة وحدود الانتماء

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

لقد ترك آدم الجنة ليستخلفه الله على الارض بعد ما علمه الاسماء كلها ، وحمله فلسفة وايديولوجية بمثابة المنظومة الفكرية تؤهله لبناء كيانه الاجتماعي الجديد رفقة ذريته.
وترك نوح عليه السلام الارض وما فيها ،وصدق الله وعده عندما اطلعه على كيفية الخلاص ،بعد قراره باغراق سلالة لا امل منها ،وحمل الصالحين من ذويه ومن معه ولاذ بالفرار على ظهر سفينة.
وهاجر محمد(صلعم) ومن معه من مكة الى المدينة لتأسيس تنظيمهم الاجتماعي الجديد واستوطنوا ارضا بديلة اعمروها وكانت لهم الدولة.
ومن كل هذه التجارب الإنسانية الرائدة في الوجود يتبدى لنا الوطن -بحدوده الجغرافية – بمثابة الوثن أو الوهم الذي خلق لغايات معينة لإقناع الناس بالانتماء في فترات تاريخية محددة واستجابة لمصالح معينة.
تتنحى الجغرافيا جانبا ،فالتعصب لها لم يكن دائما ركنا مهما في بناء الدولة.
عرفت الانسانية تنظيمات سياسية و دولًا واديولوجيات مترحلة في التاريخ و الجغرافيا ، ولعل أبرزها في الأذهان الأندلس التي اقامها الاسلام الفاتح ، فالحدود المكانية وحدها لا تستوعب انتماءات المواطنين بينما تفعل مساحات الاديولوجيا والمعتقد ذلك باقتدار ، ولكن احدى مميزات الدولة ايضا انها معطى تاريخي ، تستجيب للسياقات الداخلية والخارجية المحيطة بها في الزمكان ، وكما سجل التاريخ امتدادات للإيديولوجيا او الفكر ، باعتبارهما مكونين أساسيين للدول ، فإنه يسجل ايضا حالات تراجع لهما نجد معها الزمان و المكان ينكفئان معا ، في رد فعل قوي وعنيف دفاعي للذود عن مقومات الدولة و رسم الحدود المادية الواضحة المعالم خشية التماهي والذوبان في اتحادات خاصة و أنها لم تعد قادرة على حماية المصالح امام تهديدات العولمة و انفتاح الحدود.
وهكذا مثلا تقرر بريطانيا هجرة الاتحاد الأوروبي ، بعد ما يزيد على الاربعة عقود من الزمن لتبدو الحدود مجددا أمرًا جوهريًا في رسم ملامح الدول القومية.
يبرر المناصرون لل”بريكسيت”من المحافظين في بريطانيا ، ان السياقات الاستراتيجية الحديثة لاسيما منها التهديدات الأمنية وملف اللاجئين وتراجع مكان بريطانيا دوليا باعتبارها عضوا في اتحاد ،كلها عوامل لم تعد تخدم طموح بريطانيا الدولي و لا سياساتها الاجتماعية و الاقتصادية والأمنية.

يثبت التاريخ ان الوعي المعرفي لا يتبع دائما نفس وتيرة التغيير التي تشهدها الحياة ، فيتأخر بشكل نسبي، الا في حالات الانعطافات الصادمة والعنيفة و الأمثلة في التاريخ كثيرة .وهنا ومن بريطانيا والاتحاد الاروبي اطرح السؤال الذي يقودني للحديث عن العراق ، هل كان يجب ان يقتل سليماني بالقرب من مطار بغداد حتى تتشكل الصدمة في وعينا المعرفي ؟و بالقوة التي تجعل السؤال منتصبا وماثلا كقدر يرفض التأويل والانحيازات التأكيدية الدفاعية الاخرى؟
يبدو عصيا على البعض تسمية ما حدث بمسماه المجرد من كل التمثلات، ففعل التسمية هنا يحيل الى حقائق يقضي البعض حياته النضالية كاملة من اجل تجميلها وترصيعها لتبدو له بالشكل الذي يرضي قناعاته، قناعات قد تكون الاحداث تجاوزتها ووجب تحيينها ومساءلتها وربما اعادة النظر فيها.
الواقعة الخالية من أي تمثل تقول ان: ترامب قتل جنرالا إيرانيا على أرض العراق.
وتقول ان العراق ارض عراك بين قوتين تتنازعان المصالح والجولات في صراع جيوستراتجي عميق في المنطقة.

بالرغم من ان ايران لديها رصيد في العراق بحكم امتدادات عقائدية، بدليل ان سليماني قتل رفقة آخرين منهم قيادي كبير في تنظيم الحشد العراقي.
و هو الذي من شأنه ان يحفظ للعراق ماء الوجه على نحو ما. وكان الحدث بمثابة الضربة التي جمعت ووحدت شيعة العراق الذين كانوا قيد التشتت والاختلاف بشأن السلطة ، لتعيد إلتفافهم مجددا حول محور المقاومة بزعامة ايران الا ان الذي حدث كان له ايضا أثر البومرانج (السلاح المرتد) boomerang effect فبالقدر الذي وحدت الفجيعة ابناء الشيعة ومراجعها – كما هو شأن الصدمات دائما عندما تحدث- بقدر ما تفرقت الآراء وتضاربت لتعيد الاكثرية طرح اشكاليات الانتماء وحدود السيادة الإقليمية للدول ، و لعل لفظة ” الغرباء” التي اطلقها السيد السيستاني في إحدى خطب الجمعة والحبر الذي اسالته واللغط الذي أثارته كانت تجليا حيا لذلك.

تظهر الانعطافات الكبيرة في الوعي المعرفي الباطن للانسان تاريخيا بتأني في الظروف العادية ولكنها تظهر ايضا بعد الصدمات العنيفة ، ويعتبر التنافر المعرفي اول أشكال التغيير في الوعي وهو ظاهرة صحية بشرية للتآلف مع اي واقع جديد ، ويحدث التنافر المعرفي كلما واجه الانسان معلومتين متناقضتين (ايران صديقة للعراق /ايران مهيمنة على العراق).
يترافق ذلك ، مع الانحياز التأكيدي الذي يأتي لا شعوريا بمثابة آلية دفاعية لحفظ الاتزان ، فالعقل البشري مصمم بطريقة تجعله يحتاج الى مزيد من الوقت لاستيعاب الصدمات والتغيرات الحاصلة ، ويجنح بالفطرة للسكون والاستقرار ، ويعتبر الانحياز التأكيدي مرحلة مهيئة للشك وبداية اعادة النظر في القناعات ، واعادة تحويرها بما يتناسب مع التفاعل الجديد للمعلومات التي ترسخت في لحظات الشك وإن كان ذلك غير معلن ولا معترف به.
الإيجابي في كل الذي يحدث يقطف ثماره العراقيون يوميا في النقاشات الثرية والمتنوعة على مواقع التواصل الافتراضي.
تزيح ُالاديولوجيات العالمية بعضها البعض بفعل هذه الميكانزمات التي تفرضها دواعي فسيولوجية غرزية …يعيد بها الدماغ ضبط تمثلاته من جديد.
وكل الأسئلة متاحة ومشروعة رغم ما قد تستفزه من انفعالات عاطفية لا تمت للواقع بصلة ، فالعالم تمثلٌ اكثر من كونه حقيقة أو إرادة – على حد تعبير شوبنهاور – ووجب امام كل معطى جديد اعادة النظر بتعقل و بالاستغناء عن بعض التمثلات لعل الحقيقة تتضح وتفهم وتفكك.

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

اقرأ ايضاً للكاتبة
http://box5852.temp.domains/~iepcalmy/strategicfile/سياسة/الجزائر-أزمة-السلطة-ومأزق-الثورة/

د. هبة مهيدة، كاتبة وأكاديمية جزائرية

كاتبة و اكاديميه جزائرية متحصله على دكتوراه في الانثربولوجيا و لديها شهادات لييانس في علم النفس العيادي و علوم الاعلام و الاتصال تشغل حاليا مركز استاذ محاضر في الجامعات الجزائرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى