اجتماع

لا تبحث عن السعادة… دعها تجدكْ

لا تبحث عن السعادة دعها تجدك !

هذا ما يسمى في الفلسفة والعلوم النفسية والسلوكية بـ “مفارقة السعادة”، فمهما اختلفت المقاربات حول الموضوع فإنها تتفق على ما يمكن اختصاره بالفكرة التالية: أنك كلما سعيت وراء السعادة كلما هربت منك.
الموضوع ليس جديداً وهو شغل الفلاسفة منذ زمن طويل. وقد كتب الفيلسوف جون ستيوارت ميل، بعد خروجه من أزمة نفسية حادة وهو في العشرين من عمره:
“لم أغيّر يوماً من قناعتي بأن كل قواعد سلوكنا عرضة لامتحان السعادة ، وهي غاية الحياة نفسها. لكنني اعتقد اليوم أننا لن نبلغ السعادة الّا أذا توقفنا عن السعي اليها كغاية. أنهم سعداء أولئك الذين يركزّون تفكيرهم على شيء آخر غير سعادتهم، على إسعاد الآخرين والعمل لخير الجنس البشري مثلاً، أو حتى على ممارسة أي نوع من الفنون. وهم لا يعتبرون كل ذلك سبيلهم للوصول الى السعادة، بل كمثل أعلى. وإذ هم منكبون على هذا السعي، يصادفون السعادة في طريقهم.”
يعتبر زياد مرار مدير دار “سايج”، أكبر ناشر عالمي للكتب والدوريات المتخصصة في العلوم الاجتماعية والعلوم البحتة، والذي أصدر كتاباً عام ٢٠٠٨ يحمل العنوان نفسه “مفارقة السعادة”:
“في قاموس أكسفورد الإنكليزي، يعود أصل كلمة “هابينس” الى “هابن” ، أي ما يحصل بالصدفة أو بالحظ، كما حين نقول “صدفة سعيدة”.
في اللغة العربية ايضاً ، ينطوي تعبير السعادة على المعنى نفسه حيث أن جذر الكلمة هو “سعد”، كيوم السعد، أي يوم الحظ. وكذلك بالفرنسية فإن تعبير “bon-heur” يعني الساعة الطيبة أو الجيدة، كما لو أن السعادة تأتينا على حين غفلة وليست جاهزة غبّ الطلب.
الطريف بالموضوع أن الحديث عن هذه المفارقة أتى في البدء من علم الإقتصاد، وليس من تحليلات نفسية، إجتماعية أو فلسفية. فقد كان الاقتصادي ريشارد استرلين عام ١٩٧٤ أول من وضع المفهوم وأسماه “مفارقة السعادة والدخل”، إذ اعتبر أن زيادة الأجر التي هي سبباً لإسعاد من يحصلون عليها، تصبح مدعاة لشعورهم بالغبن بعد عتبة معينة، لأنهم يبدأون بملاحظة الفرق بين دخلهم والدخول الأعلى فتضمحل سعادتهم.
وكان قد تردّد في شبابه بدراسة الإقتصاد، لأن الدراسات الإقتصادية لا تهتم برأيه بالعوامل النفسية والإجتماعية. الأمر الذي تطور كثيراً بعد ذلك، وعلى الأرجح بفضله هو وفضل إقتصاديين أمثاله.
أن يكتب إقتصادي عن السعادة قبل أربعين عاماً أمر مستغرب وجريء. وقد أثار منذ البداية هجينة زملائه، وحاول العديد منهم عبثاً نقض فكرته. وقد حرصوا دائماً على استخدام تعبير “هناء العيش” بدل “السعادة”، كأن الحديث عن السعادة يمسّ بمصداقية علم الإقتصاد وجديته.
لكن إذا ما فكرنا قليلاً، فإن إهتمام الإقتصاد بموضوع السعادة ليس مستغرباً، لأن وعد الإقتصاد الحديث قائم على الفكرة نفسها التي يلحظ استرلين عيوبها: فقد جرى تحوير مفهوم “السعي وراء السعادة” إلى السعي وراء الإقتناء و الثروة و المركز الإجتماعي كسبيل لإسعاد البشر. وكأن السعادة هي بضاعة متوفرة للبشر ليغرفوا منها إذا ما دفعوا البدل الملائم، حتى قال أحد الخبثاء : ” من يقول أن المال لا يشتري السعادة، فإنه لا يعرف عنوان المتجر الذي يبيعها”.
لكن يبدو أن أغلبية البشر لم تعد تعرف عنوان ذلك المتجر، في زمن أصبحت تعيّن فيه وزارات للسعادة (آخرها في الإمارات العربية المتحدة وتديرها إمرأة). كما يوضع سلّماً معياريّاً لقياس الدول من حيث درجة سعادة أهلها وليس فقط من حيث مستوى الدخل الوطني، وهي أمور كانت لتثير عجبنا واستهزائنا قبل عشر سنوات فقط. يبدو أن شيئاً تغيّر لدى البشر في نظرتهم للحياة وفي سلم قيّمهم وفي الطريقة التي يفهمون بها سعادتهم الشخصية.
تدلّ على ذلك كثرة المنشورات حول الموضوع : فيما نشر ٢٢ مقالاً بحثياً عن السعادة بين عامي ١٩٠٠ و ١٩٣٠، فإن الرقم إرتفع الى حوالي ٣٠٠٠ مقال في العلوم الإجتماعية منذ عام ١٩٦٠، ما عدا مئات الآف المقالات التي تنتمي الى علم النفس الشعبي، وتتمحور حول نصائح حول “كيف تكون سعيداً؟” بما يشبه الوصفات الطبية، ويؤشر انتشارها كالنار في الهشيم إلى سعي البشر الحثيث لإيجاد السعادة في أيامنا.
هل درجة الدخل والثروة الوطنية ومستوى الخدمات وسبل الاستهلاك الوفيرة لم تعد تهم البشر بالدرجة الأولى ولم تعد سبباً لسعادتهم؟ لماذا تحتل بعض الدول الفقيرة موقعاً متصدراً من حيث الشعور العام لأهلها بالسعادة، فيما يعبّر سكان المجتمعات المتطورة والغنية أكثر فأكثر عن مشكلات نفسية حادّة وقلق وجودي عارم، هناك حيث تولدت لدينا القناعة لأكثر من قرن بأن تأمين حياة لائقة وتلبية الرفاهية المادية للبشر سوف تسعدهم؟ ولماذا يهتم سكان هذه البلدان بالثقافات وأنماط العيش الشرقية التي تعتمد البساطة وتقيم وزناً للعلاقات الإنسانية والعائلية وللتناغم مع الطبيعة والإكتفاء بالقليل بدل السعي الدائم وراء الجاه والثروة؟
يلاحظ مرار أن السعادة الناتجة عن حب الاقتناء في مجتمعاتنا الاستهلاكية كانت عرضة للانتقاد منذ عقود، حتى أن الشاعر أليوت قد كتب قبل سنوات من تطور مجتمع الاستهلاك ليعمّ كل أوجه حياتنا ويرتبط حتى بأعمق مشاعرنا:
“إننا نراهم في كل مكان أولئك الذين يسعون بلا كلل وراء السعادة : يركضون وراء غيوم من الفراشات، يضحكون بصوت عال، يشربون الكحول بافراط، يشترون بلا وازع، يعملون بلا كلل، ويكرهون أنفسهم”
أهمل علم الإجتماع الحديث أيضاً موضوع السعادة ودراسة المشاعر بشكل عام حتى زمن قريب. علماً أن مفكريه الأوائل مثل اميل دوركايم، وكارل ماركس، وماكس فيبر قد إهتموا بالأمر لفهم وتفسير حياة الأفراد في المجتمع الحديث، فدرس دوركايم الانتحار الاجتماعي ليميّزه عن الانتحار الفردي، أي أن أسباب هذا النوع من الإنتحار ليست ذاتية ، بل هي ناجمة عن خلل في المجتمع خاصة بعد الأزمات الإقتصادية، وأسمى هذا الشعور الجماعي بالأنومي ما يمكن ترجمته بالتبلّد وفقدان الشعور بالإنتماء الإجتماعي.
أما ماركس فكتب عن الإستلاب وعرّفه بإنفصال الإنسان عن ثمار عمله، أي عن عدم استخدامه لما ينتجه، وهو الذي اعتبر أن التمييز بين البشر بدأ بالفصل بين العمل الذهني والعمل اليدوي. ربما هذا ما يفسّر اليوم رواج الكتب من نوع “إصنعها بنفسك”.
أما فيبر، والذي عانى طوال حياته من أزمات نفسية حادّة متقطّعة بمؤلفاته المميّزة والتي لا تزال موضوعاتها راهنة حتى اليوم، فقد كتب عن فقدان الإحتفائية بالحياة أو فقدان لذة العيش من قبل بعض الأفراد في ظلّ اختلال العلاقة بين الذات والمجتمع.
يعتبر الفيلسوف الفرنسي شارل بيبان في مقابلة أجرتها معه مجلة “نوفيل أُبسرفاتور” حول كتابه الأخير “الثقة بالنفس قضية فلسفية”، أن البشرية تواجه اليوم مشكلة حضارية عميقة، تتمثل بنهاية العمل اليدوي. ويقول أنه في الماضي عندما كنّا نمر بمحنة ما في حياتنا، أو حتى بيوم واحد صعب، كان مجرد ذهابنا لقطع الحطب والعودة به لتدفئة عائلاتنا أو أصدقائنا كافياً لأن نستعيد الثقة بأنفسنا. أما اليوم فإننا نشعل جهاز التدفئة بحركة واحدة. هذه القطيعة مع “الفعل” تجعل قاعدة الثقة بالنفس تميد تحت أقدامنا.
ويستشهد بقول أرسطو : “للإنسان يدان لأن له ذهن”، إي أن ذهننا بحاجة لفعل يديّنا ولا يجوز الفصل بين الإثنين. فمثلاً إن أصلح السمكري تسرّب المياه، فإن التقدير يأتيه من نجاحه بمهمته بحد ذاتها وليس كالموظّف الذي مهما على منصبه يبقى بحاجة لرضى مديره. ويضيف بيبان :
“أصدقائي القدامي، خريجي كبرى جامعات الإدارة في فرنسا هم الآن سجناء وظائف ممضّة لأنهم لا يستطيعون التمتع بثمار عملهم. لديهم المناصب، لديهم المال لكن ليس لديهم مهنة. وقد قالت لي طفلة مؤخراً “أن وظيفة الماما هي الإجتماعات” !
من المؤسف أن هذا النوع من الدراسات مفتقد في الثقافة العربية اليوم، مع العلم أن الفلاسفة العرب القدامى قد أولوا اهتماماً خاصاً بالموضوع، وكتاباتهم تبدو شبيهة باستنتاجات العلوم السلكوية اليوم، وإن اختلفت بالمفاهيم. فقد اشتهر الفارابي باعتباره الصناعات العملية كإحدى الفضائل الأربعة التي هي مصدر لسعادة البشر، الى جانب الفضائل النظرية والفكرية والخلقية، ويعتبر بذلك من أول المفكرين الذين جمعوا بين الفكر والعمل لتحقيق الذات وتأمين السعادة للإنسان. وكتب إبن مسكويه عن السعادة باعتبارها ذات طبيعة مزدوجة نفسية وجسدية في آن. وهذه وظائف أو فضائل لا يمكن الفصل بينها لضرورة الإنسجام في الطبيعة البشرية وتحقيق الإنسان لسعادته. ألا يجدر بنا هذه الأيام الدفاع عن ملكاتنا الذهنية واليدوية في زمن يحتل فيه الحاسوب وربما الرجل الآلي قريباً العديد من وظائفنا أو تقود سيارتنا نفسها بنفسها.
يقرّر اليوم أفراد في أوضاع اجتماعية ومادية مرفهة وبين ليلة وضحاها ترك وظائفهم ومقتنياتهم الثمينة وراءهم ليصرفوا وقتهم في عمل يحبونه أو نابع من مهارات وهوايات كانت خافية في دواخلهم، حتى لو لم تؤمن لهم دخلاً عالياً. بعضهم يذهب للعيش في قرى مجرّدة من كل أسباب الرفاه، فيما يقتني بعض الماشية ويزرع قطعة أرض ويبدأ بصرف وقته في أعمال يحبّها ولم يجد في السابق وقتاً للتعبير عنها. وعلى لسان هؤلاء كلهم تعبير واحد: “لم أكن يوماً سعيداً لهذه الدرجة!”
تعتبر بعض الدراسات أن خوفنا من عدم التوافق مع معايير المجتمع من حيث النجاح الدائم وتحصيل الثروة وحيازة المركز الاجتماعي (حتى لو على حساب حياتنا العائلية وصحتنا) يجعلنا نشبه الشخصيات في الروايات، كأننا نلعب أدوراً أكثر مما نعيش بهويتنا الشخصية وبحاجاتنا النفسية أو بمهاراتنا. وبذلك نعطّل وظائف ذهنية معيّنة وموروثة لدينا حسب آخر ما توصل اليه علم أعصاب الدماغ.
ربما لأن السعادة تنبع من الفرادة التي يملكها كل إنسان بذاته والتي تجعله يسعد لأسباب تختلف عن الآخرين، فيما أدت قرون من قولبة البشر على مفهوم واحد للسعادة الى إتعاسهم جميعاً.

د. بولا الخوري باحثة وصحافية في علم الاجتماع

د. بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي CADIS في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس EHESS - CNRS. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كعالمة اجتماع وصحافية، حيث تساهم في تعميم نظريات العلوم الاجتماعية في الصحافة بغية جعلها بمتناول الجمهور غير الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى