إقتصاددولي

الحرب التجارية تودي بترامب إلى الجنون

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

كيف تحولت حرب ترامب التجارية من آلية للمنافسة إلى نوع من الجنون!
لقد بدأت الحرب التجارية بين الصين وأمريكا والتي أشعل فتيلها الرئيس ترامب، في طور المنافسة بين الاقتصادين الأكبر في العالم، ولكن ما لبثت الأمور وأن تحولت إلى مشهد درامي معقد متمثلا في خوارزمية أمريكية جديدة استهدفت الإعتداء اقتصاديا على الصين.
حيث بات واضحا إذن، أن نية الرئيس الأمريكي هي التغيير التام لشكل العلاقة بين البلدين ودفع المفاوضات باتجاه إجبار الصين على القيام ببعض التغييرات الجذرية في سياساتها الاقتصادية بهدف حماية المنتج والمستهلك داخل السوق الأمريكية المحلية.
وقد أكد على ذلك روبرت لايتهايزر الممثل التجاري الأمريكي قائلا:” لقد أعطينا هذا الأمر المزيد من التفكير” وذلك في بيان له أمام مجلس الشيوخ في مارس 2018 مسلطًا الضوء على النموذج الحاسوبي الجديد الذي قام فريق العمل الخاص به بابتكاره مؤخرا.
وقد اشتملت الخوارزمية الجديدة على قائمة مكونة من 28 صفحة تضم بعض المنتجات الصينية كإطارات الطائرات، واللوحات الخاصة بماكينات الطباعة، وأجهزة تنظيم ضربات القلب، وذلك بتكلفة إجمالية بلغت 34 مليار دولار، وهي القيمة التي تقارب حجم الخسائر التي يتكبدها سوق الأعمال سنويا في واشنطن نتيجة قيام الصين- حسب الرواية الأمريكية- بارتكاب بعض وقائع سرقة الملكية الفكرية الخاصة ببعض المشروعات التقنية الأمريكية.
وقد تم اختيار أكثر من 800 منتج من المنتجات الصينية التي تمثل أهمية استراتيجية لبكين بهدف إدراجهم على القائمة، مع الأخذ في الاعتبار الاضطراب المحتمل حدوثه على صعيد سلاسل الإمداد الأمريكية. ولعل الجانب الذي يبدو أكثر تعقيدا في ذلك الأمر هو أن تلك المهمة تم إعدادها خصيصا بهدف تضييق الخناق على الواردات الصينية دون إلحاق الضرر بالمستهلك الأمريكي من جهة، ودون قبول المجازفة بحدوث الانفجار الاقتصادي الذي ألمح إليه ترامب مسبقا من جهة أخرى.
ولكن النموذج السابق لم يضع في حسبانه عقلية الرئيس ترامب الغير متوقعة على الإطلاق، فقد قرر الرئيس الأمريكي -خلف الأبواب المغلقة- الحصول على 7% من إجمالي قيمة السلع التي استوردتها أمريكا من الصين في عام 2017 والمقدر بنحو 505 مليار دولار. ولكن يبدو أنه قد تراءى له فيما بعد أن هذا الرقم منخفض للغاية لذا فقد حاول رفعه إلى 50 مليار دولار، متوجها بسؤاله نحو مساعديه:” هل تعتقدون أنه يجب أن أفرض تعريفات على كل شئ قادم من الصين؟”.
وبعد مرور نحو عشرين شهرًا، تحولت المنافسة بين الصين وأمريكا إلى نوع من الجنون، فقد اندلعت حرب التعريفات الجمركية ، والتي بلغت قيمتها نحو 70% أحيانا في العمليات التجارية الثنائية بين الجانبين، مما هدد باقتراب حلول شبح الانفصال بين الاقتصادين الأكبر حول العالم واللذان كانا على مقربة من بلوغ مرحلة من الاندماج الكلي. والجدير بالذكر أنه في حال عجز الدولتين عن إيجاد حل قريب لتلك الأزمة، فسوف تقوم واشنطن بفرض تعريفة عقابية جديدة بقيمة 15% لكل 160 مليار دولار أخرى من الورادات الصينية، الأمر الذي يراه عدد من الاقتصاديين بمثابة عرقلة كبرى للأنشطة الاقتصادية التوسعية في أمريكا . كما أفادت التوقعات الأخيرة لصندوق النقد الدولي بأن التعريفات الأمريكية الجديدة سوف تتسبب في تباطؤ معدل النمو العالمي بنسبة 0.8% في عام 2020
وقد تحدث ترامب في خطابه الأخير في 12 نوفمبر عن إمكانية امتناع واشنطن عن فرض تعريفة جديدة على الواردات الصينية في حال التزام الصين بـ “صفقة المرحلة الأولى” والتي تتضمن الالتزام بالحصول على المشتريات الزراعية الأمريكية بقيمة 50 مليار دولار في غضون عامين والتوقف عن ممارسات سرقة الملكية الفكرية. حيث رأى الرئيس الأمريكي أن تلك هي البداية الحقيقة لإبرام اتفاق أكثر شمولية بين الجانبين.
أما المسؤولون في الصين فقد قالوا بأن الوصول إلى اتفاق مستقبلي مع الجانب الأمريكي يبدو أمرا غير مرجح، كما أن المشتريات الصينية من السلع الزراعية الأمريكية ستظل كما كانت عليه قبل فرض التعريفات الجمركية. هذا إلى جانب تشكك البعض من إدارة ترامب في إمكانية إقبال الصين على إبرام صفقة مع رئيس يسعى جاهدا من أجل إعادة انتخابه وسط تباطؤ ملحوظ في حجم الاقتصاد الأمريكي.
ربما اتفق السياسيون وأصحاب الشركات الأمريكية على أن ترامب كان محقا في مواجهته للصين. ولكن الأحداث المتلاحقة فيما بعد قد برهنت على أن الأهداف الطموحة التي خطط لها البيت الأبيض لا تسير في اتجاهها الصحيح. ويعتقد بعض الخبراء بأنه في الوقت الذي استطاع فيه ترامب خلق فرصة جديدة لصالح أمريكا إلا أنه يتفنن حاليا في إهدارها وإلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية.
ولعل المشهد داخل البيت الأبيض يبدو حاليا وكأن ترامب قد أصبح عالقا بين غرائزه السابقة كواحد من أصحاب الصفقات الناجحة عبر التاريخ من جهة، ومجموعة من المساعدين المثيرين للجدل من جهة أخرى، حيث يعمد بعضهم إلى استدراج الرئيس الأمريكي نحو اتخاذ قرارات أكثر تطرفا، وهناك البعض الآخر ممن يحاولون دفعه نحو المزيد من ضبط النفس.
ويعتبر الدولار القوي هو الهاجس الأكبر لدى ترامب، حيث تساعد قوة الدولار في تقويض نفوذ التعريفات الجمركية العقابية، وربما تكون تدخلات ترامب لإضعاف الدولار هي الدافع الأساسي وراء المطالبات بعزله من منصبه. وهذا المشهد يشبه تماما قرار الرئيس الأمريكي السابق ريتشادر نيكسون الصادر في عام 1971 بإلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب، والذي أدى بدوره إلى سنوات من الاضطراب في الأسواق والركود الذي حدث في السبعينيات.
وبالرغم من رفض ترامب لإبرام أي صفقة جزئية مع الصين، إلا أن بعض مستشاريه قد نصحوه خلف الكواليس بالتفاوض على اتفاق مرحلي بهدف الحصول على بعض التنازلات الصينية، الأمر الذي يفرض على واشنطن ضرورة التراجع قليلا عن بعض مطالبها تجاه الصين من أجل إنهاء هذا الملف الشائك بين الجانبين، وجني بعض المكتسبات، وتخفيف الضغوط عن الاقتصاد الأمريكي.
وقد أشار ترامب إلى أن الجانبين الأمريكي والصيني قد أصبحا على وشك توقيع الصفقة الجديدة ما بين 16 و 17 نوفمبر في المنتدى الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ المزمع عقده في سانتياغو، إلا أنه تم إلغاء تلك القمة بعد اندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة في تشيلي. ولم يتم تحديد مكان وتاريخ جديد. في غضون ذلك ، ما زال البلدان يتفاوضان بالضبط بشأن ما سيتنازل عنه كل طرف في المرحلة الأولى.
وكما جرت العادة، فكلما اقترب الجانبان من الحل النهائي، كلما ظهرت مجموعة من الاتهامات المتبادلة بينهما لتعرقل أي تقدم للمفاوضات. ففي شهر مايو السابق قرر ترامب إدراج شركة هاواوي الصينية على القائمة السوداء الخاصة بوزارة التجارة لأمريكية ، مما حد من قدرتها على شراء الأجهزة والبرامج والخدمات من موردي التكنولوجيا في أمريكا.
وفي لقاء قمة مجموعة العشرين في أوساكا خلال يونيو الماضي، طلب الرئيس الصيني تشي جين بينغ ، من الرئيس الأمريكي تخفيف الضغوط عن هاواوي، فوافق ترامب على ذلك شريطة التزام بكين بشراء الحصة المقررة من السلع الزراعية الأمريكية. ولكن ما لبث وأن تعكر صفو الأجواء مجددا، وذلك بعد إعلان ترامب عبر تغريدة له في الـ 30 من يونيو بأن الصين لم تلتزم بوعدها باستئناف عمليات الشراء الزراعية.
وقد أدى ذلك القرار إلى احتدام الحرب التجارية بين الجانبين، مما هدد بحدوث الركود في أمريكا بسبب تباطؤ عمليات التصنيع، وهنا وجه ترامب خطابه إلى الشعب الأمريكي صراحة قائلا بأنه يتعين على الشركات الأمريكية البحث عن بدائل للسلع الصينية.
وعلى الرغم من انخفاض سقف التوقعات بشأن قرب الخروج من الأزمة، إلا أن ترامب لازال مصرًا على تبرير حربه التجارية على الصين. حيث بدأ مساعديه في الإعلان عن توجه سلاسل الإمداد الأمريكية نحو أسواق أخرى كالهند وفيتنام في الوقت الذي يتم فيه الإبقاء على التعريفات الجمركية في مواجة الصين.
ومن ناحية أخرى، فقد أشار بعض الخبراء إلى وجود عجز تجاري واضح في أمريكا خلال العام 2019 بقيمة تصل إلى 150 مليار دولار بالمقارنة بالعام 2016 أي منذ تولي ترامب منصب الرئاسة. مؤكدين على أن التعريفات الجمركية سوف تعزز قدرة الصين في التفوق على الولايات المتحدة في بعض المجالات الحساسة كالذكاء الاصطناعي والطب الحيوي.
ومن المحتمل أن يصف الديمقراطيون المنافسون لترامب، صفقة المرحلة الأولى باعتبارها نوع من الرضوخ، ورغم إجماعهم على ضرورة مواجهة الصين إلا أنهم قد وجدوا الكثير من الأخطاء في تكتيكات ترامب، وفي الوقت نفسه فلم يوافق أيا منهم على مبدأ التراجع وإسقاط التعريفات الجمركية.
وفي الوقت الذي يسعى فيه مجتمع الأعمال الأمريكي نحو كل من حل قريب للأزمة الحالية، وتغيير جذري على المدى الطويل في السياسة الاقتصادية الصينية، فإن الجميع يتساءلون عما إذا كان الأمر يستحق كل هذا العناء. أما الجانب الصيني فلازال متمسكا بوجهة نظره القائلة بأن ترامب قد دفع بحلفائه في اتجاه ” إما أن تكون معنا أو ضدنا” وهو مسلك خاطئ في تقييم الأمور على صعيد العلاقات التجارية الدولية.
ولعل الصراع التجاري الحالي يشبه إلى حد بعيد الحرب التجارية في عام 1812 بين أمريكا وبريطانيا، حيث كانت الأخيرة هي الشريك والمنافس التجاري الأقوى للولايات المتحدة آنذاك. فعندما بدأ الصراع تم رفع شعار:” هيا إلى كندا.. وعد بمناطق جديدة” وعندما انتهت الحرب بالعودة إلى الحدود السابقة تغير الشعار إلى “لم يتم التخلي عن شبر واحد من الأرض”. فهذا تماما ما يفعله ترامب حاليا عندما زعم بأنه يسعى إلى إعادة تشكيل الاقتصاد من جديد، ولكنه يبدو في الواقع أنه يدور في حلقة مفرغة.
رابط المقال الأصلي اضغط هنا

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى