اجتهاداتقانون وحوكمة

الاستشارات النيابية والتكليف والتأليف… ماذا يقول الدستور اللبناني؟

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

حيث ان ازماتنا الداخلية بصعدها المتشعبة ( الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ) , اضافة الى التطاول المتمادي على القانون ما هي الا اشارة الى الازدواجية بين الدستور والصيغة الطائفية والاعراف الاتفاقية , ودلالة واضحة لنموذج تقاسم الحصص والسلطات في نظام الحكم , انه السبب المباشر لتراجع الحياة السياسية وللعرقلة في تطوير واحترام النظام البرلماني .
هي اذا ايماءة موصوفة لفشل وتقاعص الطبقة السياسية والتي تحكم البلاد ولعجزها الدائم في ايجاد حلول مثلى وشافية وناجعة لما تعانيه البلاد من مشاكل وظروف صعبة , لقد زاد الاقتناع بالنسبة لمعظم الشعب اللبناني بان هذه الدولة ليست اكثر من جسم هجين ومركب مشلول الحركة والبركة , كانها نموذج لتعاونية ذات هدف احتيالي حيث انها تعمل لصالح الزعماء وليس الافراد .
يمكننا الشرح لخصائص هذا النموذج بانه يقوم على توازن مموه بالدقة بين عناصره المختلفة , من خلال التوازن بين الطوائف والتعادل الشخصي بين الزعماء اضافة الى توازن مناطقي متناغم , وتفرض هذه المعادلة بضرورة التعاون بين معظم عتاصر التركيبة اللبنانية ( الحليف والخصم ) شركاء الوطن الى الابد , بحيث لا يستطيع اي منهم ان يلغي الآخر وكل خلل في هذا جسم يعرض الشراكة للشلل , للاسف هي مواثيق وموازين قابلة للتبدل والتغير لانها اتفاقية وتحت تأثير مباشر لمعطيات متنوعة داخلية وخارجية .
حيث يمر لبنان ومنذ عدة اسابيع بحالة غير عادية هي نوعية وطارئة في عمقها وفريدة في توازنها وغير محسومة لجهة نتائجها , هي اقرب لحالة الظرف الاستثنائي حيث تمرد المجتمع على الاصول التقليدية والكلاسيكية واجتاح الشعب بنقمة حضارية وقلب الطاولة على رموز البلاد كافة وفرض نفسه بشكل حقيقي كجزء من المعادلة , ما يسترعي من رموز السلطة والدولة التعامل مع الامر بكل واقعية وتأن ودراية تفاديا للوقوع في انين الضغط الاكبر بتواتر لردات الفعل المطلبية والمحقة في ساحات شعب اصل شرعية السلطات ومصدرها حيث تنص الفقرة (د) من مقدمة الدستور على ان: ” الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية ” , حيث اختل توازن المؤسسات الدستورية والسلطات الحكومية بسبب العقم والذي اصاب شرعيتها وبتر بالتالي مشروعيتها .
فما نراه اليوم وحتى هذه اللحظة ما هو الا استمرار لسياسة العقم من الدولة ومؤسساتها وفي ادارتها للامور بطريقة باطنية وغير نمطية , متبعة بذلك الاليات التوافقية والبدع الاحتيالية لشخصنة الحلول , حيث قد بتنا امام نظام حكم الاشخاص وليس الدستور والقانون والمؤسسات ذلك هو التجاوز السافر للدستور والتسويف والتصحيف لقيمته السامية والمقدرة .
حيث ان الوطن من جهة بصدد انتفاضة وثورة مطلبية نابضة بالحق , لدينا اتساع في الفجوة العميقة بين الدولة وبين المجتمع والشعب بكل اطيافه , ونحن ايضا بامس الحاجة لتشكيل حكومة جديدة حيث ان حكومتنا مستقيلة وهي في مرحلة تصريف الاعمال , نحن اذا في عين عاصفة مركبة وفي وسط حالة استثنائية تستلزم من الجميع القيام بخطوات استثنائية وباسرع وقت ممكن وخصوصا لجهة الاسراع في تشكيل الحكومة , حيث ان ظروف تأليف الحكومة الحالية لا تتشابه مع اي حكومة سابقة , هي حكومة تحتوي في تأليفها على الغام وعقد ولعل من اهمها وابرزها صيغتها وصفتها والتي يجب ان تنال وان تحوز بالدرجة الاولى على رضى الشعب والمجتمع المنتفض , وعليها بالتالي ان تكون على قدره وقدر مطالبه ومتطلباته , وعلى الاطراف المعنية ان تسرع بالاجراءات الدستورية والقانونية لمؤلفة لعملية التأليف لكي تتمكن من الاحتفاظ على ما تبقى لها من ماء وجهها امام الشعب هي اذا امام امتحان صعب .

لقد حدد الدستور اللبناني المراحل والتي تمر بها ولادة الحكومة , حيث نصت المادة (53) الفقرة (2) بأنه : ” يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استنادا الى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسميا على نتائجها ” , وعلى الرغم من ان الدستور اللبناني لم يقيد رئيس الجمهورية بمهلة من اجل البدء بهذه الاستشارات الا انه ومن الثابت والواقع قانونا ودستوريا بعدم جواز تخطي هذه المدة عن المدة المعقولة , وإن كانت هذه المهلة ليست بمهلة نصية، أي ليس منصوصا عليها صراحة، إلا أنها مستقاة من القواعد والمبادئ العامة القانونية والتي تحرص على الانتظام العام في الحياة السياسية وحسن السير في انظمة الحكم والمؤسسات والسلطات مكرسة بالتالي للشرعية والمشروعية .
حيث ان سكوت المشرع عن هذه المدة وعدم حصرها وتقييدها بشكل مادي ما هو الا دلالة واضحة على ترك هذا الموضوع ضمن تقدير رئيس الجمهورية ومسؤوليته الكبيرة ازاء هذا الواقع , وهو المؤتمن على الدستور وشرعيته ,حيث تركت بالتالي لتقدير من المشرع لمكانة رئيس الجمهورية ولمسؤوليته الكبيرة والملقاة على عاتقه ذلك ان المشرع لم ينظر لرئيس الجمهورية الا بصفته الرئيس الحكم والحامي الاول للدستور والمدافع الاول عن استمرارية السلطات ومراقفها العامة, حيث ان المشرع لا يشرع من اجل التعطيل وسكوت الدستور عن المهلة ليس غفلة او ثغرة بل لاقتناعه المؤكد من ان الاشخاص المولجين تحمل هذه المسؤولية سوف يتحملونها على اكمل ويكونوا حاضرين للتعامل مع اي ظرف وواقع , حيث نصت المادة (49) من الدستور على ان : ” رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة اراضيه وفقا لاحكام الدستور , يرأس المجلس الاعلى للدفاع , وهو القائد الاعلى للقوات المسلحة التي نخضع لمجلس الوزراء ” ..
حيث هنالك اشكاليات عديدة تطرحها المادة (53) من الدستور لجهة صلاحية رئيس الجمهورية , ذلك ان الامر من حيث الشكل لا يعتريه اي مشكل في زمن الوفاق والاتفاق لكنه بخلاف ذلك بزمن الازمات السياسية .
حيث ان الدستور كان واضحا لجهة الخطوات الواجبة الاتباع للتأليف الحكومي حيث ان اولى هذه الخطوات الاستشارات النيابية الملزمة والذي يتبعها بحسب الدستور مرحلة التكليف للشخصية والتي سوف تتولى تشكيل الحكومة , حيث تنص المادة (64) من الدستور اللبناني الفقرة (2) : ” يجري اي ( رئيس الحكومة المكلف ) الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها . وعلى الحكومة ان تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوما من تاريخا صدور مرسوم تشكيلها . لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها او اعتبارها مستقيلة الا بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال ” . وهي المتضمنة حكما للمرحلة النهائية اي اعلان التشكيلة النهائية للحكومة .
حيث يتصف الموعد والوقت المحدد لبدء الاستشارات باهمية بالغة ,ذلك في ان توقيت من شأنه ان يغير من حظوظ الافرقاء السياسيين وامر المهلة والتوقيت في يد رئيس الجمهورية على ان يكون هذا الامر بالياته واجراءاته دستوريا وان تكون المهلة طبيعية ومعقولة .
لم تكن نتيجة الاستشارات في اي يوم موضوعا للتجاذب , حيث التزم الرؤساء بشكل متواتر بقرار الاغلبية النيابية غير انه هناك العديد من الحالات حاضرة من حيث الاحتمال ولو ان نسبتها قليلة بالتحقق, ولكنها تشكل بحد ذاتها اشكالية واقعية خصوصا مع الاستمهال والخطوات البطيئة لجهة المباشرة في الاستشارات , والسؤال الذي يفرض تفسه هنا عن ما هي صلاحية رئيس الجمهورية اذا لم يحصل اي الاسماء المرشحة لرئاسة الحكومة على الاغلبية المطلقة وتوزعت الاصوات بتعادل نسبي او عددي بين اكثر من شخص , فهل يقتضي اعادة الاستشارات ؟ او يعود في هذه الحالة لرئيس الجمهورية حق الاختيار ؟ وما هو المعيار لهذا القرار ؟
تساؤل اخر يطرح علينا وهو هل ان رئيس الجمهورية ملزم بالتكليف بناءا على الاستشارات النيابية اذا وقع الخيار على شخصية لا تمثل الطائفة ؟ وما هو معيار التمثيل في الطائفة ؟ وهل يكون بالتالي لرئيس الجمهورية الحق في اعمال الفقرة (ي) من مقدمة الدستور اللبناني والتي تنص :”لا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك” , حيث انه من غير الشرعي تكليف شخص لا يمثل الطائفة التي ينتمي اليها وان يرفض بالتالي هذا الشخص حفاظا على السلم الاهلي .
كل تلك الاشكاليات والتساؤلات هي لمسائل واقعية وولكنها للاسف لا تظهر الا في زمن الازمات السياسية , حيث ان القرار في لبنان هو توافقي جامع باختلاف التأثير في فرض القرار بحسب الموقع من السلطة والقوة في صناعة القرار , لذلك بات الامر الزاميا لكي نضع الدستور والقانون نصب الاعين ولعدم القيام بالمبادرات الاحتيالية والاحتوائية لاي ازمة من البوابة السياسية والشخصية وكأن الامرهو تطويعا للدستور على قياس الاطراف والجهات المتشاركة .
هناك اصول واجراءات لا بد من احترامها ولعل من ابرزها تلك الاجراءات والاليات والتي تدخل في صلب تشكيل وتأليف الحكومة حيث ان المواد الدستورية بينة وواضحة وهي لا تحتاج لالتصحيف ولا لتعليب ولا يجوز ذلك اصلا , حيث ان ذلك اذا تم يعد انتهاكا صارخا وتجاوزا واضحا للدستور , حيث عليهم احترام مبدأ ما يسمى المدة المعقولة في المهلة الدستورية لان الوضع بالفعل استثنائي وبدأ صبر الناس بالنفاذ , وهناك اجراءات لا بد الاحتكام اليها بكل عناية فالتشكيل يبدأ يالاستشارات النيابية ومن ثم التكليف ومن ثم يصار الى التأليف والاعلان , وليس كما هو حاصل في الوقت الحاضر , حيث ان الاروقة والكواليس تعج بالتفنن والتحايل على الدستور وتفوح منها رائحة التسويات السياسية والتجاوزات للقوانين , حيث يتم الاتفاق على شكل الحكومة ورئيسها وعددها واطيافها قبل المباشرة بالاستشارات , ذلك هو الانتهاك الصارخ للدستور وتلك هي البدعة والتي سوف تحول الاستشارات الى مجرد اجراء شكلي فارغ ولا قيمة دستورية له .
هنالك توازنات سياسية القائمة علينا احترامها , لدينا دستور وقوانين واعراف معمول بها في لبنان لا يمكننا نسيانها ويفترض النظر في آراء جميع التيارات لتحقيق ديمقراطية النظام البرلماني ، ما يتطلب حتما جهوداً مضنية في التفاوض والمواءمة بين النص والأعراف وعدم تجاوز الميثاقية والدستور .

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

د. محي الدين الشحيمي، استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

الدكتور محي الدين محمود الشحيمي، دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات ( باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا ). خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين . رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى