اجتماعاجتهادات

صفقة مع الشيطان: لبنان في ثلاثين عاماً

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

ثار اللبنانيون في الأشهر الأخيرة على أنفسهم بشكل رئيسي، على سكوتهم لا بل خنوعهم للطبقة السياسية على مدى ثلاثين عاماً. يحضرني في هذا الصدد تعبير “أقام عهداً مع الشيطان” أي أنك مقابل تحقيق غاية معينة (مثلاً أن تنجب ولداً وأنت عاجز عن ذلك) سلّمت أمرك للشيطان أو للساحرة التي تحقق لك حلمك يوماً وتأخذ الثمن بعد أعوام. والمعزى دوماً أنك تكون خاسراً في هذه المقايضة، بل تكون ببساطة قد “بعت روحك للشيطان”.
وهذا ما فعله اللبنانيون بصمتهم كل هذه السنوات، وكأنهم قالوا للشيطان آنذاك: خذ ما شئت شرط ألا نعود الى الحرب. وهذا ما حصل، ربما بفضلهم وليس بفضل الشيطان لكنهم بقوا على قناعة بأن ذلك كان بفضل الشيطان، على الأقل بكف شره عنهم.
بالطبع لم تكن قناعتهم تامة ولم يكونوا موهومين بالأمر، بل كانوا يرددون أن الحرب حاصلة بأشكال مختلفة، بل كانت تقع فعلاً من حين لآخر، في مناطق وأخرى. لكنها مع ذلك ليست تلك “الحرب” التي خبروها لخمسة عشر عاماّ وأقاموا عهداً مع شيطان أمراء الحرب لتفاديها.
وما كان من حرب سوريا على أبوابهم أخيراً إلا لترسخ هذه القناعة حيث شعروا بالبداية بأنها كفيلة باقتلاع بلدهم “من شلوشه” وعندما لم يحصل ذلك، عادوا صائغين لشروط عهدهم مع الطبقة السياسية.
ولأن المعزى من أساطير السحرة والشياطين هي أن من يضع يده بيدها يعرف التبعات من البداية، فقد بدأ اللبنانيون فعلاً بصلوات “فعل الندامة” وبصوت عالٍ كما شهدنا على امتداد فترة الثورة. لا بل راحوا يكررون ويفخرون بما قاله لهم أولادهم وجيل الشباب عموما، بالرغم من كونه مهين لهم: “كيف أرتضيتم بكل ذلك؟” ولم يكن تعبيرهم على شدة حدّته يشبه الحماسة والفخر بالشباب، بقدر ما يشبه جلد الذات والتكفير عن الذنوب.
ولأن الأساطير تقدم تفسيراً موارباً للحقائق، فإن حكاية التعاهد مع الشيطان تجد تفسيرها في ممارسات فعلية لللبنانيين على امتداد السنوات الثلاثين الماضية: الطائفية والأذى الطائفي للآخر قولاً وفعلاً، عبادة الزعيم وإذلال الذات، ممارسة بعضهم الاحتيال واستفادة أكثريتهم من شكل أو آخر من الفساد، التبذير والبذخ فوق المقدرات الذاتية بغية الظهور الاجتماعي، أو للإفادة من لعبة المصالح ودخول الدوائر المقربة من السلطة، الخ. (بما يذكرنا بالتأكيد باغواءات الشيطان!)
لكن “خطيئة” اللبنانيين لم تبدأ في بدء حقبة الثلاثين سنة الأخيرة، بل في حقبات متقدمة من الحرب الأهلية حين شعروا بأن استمرارية الحرب هي لخدمة أمراء هذه الحرب، فيما تقضي على ما تبقى من بلدهم وخيراتهم وعلى وجودهم بالأساس، لكنهم لم ينتفضوا بل استمروا بالتعايش مع الوضع.
وهنا بيت القصيد، فقد ظهرت منذ الثمانينات دراسات في علم الاجتماع السياسي تعتبر أن تكيّف المواطنين مع الحروب الداخلية هي التي تؤمن استمراريتها. والملفت أن هذه الأبحاث تطورت بشكل أساسي من خلال العمل على تجربة الحرب الأهلية في لبنان. ومفادها أنه من جراء الخوف من العنف الدموي، يتفادى المواطنون شيئاً فشيئاً المساءلة والمطالبة بحقوق عديدة وليس فقط بوقف العنف والحرب. ويلجأون الى نوع من تطبيع اللامعقول، أي جعله طبيعياً والتطبّع به. فيتدبرون أمور حياتهم بالتكيف الدائم مع الأوضاع مهما بلغت عبثيتها. وهذا ما يؤمن بالتالي التربة الأفضل لاستمرارية الحرب، ولتطور أسوأ أنواع التمثيل السياسي وانتشار اقتصاد الفساد لا بل المافياوية التي تنتشر عامودياً، ويسهلها في لبنان نظام الزبائنية القائم منذ قيامة البلد.
بمعنى آخر لجأ اللبناني الى نوع من الإنكار لكل ما يدور حوله من فظائع، بغية تركيز اهتمامه على البقاء على قيد الحياة والاستمرار بتأمين أسبابها مهما كان الثمن. لا كهرباء، إذن شموع أو إضاءة على البطاريات، وحين يطرح عليه حلّ المولدات الكهربائية يتبناه بسرعة وبلا جدال لا بل يسعد به! ولتأمين ذلك يعمل بمهنتين أو أكثر هو وأفراد عائلته ويعتمد أحياناً على التحويلات الخارجية من العائلة أو يستدين من المصرف (سيء الذكر، وهو يعرف ذلك قبل فضائحه الأخيرة وما يشرحه له الإقتصاديون). وقس على ذلك من مياه يشتريها مرتين، بل ثلاث مرات بسبب تلويث مياه الشفة، واشتراكات الاتصالات الأغلى في العالم، وما إليه من فضائح ممارسات الطغمة المالية المافيوية وصولاً الى تدمير محيطه الطبيعي وتشويه طبيعته وجلب أمراض السرطان له ولأولاده.
لقد شارك كل منا على قدر ما أوتي من جبن أو يأس أو مهادنة بهذه اللعبة الشيطانية، وإلا لما بلغنا الدرك الذي بلغناه. وصحينا بعد ثلاثين على طغمة سياسية مالية حاكمة ومتوارثة أخذت إبننا وصحته ومستقبله لا بل أمادت الأرض تحت قدميه وسوّدت الهواء الذي يتنشقه والمياه التي يشربها.
وكما في الأساطير يبقى فرد أو نفر من الأفراد يرفضون الإنصياع لشروط اللعبة، أو يمارسون ما يشبه العصيان المدني الفردي أو في مجموعات ضيقة، رافضين مثلاً المشاركة في اشتراك الكهرباء أو التبذير باشتراكات الهواتف أو الاستدانة للاستهلاك، ألخ. ومنهم من رفع الصوت وكتب وتظاهر وحاضر وربّى أجيال على مقاومة السلوكات السائدة. راح هؤلاء يبنون جزر صغيرة تتسع شيئاً فشيئاً لتعزيز ثقافات وممارسات مغايرة في المجتمع ومضادة للثقافة السائدة، وأكثرهم لا شك شاهدناه في رأس التحركات الشعبية الأخيرة.
لكن ألم يوصف هؤلاء سابقاً بالحالمين أو اليائسين أو الخونة أو الفاشلين؟ ألم يجري إقصاء الكثير عن مراكز الفعل والقرار والاقتصاد؟ مثلهم مثل شخصيات الأساطير التي تبقى وحدها تبشر في قوم لا يلتفتون إليها الا لإبداء الانزعاج من أصواتها أو للهزء بها؟
أما اليوم وقد ثار اللبنانيون على الشيطان فهل سيقاتلونه حتى النهاية ويستعيدون روحهم، أم سينتصر الشيطان عليهم بالضربة القاضية؟ الجواب على السؤال قريب جداً بل يعدّ بالأشهر القليلة، ولهذا فإن فترة الإنتظار مرعبة وتتأرجح بين الأمل الضئيل والمخاوف الكبرى.
ربما يفسّر هذا شيئاً من إنكفاء اللبنانيين عن تظاهرات الشارع. فأي عاقل يقرّر بطيبة خاطر خوض معركة القاتل أو المقتول مع الشيطان، وجلّ ما تقترحه الأساطير للخلاص هو الهروب أو الإستعانة بالله وبالملائكة؟
كلنا الآن مشدود الأنظار لمعرفة نهاية الحكاية-الأسطورة، رافعاً سبابته بوجه الشيطان، قائلاً: إنني أراقبك؟
فهل كانت أساطير السحرة والشياطين يوماً واقعية بهذا الشكل؟

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

د. بولا الخوري باحثة وصحافية في علم الاجتماع

د. بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي CADIS في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس EHESS - CNRS. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كعالمة اجتماع وصحافية، حيث تساهم في تعميم نظريات العلوم الاجتماعية في الصحافة بغية جعلها بمتناول الجمهور غير الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى