ألابرزاجتماعالاحدث

رواية “علب الرغبة” لعباس بيضون: مشهدية موزعة بين التفاصيل والنقاط والقضايا. كتبت دلال قنديل

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

رواية علب الرغبة للشاعر الكاتب عباس بيضون المرشحة لـ الجائزة الطويلة للبوكر تأسرنا قبل السرد والحبكة بلغة كالبلور شفافة بقدر تماسكها مسكوبة بحرفية تضعنا امام شخصيتها المحورية ندى لعوب جذابة تتقن فن أسر الرجل وإدخاله شرك التلاعب ليبقى حبل اللعبة في يدها تمنحه نفسها او تجزره على هواها ينال منها ما تشاء.. جسد حر شهواني يكاد يكون مفصولا عن عقلها.. عن قلبها متعلق بالذاكرة منتسب اليها تقف علىشفير أحزانها نكتشف في طيات شهوانبتها العجولة بإختيار شركائها هروباً من حزنها الدفين وفقدها الذي لا يعوض فقدت حبيبها واتقنت فن التعلق ورمي العابرين على فراشها / إلا مَن تقمّص فراغ عزيز عشيقها / صديقه وثالث جلساتهما قبل أن يصطاده القاتل في الساحة في خضم صراع مؤمرات النزاع بين المخيم والميدان يتقرب الصديق لندى يلازمها في لحظات الوهن كعكاز لإنهياراتها ساعياً للسكينة في قلبها التي لم يدركاها لحظة.. كأن شبح الغائب الماثل بينهما يمنعهما من الإستكانة.

يقول عباس بيضون بين سطوره في سرده المشوق الشغوف لرؤية ما أبعد من الجمل المرتخية على لغة الشعر: “طال سهرنا حول الدار.بدأ الناس يتفرقون ومات النشيج تقريباً.كنت اتشرب العتمة ونعومة الليل ببطء مما رطب نفسي.ثمة قِطع يقظة وصعبة في ذاتي بدأت تغرق تحت التعب والنداوة.تلك أخريات الليل” وهكذا يدخلنا بلغة رقيقة ساحرة هذا العالم المحموم المتداخل لقاءاتهما السريعةأوالمتمهلة ما إنطفأت شعلتها في حميمية وغريزية متوحشة أحياناً بدت فيها ندى خلف الكلمات المتروكة للخيال السردي كمن يرمي نفسه من الطابق السابع الذي لا تحده فواصل كل مرة رمى ثقله عليها تبحث عن منقذ،من خيالات حبيبها الذي أغتيل في بلدتهما وسعت للثأر له.. ما بين الإغتيال والثأر طحن كلام وهمس وتآمر ودماء يتوزع أقنية بين الأسر المنكوبة والقاتل يشرب قهوته ببرودة..

تخرج ندى الحاضرة بين حدث وآخر بهية متسلطة بخفة ادم رقيقة الحضور صلبة في نفورها لا يداري عباس بيضون في صورتها نمطية الخيانات فنرى صورة المرأة التي تزفر شهواتها على من حولها دون ورع حتى أمام زوجها الذي كان حضوره هامشيا في الشكل قالباً للمقاييس في المضمون. إمرأة في الشرق تأمر وتنهي كلمتها مسموعة لدى الجميع حتى نخال أنها بعلاقاتها تنتقم للنساء أجمعين من خيبات الحب والخيانة.شخصية ندى المتناقضة بفرادة سطوتها على رجال البلدة المتلاعبة بهم لكل حسب مقداره تنكشح عنها الستارة وتتعرى بخواء خوفها الذي يجعلها أسيرة المرض والقلق والمهدئات..

يستعيد الوقائع عباس بيضون كأنها اليوم لما شهدته القرى قبل عشرين عاما يسمي الأشياء حينا وقد يرمز اليها بغير مسمياتها دون أن يغيب عن نادرة او تشابك وإلتحام في عناصر تكون المقاومة في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي وتتشكل الشخصيات ممزوجة بإستعادة وقائع دامغة كغلي الزيت وتجميع الحجارة لطرد المحتل في النبطية وتسمية العميل حيدر الدايخ بإسمه.. هي فواصل للعابر دون معرفة بها تبدو جزءا من الحبكة فيما تدخلنا في توثيق دقيق للصورة المتداخلة لتلك المرحلة وما سبقها من صراعات دموية بين التنظيمات الشيوعية والمقاومة الناهضة في مطلع الثمانينات التي تمددت مع إنسحاب المقاومة الفلسطينية.. إغتيالات صامتة وكتم حركة.

لغة لا تترك جملة ترتاح على مقامها تجرنا لما هو أبعد منها وفي خضم سيرة العشق المتوتر بين تباعد اللقاءات وتقاربها وبين ثوان مسروقة وأوقات رحبة لتلازم حبيبيين يتركنا في منتصف الرواية امام سؤال محير يقول: “أتساءل إذا كانت الرواية تبدأ من هنا وهذا بالضبط يجعلني غير قادر على متابعتها من القليل من الذاكرة والقليل من الرواية لو أنني أحسن رواية أو أفضل ذاكرة أكنت إحتجت الى ان أكتب.كتبت فقط لأسجل هذه القصة قبل أن تُنسى.اردت منحها حياة ثانية.لكنني لم أجد منها شيئاً كثيراً.تحللت بسرعة او انتقلت الى هذا القاع الذي لا يتكلم في أنفسنا ونزداد مع العمر شعورا بحجمه وعمقه مع أننا لا نعرف…..كبر مع العمر الى أن يستولي على أكثر كياننا.

هل هذه هي الحكمة إسم آخر لذلك المجهول الذي يجعلنا مجهولين أكثر؟ سؤال كالقنبلة في خضم الرواية الصادرة عن دار العين المصرية على مدى ٣٢٦ صفحة يترنا فيها الكاتب معلقين في حيرة صمته وأسئلته المقلقة ومنحى التوثيق يضفي على سحرها سحراً يدخلنا في باب المكاشفة لما كان الى قبل حين مستوراً.. صراعات وتحالفات السيطرة والإنقضاض على سلطة القرار التي اختفت معها صراعات المتخاصمين لمواجهة الإحتلال الإسرائيلي دون أن يهمل تفصيلا من شخصيات الشيخ والأستاذ والكهربجي المنخرطين معا في المقاومة منهم من يتصدر الإعلام بعد التحرير ومنهم من يبقى خلف الصورة كأنه يهمس بأن ليس كل ما شهدناه عرفنا كنهه..

يتوالد الحب في ثنايا الرواية كما تشع الشمس كل صباح اذا خفت وهج حبيبيين يشرق العشق من ناحية الغروب قد يأتي / في سياق سرده يقول: “تركت أخاها يحكي وذهبت وأغلقت عليها.لم ترد أن تبكي لكنها بكت بغزارة ولم تبك عن قهر.كانت غيمة وأمطرت وصحت بعد ذلك ‘لأقل لنفسي إنني أريده’وجدت اللحظة التي تقول لنفسها ذلك دون حرج.كانت سعيدة بهذا فعلا يمكنها أن تنام.”

تزدحم تاريخية سلالة الأحداث وعاشق ندى الذي يترنح بثقل جسده والحضور المتلاشي كالمنقاد لرغبات الآخرين وسطوة ندى ينجح بعد محاولات لم تنته الى قرار الفراق يخلصنا من هذا الثقل الذي لا يستوي على الأكتاف لتميل معه الكلمات كأنها تحمل أجسادنا الى قيوده.. لنرى ندى الأم التي تغافلت عن العائلة تبحث عن زوج يليق بأبنائها وهو العاشق المتفلت يبحث عن صديقته القديمة فهل لا تلتقي طريق العشاق إلا على إفتراق ؟

كالأرض المحروثة الحرة يغزل كلماته عن قرار الإنفصال عن ندى كمن يتحرر من أسر رافقه عمرا لم تكن يوماً فيه خليلته الوحيدة ولم يكن واحداً بين رجالها المتعددين عابرا غير عادي في صالونها المفتوح لكن رابط الفقد لعزيز صديقهما المشترك جعل من روايته تقع بين يدي الراوي حين ارادت ندى أن تستعيد ما بقي من أثر عزيز الذي لم يجد مكانا لضريحه سوى حديقة منزل عائلته حيث رقد بعد إغتياله قرب أشجار الدار وتماهى معها.. حمل حقيبة العمر منذ أغتيال صديقه ليقرأ جملة كتبها صديقه متحسرا عليه قبل موته واصفاً إياه بالمسكين “العالق في ورطة حب” اي حبه لندى نفسها نظر للجملة وأغلق الحقيبة ملبياً طلب ندى بإستعادتها..

كأننا نتخفى ونتخفى ولا ندرك مدى إنكشافنا أمام العشق الفاضح المتملك لمسام الجلد يفوح عطراً يدل على أثره كيفما تلفتنا. اذا تاهت الكلمات لا بد للأعين أن تفضحه وكأن بعزيز أوصى لصديقه بخليلته قبل أن تمزق جسده رصاصات الإغتيال كأنه تسلل الى لقاءاتهما بكلماته وتلك الإندفاعة المفاجئة المترددة التي فتحت لهما طريقاً لغرام يصمد غاب او حضر.. ليخرج ولو بعد حين على شكل رواية.. رواية لا بد ان تُقرأ بتمهل لهضم مشهديتها الموزعة في كل تفصيل ونقطة وقضية.

الرجاء تقييم قرائتكم للمقال اعلاه ( اقل من عشر ثوان، تذكر اسم الكاتب قبل التعبئة) عبر الضغط على الرابط التالي: اضغط هنا

دلال قنديل ياغي، اعلامية وكاتبة في الادب السياسي والاجتماعي

رئيسة تحرير في تلفزيون لبنان؛ اعلامية مخضرمة ومذيعة ؛ في رصيدها عشرات المقالات في صحف ومجلات ومواقع الكترونية اخبارية محلية وعربية كما عملت في الوكالة الوطنية للاعلام والوكالة الصحفية. اعدت وقدمت عددا من البرامج في السياسة والقانون والثقافة والاعلام والعمل الاجتماعي كما وعملت كمندوبة لتلفزيون لبنان في رئاسة الجمهورية في التسعينات وقامت بتغطية قمم عربية واعتداءات اسرائيلية منها عدوان نيسان ٩٦ وعدوان تموز ٩٣ وعدوان ٢٠٠٦. كما غطت بجرأة استثنائية تحركات الجيش اللبناني والمواجهات مع المنظمات الارهابية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى