يقول المثل إن “حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر”. حسابات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وآماله بتحقيق “العجائب” من الطرح العام الأولي لأرامكو خابت مرتين. مرة عندما امتنع المستثمرون الأجانب عن الإقبال إلى الاستثمار في أرامكو ومرة أخرى عندما أقبل المستثمرون المحليون على شراء الأسهم بالقدر الذي لا يرضي الأمير الشاب الطموح. بن سلمان أراد جمع 100 مليار دولار بعد طرح 5% من الأسهم للاكتتاب وقدّر القيمة السوقية لعملاق صناعة النفط بـ2 تريليون دولار غير أنه في الواقع لم يحصل إلا على توقعات بتحصيل نحو 25 مليار دولار من طرح 1.5% فقط من الأسهم في ظل تقدير لا يتعدى الـ1.5 تريليون دولار لقيمة أرامكو.
تمثل أرامكو، الشركة الحكومية العملاقة للصناعة النفطية في السعودية، ركيزة أساسية في عملية التحوّل الاقتصادي الذي تستهدفه المملكة والذي وضعت من أجله عام 2016، الخطة الاقتصادية والاجتماعية المُسماة “رؤية 2030”. هذه الخطة هي خارطة طريق لإصلاح الاقتصاد السعودي الذي يقوم على إنتاج النفط وتصديره. فالسعودية هي أكبر دولة مصدّرة للنفط ، وتمتلك أكثر من 18% من احتياطيات النفط المؤكدة عالمياً وتأتي في المرتبة الثانية بعد فنزويلا. وبرغم هذه المعطيات تكثر التحذيرات من نفاد الأموال وتزايد العجز في الموازنة بسبب تراجع عائدات النفط واستمرار النموذج الاقتصادي الريعي غير المُنتِج إضافة إلى تورّط المملكة بحروب قاسية في منطقة الشرق الأوسط كبّدتها أموالاً طائلة. آخر التحذيرات جاء على لسان المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “CIA” ديفيد بترايوس، في مقابلة تلفزيونية مع قناة CNBC قال خلالها إن الأموال السعودية تنفد تدريجياً وإن المملكة ستعترف يوماً ما بأن صندوق الثروة السيادية قد تقلّص إلى ما دون الـ500 مليار دولار، علماً أن السعودية لا تفصح عن الأصول التي تحتفظ بها في صندوق الثروة السيادية التابع لها، والمعروف باسم صندوق الاستثمار العام. بترايوس لفت إلى أن عجز الموازنة التي تُبنى على أساس سعر خام “برنت” قد زاد بنحو ملحوظ، وتوقع أن يتراوح العجز حالياً بين 40 و60 مليار دولار وخلص في حديثه إلى أن السعودية تحتاج إلى المال ومن أجله ستعمل على جذب الاستثمارات الخارجية.
هكذا إذاً، السعودية في حاجة إلى استقطاب الأموال عبر الاستثمار. ومَن أفضل من شركة النفط الحكومية “أرامكو” الأعلى ربحية في العالم لجذب المستثمرين بعدما حقّقت أرباحاً صافية بلغت 111 مليار دولار عام 2018 وتفوقت بذلك على أكبر خمس شركات نفط عالمية. قد تكون أرامكو حجر الزاوية في خطة الإصلاح الاقتصادي التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وأراد في سياقها أن يحوّل أرامكو جزئياً من شركة مملوكة للدولة إلى شركة مساهمة عبر طرح 5% من أسهمها للاكتتاب في السوقَين المحلية والدولية وتحقيق ما يقارب الـ100 مليار دولار.
الطرح العام الأولي
في الواقع لم تطرح أرامكو نسبة الـ 5% من أسهمها للاكتتاب كما كان مقرراً، واقتصرت العملية على السوق المحلية فقط. لاحظ القيمون عليها أن المستثمرين الأجانب غير مهتمين أو ربما غير مطمئنين إلى جدوى الاستثمار في شركة النفط السعودية الحكومية ولا سيما بعدما تأثرت سمعة المملكة سلباً بسلسسلة أحداث أبرزها تورطها بتمويل الجماعات الإسلامية الإرهابية في سوريا، وقيادتها الحرب على اليمن مع ما تخللها من مجازر بحق المدنيين العزل، إضافة إلى الغموض الذي يلف قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة في اسطنبول. وجاءت أخيراً، الهجمات التي تعرضت لها منشآت تابعة لأرامكو في “بقيق” و”خريص” في المنطقة الشرقية لتزيد الأمور تعقيداً. وليس مستبعداً في ظل التغيرات الكبيرة في سوق النفط العالمية ودخول لاعبين جدد إليها أن تكون جاذبية أرامكو قد خفتت لمصلحة الشركات الأميركية الأكثر “أماناً” للمستثمرين الغربيين.
هكذا، وبعد تأجيل متكرر، قررت أرامكو بيع 1.5% فقط من أسهمها في سوق المال السعودية “تداول” بدءاً من 17 تشررين الثاني 2019، من خلال طرح عام أولي قد تدور حصيلته بين 20 و40 مليار دولار بحسب تقديرات المسؤولين السعوديين. وورد في نشرة أصدرتها شركة “سامبا كابيتال” التي تدير الاكتتاب أنه سيُتاح للأفراد والشركات على حدّ سواء ما يقلل من الفترة الزمنية الفاصلة ما بين التخصيص النهائي للأسهم واليوم الأول للتداول.
علماً أن المرة الأولى التي جرى فيها الحديث عن عملية البيع التاريخية، كانت في السابع من كانون الثاني من عام 2016، عندما قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع مجلة “ايكونوميست” إنّ السعودية تبحث في إمكانية الدخول في عملية اكتتاب عام لجزء من أسهم أرامكو ليكون أول اكتتاب لشركة نفطية خليجية حكومية. في أيلول من العام نفسه قالت الشركة إن الطرح العام سيكون في 2018، وحينها كرّت سبحة التأجيلات من دون مسوغات.
في 23 تشرين الأول 2017 قالت إدارة أرامكو إنّ عملية الاكتتاب ستتم في النصف الثاني من 2018، لكن صحيفة “فايننشال تايمز” كشفت يومذاك أن الرياض تنوي التأجيل حتى 2019. وبعد أسبوع من ذلك، أفادت “وول ستريت جورنال” أنّ الأسهم سيتم بيعها محلياً بدل الاكتتاب في بورصة عالمية. وكادت العملية أن تتأجل مرة إضافية مع إعلان ولي العهد، خلال مقابلة مع وكالة “بلومبيرغ” في الخامس من تشرين الأول 2018، أنّ الطرح العام الأولي سيكون في اواخر 2020 أو بداية 2021. لم ينتظر القيمون على أرامكو حتى هذا الموعد في محاولة لكسب الوقت الذي يمر بسرعة كبيرة في ظل تسارع الأحداث والتطورات في المنطقة والعالم.
ولإثبات جديتها وحسن نواياها، فتحت أرامكو دفاتر حساباتها في الأول من نيسان الماضي، ولأول مرة منذ تأميمها قبل 40 عاماً، أمام وكالتي “فيتش” و”موديز” الدوليتين للتصنيف الائتماني، في إطار استعداداتها لجذب المستثمرين وجمع الأموال، وبعد أسبوع من ذلك، إرتفع الطلب على السندات في أرامكو فارتفعت قيمة هذه السندات من 10 إلى 12 مليار دولار. لكن نكسةً أصابت الحكومة السعودية والشركة العملاقة عندما تعرّضت منشآت النفط في المنطقة الشرقية لضربات صاروخية بطائرات من دون طيار في 14 أيلول 2019. سارعت جماعة “أنصار الله” اليمنية المعروفة أيضاً بجماعة الحوثيين إلى تبني هذه الهجمات لكن الولايات المتحدة زعمت أن إيران تقف خلفها وألمحت إلى إمكانية تطور الاشتباكات واتساع رقعة المواجهات، ما أضعف ثقة المستثمرين ولا سيما الأجانب بجدوى الاستثمار في أرامكو التي باتت منشآتها في مرمى أعداء السعودية. برغم ذلك أكدت إدارة الشركة أن الهجوم لن يثنيها عن عملية الاكتتاب العام وخطت أول خطوة لها نحو الاكتتاب في 3 تشرين الثاني نوفمبر من خلال الإعلان أن بيع الأسهم سيتم في سوق المال المحلية في الرياض، واصفة الحدث بالعلامة الفارقة في تاريخها.
علامة فارقة بلا شك، لأن أرامكو هي أول شركة نفط حكومية في الخليج تطرح جزءاً من أسهمها للبيع، ولأن المملكة العربية السعودية تحديداً لم تحول يوماً أياً من شركاتها الحكومية إلى شركة مساهمة، لكن اقتصار الطرح على السوق المحلية يبقى نقطة سوداء مُخيبة لآمال السعوديين الذين اعتادوا لعب دور “ضابط الإيقاع” في سوق النفط العالمية. لم يتوقع السعوديون استهداف المنشآت التابعة لأرامكو بسلاح متطور نجح في تعطيل نصف الإنتاج اليومي لمدة أسبوع، كما نجح في إضعاف ثقة المستثمرين منذ ذلك الحين، فتحوّلت أرامكو من أداة للتحكم بالأسواق ورافعة لخطة الإصلاح الاقتصادي إلى نقطة ضعف.
ماذا بعد الطرح العام الأولي؟
أخيراً، في 17 تشرين الثاني أعلنت أرامكو أنّها ستبيع 1,5 في المئة من أسهمها بناء على نطاق سعري للسهم الواحد بين 8 و8,5 دولار. وبما ان قيمة أرامكو تحدّدت بين 1,6 و1,71 تريليون دولار، يُتوقع أن تتراوح الحصيلة بين 24 مليار دولار و25,6 مليار دولار من عملية البيع. وقد يكون هذا الرقم دون تطلعات ولي العهد الذي قال في أكثر من مناسبة إنه يأمل تحصيل 100 مليار دولار بعدما أبدى اعتقاده أن قيمة أرامكو تفوق الـ2 تريليون دولار. وستحدّد الشركة في الخامس من كانون الأول/ديسمبر السعر النهائي للسهم الواحد، على أن يبدأ التداول الفعلي في السوق المالية المحلية بعد ذلك بأيام.
إدراج أرامكو السعودية في سوق الأسهم المحلية يساعد على تقوية صافي مركز أصول السعودية، ويرفع معدل النمو الاقتصادي للمملكة في المدى الطويل ولا سيما أن الجانب الأكبر من حصيلة الأموال سيؤول إلى صندوق الاستثمارات العامة، ما قد يعزز صافي مركز الأصول المالية، القوي أصلاً، والذي يمثل نسبة 72.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
لعل هذا ما يبرر النظر إلى أرامكو على أنّها الدعامة الرئيسة لاقتصاد المملكة ولاستقرارها الاجتماعي. وبحسب وكالة “ستاندارد أند بورز” للتصنيف الائتماني فإنّ الأموال التي تجمعها الشركة من الاكتتاب “قد يجري استخدامها لدعم مشاريع النمو الطويلة الأمد في المملكة”.
هذه التطلعات والآمال المعلقة على عملاق الطاقة السعودي، دفعت السلطات السعودية إلى اتخاذ خطوات إستثنائية لتحفيز السوق المحلية على الاكتتاب، كالترويج عبر وسائل إعلام محلية لعملية الشراء على أنّها عمل وطني، وتمديد ساعات العمل في المصارف لمساعدة الزبائن على الاشتراك في عملية شراء الأسهم، في موازاة تقديم عروض بقروض فورية عالية القيمة لتمكين السعوديين من شراء أكبر عدد ممكن من الأسهم المطروحة للبيع وعددها ثلاثة مليارات سهم.
ويجري الحديث في الكواليس عن دعوة العائلات الثرية إلى شراء حصص، ومن المحتمل أن يكون الملياردير الأمير الوليد بن طلال، الذي كان محتجزا في فندق ريتز كارلتون لأشهر على خلفية تهم تتعلق بالفساد، أحد أكبر مشتري الأسهم.
مهما كنت نتائج الطرح العام الأولي لأرامكو، يبقى مستقبل هذا العملاق النفطي مجهولاً في ظل احتمال وقوع هجمات جديدة على المنشآت وتعطل الإنتاج، إضافة إلى انتقال الاقتصادات الكبرى إلى مصادر طاقة بديلة، وهو أمر قد يؤثّر على الطلب على النفط وبالتالي على أسعاره التي منها يتغذى الاقتصاد السعودي. ما يطرح سؤالاً جدياً عن دور ومَكانة المملكة العربية السعودية في سوق النفط العالمية بعد سنوات من الهيمنة والتحكّم.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا