
عندما يقولُ الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب إنَّ “التعريفات الجمركية” هي أجملُ كلمةٍ في القاموس، فهو لا يتحدَّثُ عن الجمال كما نفهمهُ عادةً، ذلك الجمالُ الذي يَرتَبِطُ بالمشاعر الإنسانية، بالإلهام، بالعدالة، أو بالوعد الكبير الذي يجعلُ الأُمَم حاضرة عبر الأزمنة. بل يُشَوِّهُ فكرةَ الجمالِ ليُصبح أداةً للهيمنة الاقتصادية والسياسية، حيث تتحوَّلُ اللغة من كونها تعبيرًا عن القِيَمِ إلى مجرَّدِ وسيلةٍ لتبرير المصلحة.
في عالمِ السياسة، الكلماتُ ليست مجرّدَ أدوات تواصُل، بل تعكسُ تصوّراتٍ وإيديولوجيات كاملة. حين يختارُ رئيسُ دولةٍ بحَجمِ الولايات المتحدة كلمةً مثل “التعريفات الجمركية” باعتبارها الأجمل في القاموس، فهو لا يُشيرُ إلى اللغة، أو المفاهيم التي تُلهِمُ البشرية، بل يُعبّرُ عن رؤيةِ تَحَوُّلِ القِيَمِ البشرية إلى سوق، والسياسة إلى صفقات، والعلاقات الدولية إلى موازين قوة عارية. وهو لا يعكسُ فقط ميوله الشخصية، بل يُعبّرُ عن توجُّهٍ عالمي يَتّجِهُ تدريجًا نحو استبدالِ القِيَمِ الكبرى مثل التعاون، العدالة، والإبداع، بمنطقِ المصالح المادية المُطلقة.
عندما نُقارِنُ ذلك بمفهومِ الجمالِ عند مُختلفِ الفئات في المجتمع، نرى كيفَ أنَّ هذه الرؤية تقفُ على النقيضِ تمامًا من مفهومِ الجمال كما يفهمه الناس. أجملُ كلمة في القاموس لدى الشباب هي الأمل، العمّال هي العدالة، الباحثين هي الاكتشاف، الفنانين هي الإلهام، القادة العقلانيين هي السلام، والمعلمين هي المعرفة. لكلِّ فئة نظرتها إلى جمال اللغة التي تعكسُ تطلّعاتها وقِيَمَها، وهي جميعها تشترك في كونها ذات بُعدٍ إنساني. حتى في عالم السياسة، فإنَّ رجالَ الدولة العظماء طالما وجدوا الجمالَ في الوطن، في الاستقرار، في القدرة على بناء مستقبل للأجيال المقبلة. وأعظم الكلمات في قواميسنا جميعًا الله ثم العطاء.
لكن ترامب، ومن خلال اختياره هذا، يُقدّمُ رؤيةً بديلة للتاريخ الإنساني، حيثُ لا يُوجَدُ مجالٌ للقِيَمِ الكُبرى أو الأحلام الجماعية، بل فقط للقوة الاقتصادية كأداةِ فَرضٍ وابتزاز. إنّهُ مفهومٌ للجمالِ قائمٌ على الربح والخسارة، وليس على الإبداع أو العطاء. هذه الرؤية تتجاهلُ حقيقةَ أنَّ الأُممَ العظيمة لم تُبنَ على التعريفات الجمركية أو ما يُشبهها مهما كبر، بل على أفكارٍ أعطت الناس معنًى أكبر لحياتهم، ولموتهم دون هذه الأفكار أيضًا.
هنا، تكمُنُ المشكلة الكبرى: عندما يصبحُ الجمالُ، ذلك المفهوم الذي لطالما ألهَمَ البشرية، مجرّدَ أداةٍ اقتصاديةٍ قهرية، فإننا لا نشهدُ فقط تحوُّلًا في الخطاب، بل انحدارًا في القِيَم. الأمم لا تموت فقط عندما تخسرُ حروبها أو تفقدُ اقتصادها، بل عندما تفقدُ إيمانها بالقيم التي تجعلها تستحق البقاء. وعندما يكون الجمالُ في عيون القيادة العالمية مجرّدَ أداةٍ للنفع الاقتصادي، فإننا نكونُ أمامَ مرحلةِ ذبولٍ حقيقي ليس لدولةٍ واحدة، بل لنظامٍ يَحكُمُ العالمَ بأسره.