التدخُّل لِخَفض سعر الصَّرف: حلٌّ أم مُغَامَرة..؟ | المحامي زياد فرام
أن يبقى مصرف لبنان متقمصاً دور العرّاب الرئيسي لسلطة رأس المال النيوليبرالي، و منقذ الإقتصاد من هولِ الإنهيار، لا بل و يثقل كاهله عجز المالية العامة وشلل الإقتصاد العام.. أن تأتي السّياسات العامة المحوريّة لتضغط نحو مزيد من تدخل المصرف المركزي، هو لعب على حافة الهاوية..
لن أدخل في دقائق التعليق على سياسات المصرف المركزي ومغامرات الهندسات الماليّة، والتي كان لي دراسة مفصّلة عنها فيما سبق.
إنّما ستكون الإضاءة اليوم قاصرة على عملية ضخّ المصرف المركزي لآخر احتياطي بالعملة الصّعبة لديه لكبح انهيار الليرة، تلك المغامرة التي تفتقر للحد الأدنى من الحسّ الوطني والعلم الإقتصادي لا بل والمسؤولية النقديّة التي أولاها قانون النقد للسلطة النقدية..
أن تضع شبعاً كاملاً في مهبّ الفقر، دون أي احتياطي نقدي استراتيجي يقيه شر الجوع والمرض و شحّ المواد الأولية، يستوي والخيانة العظمى..
ونحن في طريقنا إلى الإنهيار المحتوم ، نتطلّع لمنقذٍ ذو رجاحة عقلٍ ووطنيّة فلا نرى سوى المأزومين الذين يتكئون على ما تبقى من مقدّرات الصّمود في بلاد الحرف المُسقَط بإرادات الفاسدين..
ونحن في طريقنا إلى الجوع نرى جياعاً للسلطة يخاطرون بأملنا الباقي..
لقد كان لنا شرحٌ مُسهَبٌ في ما مضى، عن مساوئ التثبيت والتحرير لسعر الصرف حيث كان البعض يتكلّم عن تحريره أو تعويمه بالمصطلح الإقتصادي.. والفائدة المتوخّاة من الإبقاء على تثبيته ..
واليوم بتنا متأخرين عن كسب أيّة فرصة مع نظام ريعيّ يحكمه التضخّم الجامح..
إنه الفخّ الذي أوقعونا فيه بسياساتهم الموجّهة، فلا يكذبنَّ أحدٌ علينا بعد اليوم، وقد وقعت الواقعة الإجتماعيَّة مع انخفاض قيمة الرواتب والأجور و تراجع القدرة الشرائيّة، و ارتفاع كلفة الإستيراد وتمويل ميزان المدفوعات..
أين الأفواه المطالبة بخفض كتلة الدّين العام بالليرة اللبنانية؟ الإيجابيّة اليتيمة، حيث كان بإمكان تحرير سعر الصرف أمام الدولار الأثر الإيجابي خلال تمتع لبنان بمؤشرات إقتصادية قويّة. فالتحرير كان ليقلّص الدّين العام، ويزيد من الكفاءة الاقتصادية ويعزِّز قوّتها.. لكنّنا تأخرنا وقد ضعف اقتصادنا لمستوى الإضمحلال..
لقد نبّهنا من تكرار اعتماد التعويم الموجَّه المكلفٌ جداً على الدولة والذي سينهش كامل الاحتياطي بالعملات الأجنبية، ما يؤدي ( على الطّريقة الرائجة ) لابتكار هندسات ماليّة مجدّدة تلبيةً لتسديد استحقاقات الدّولة وأرباح البنوك والمقرضين الكبار.
كان الحلّ الأنجع الذي يمكن أن يؤسّس لنظام إقتصادي لبناني جديد، هو استعادة المال المسروق لإعادة إحياء قدرة الدّولة على الإستثمار العام عبر إلغاء الدّين العام بالمال المسترجع. لكن السياسة اللزجة كمت أفواه المطالبين، وحوّرت مطالب الثورة نحو بؤر الطائفيّة النتنة.
إن الحسابات السياسية في بلدنا دائماً ما تأتي بالسلبية على الٱقتصاد، لكن أن تصاغ جميعها مستهدفةً مقومات الصمود إنتصاراً لخطة، واستبدالاً لمركز، وإفشالاً لاستراتيجية..!! هو قمّة الجهل اللعب على حافة الهاوية حيث المخاطرة أمضى من الرهان حتى على الحياة بذاتها..
ومع دخول مرحلة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي يتطرّق لبرنامج إصلاحات بنيوية، كما وإعادة هيكلة الدين العام، وبعد أن فقدت الليرة اللبنانيّة نحو ثلث قيمتها مقابل الدولار الأمريكي في السوق السوداء، تنامت التكهنات بأن الصندوق قد يلزم لبنان بتعويم العملة، كما صار في بعض الدول الأخرى..
لقد حدد قانون النقد والتسليف اللبناني في القسم السادس منه مهمة المصرف المركزي العامة
حيث نصت المادة 70 (المعدلة بالقانون المنفذ بالمرسوم رقم 6102 تاريخ 5/10/1973- ج.ر. عدد 81 ملحق):
بأن مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو إقتصادي واجتماعي دائم وتتضمن مهمة المصرف بشكل خاص ما يلي:
– المحافظة على سلامة النقد اللبناني.
– المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
– المحافظة على سلامة اوضاع النظام المصرفي.
– تطوير السوق النقدية والمالية.
– يمارس المصرف لهذه الغاية الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون.
وكانت المادة 69 من قانون النقد قد ألزمت المصرف المركزي بأن يبقي في موجوداته أموالا من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي (30 بالمئة) ثلاثين بالمئة على الاقل من قيمة النقد الذي اصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب, على ان لا تقل نسبة الذهب والعملات المذكورة عن (50 بالمئة) خمسين بالمئة من قيمة النقد المصدر.
و تضيف المادة 69 أنه لا تؤخذ موجودات المصرف من النقد اللبناني بعين الاعتبار لحساب النسبتين المحددتين في الفقرة السابقة.
اليوم ومع تدنّي احتياطي المصرف بالعملات الصعبة لمستوى مقلق وغير معلوم، يطلعنا البعض بأن قيمته 8 مليارات دولار أميركي ليخالفهم آخرون بما هو دون الأربعة مليارات.. يجعل الأمور أجزل تعقيداً بحيث يملك مصرف لبنان من كمية النقد الورقي المتداول بالعملة الوطنية 17.5 ترليار ليرة لبنانية أي ما يعادل 11.6 مليار دولار بحسب سعر صرف الدولار الرسمي،
أما الخمسين بالمئة من كمية النقد المصدَّر فتساوي 5.8 مليار دولار على أساس السعر الرسمي.. وطبعاً من يراجع تلك الأرقام، محتسباً قيمة إحتياطي الذهب بالدولار الأميركي الذي يفوق ال 14 مليار دولار، يخال أن مصرف لبنان ما زال يحتفظ بملاءتةٍ حيويّة، ضمن إطار نص المادة 69 من قانون النقد المذكورة..
ولكن، مصرف لبنان اليوم مدين للمصارف التجارية بنحو 84 مليار دولار، كما و يشكّل محوراً أساسياً لخسائر النظام المالي تمنُّع الدولة عن سداد ديونها..
لقد اعتمد مصرف لبنان سياسة التمويل بالعجز حيث زاد الكتلة النقدية الوطنيّة المتداولة، زاد معها الطلب على شراء الدولار حفاظاً على القيمة النقدية وبخاصة مع تدهور عامل الثقة كما وأنَّ السّلع الموجودة في لبنان أصبحت تعاني من النّدرة بسبب شحّ الدولار المؤدي لانخفاض الاستيراد. فارتفاع الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة الوطنيّة مقابل انخفاض عرض السّلع في السّوق يشرّع ارتفاع الأسعار تحت عباءَة العرض والطلب.
إنَّ استمرار المودعين بسحب ودائعهم من المصارف، و زيادة الكتلة النقدية المتداولة تبعاً لقرارَي المصرف المركزي 148 و151 سيزيد التضخم حتماً..
إنَّ تورَّط المصرف المركزي في اللعبة الإقتصاديّة، وتأمين سيولة للقطاع العام وخروجه عن الأطر القانونية التي رسمها له قانون النقد في المادة 70 أوقعه بين مطرقة السّلطة السياسيّة المتطلّبة وسندان القطاع المصرفي المحتكر للتمويل..
والحال، فأن يتدخل مصرف لبنان المركزي مرة أخرى، لضخّ ما تبقى من احتياطي بالعملة الصّعبة، إنقاذاً لسياسات محوريّة، رهان ٌخاسرٌ ومجنون، وسيكون آخر قراراته التي سيدفع المواطن ثمنها سنوات من الذلّ والفقر والحرمان..…