تُعدّ العلاقات بين القوى الكبرى عاملاً حاسماً يؤثّر على الاقتصاد العالميّ. وتُظهر التوترات بين الولايات المتّحدة الأميركيّة وروسيا، التي تصاعدت بشكل كبير منذ بداية الحرب في أوكرانيا، آثاراً مباشرة وغير مباشرة على الاقتصادات الأوروبيّة والأميركيّة. وبينما تسعى واشنطن لمواجهة الطموحات الروسيّة، تجد أوروبا نفسها في موقف صعب نظراً لاعتمادها الكبير على موارد الطاقة الروسيّة. لهذا الخلاف تداعيات اقتصاديّة واسعة النطاق تؤثّر على النمو الاقتصاديّ، الاستثمارات، والتجارة العالميّة.
فأوروبا كما سبق وذكرنا، تعتمد بشكل كبير على واردات الغاز الروسيّ لتلبية احتياجاتها من الطاقة. ومع تصاعد التوترات وفرض العقوبات الاقتصاديّة على روسيا، إرتفعت أسعار الغاز بشكل كبير. وهذه الزيادة أدّت إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج الصناعيّ وزيادة الضغط على المستهلكين. واجهت البلدان مثل ألمانيا وإيطاليا، التي تعتمد بشكل كبير على هذا الغاز الروسيّ، تحدّيات كبيرة في تأمين إمدادات الطاقة البديلة، ممّا أثّر سلباً على تنافسيّة الصناعات الأوروبيّة. كما أنّ ارتفاع تكاليف الطاقة أسهم بشكل كبير في زيادة معدّلات التضخم في العديد من الدول الأوروبيّة. وهذا التضخّم يؤثر على القدرة الشرائيّة للمستهلكين ويزيد من التكاليف التشغيليّة للشركات، ممّا يعوق النمو الاقتصاديّ ويزيد من معدّلات البطالة.
والملاحظ مؤخراً، في خطوة لافتة تهدف لتعزيز فرص النمو الضعيف، قرار البنك المركزي الأوروبيّ بخفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس إلى 3.75%، وهو أول خفض منذ العام 2019. إنّ هذه الخطوة تأتي في ظل أرقام التضخّم المتوقّعة ومحاولات تخفيضات إضافيّة لمواجهة التباطؤ الاقتصاديّ، لا سيّما لأنّ العقوبات الاقتصاديّة على روسيا وإغلاق الممرات التجاريّة التقليديّة أثّرت على سلسلة التوريد العالميّة. فالمنتجات الزراعيّة، المعادن، والمواد الخام التي كانت تُصدّر من روسيا وأوكرانيا تأثّرت بشدة، ممّا أدّى إلى نقص في الإمدادات وزيادة في الأسعار.
أمّا على صعيد تأثير الحرب الروسيّة الأوكرانيّة على الاقتصاد الأميركيّ، فرغم أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة ليست معتمدة بشكل كبير على الغاز الروسيّ، إلّا أنّ الإضطرابات في سوق الطاقة العالميّة تؤثّر بشكل غير مباشر من خلال زيادة أسعار النفط والغاز عالميّاً التي تُترجم بارتفاع في تكاليف الوقود والطاقة داخل الولايات المتّحدة الأميركيّة، ممّا يؤثّر على الصناعات والنقل وأسعار السلع. هذا عدا أنّ الولايات المتّحدة، مثلها مثل أوروبا، تواجه ضغوطاً تضخميّة، فأسعار السلع الأساسيّة والطاقة المتزايدة لديها تُسهم في زيادة معدّلات التضخم. كذلك، فإنّ الإحتياطيّ الفيدراليّ يجد نفسه في موقف صعب بين رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخّم ودعم النمو الاقتصاديّ المستمر.
ومن هذا المنطلق، من المتوقع أن يقوم الإحتياطيّ الفيدراليّ بخفض أسعار الفائدة مرتَيْن هذا العام بدءًا من أيلول بسبب التحدّيات الاقتصاديّة وضغوط الميزانيّة الكبيرة. وبالتالي، فإنّ المواجهة الأميركيّة مع روسيا أضرّت بها رغم محاولاتها المتكرّرة بتعزيز تحالفاتها مع أوروبا وآسيا. وهذا ما أدّى إلى زيادة النفقات الدفاعيّة والدبلوماسيّة الأميركيّة، بشكل أثّر على ميزانيتها الفيدراليّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الحروب التجاريّة والعقوبات تضرّ بالعلاقات التجاريّة مع الدول الحليفة والشركاء التجاريّين، ممّا يؤثّر على تدفقات الاستثمار والتجارة الدوليّة.
أمّا على صعيد الاقتصاد الروسيّ، فلا يُمكننا إنكار أنّ الاقتصاد الروسيّ قد تضرّر بشكل كبير جرّاء العقوبات الدوليّة المفروضة عليه. فهو يعاني من انخفاض في قيمة العملة، وتراجع في الاستثمارات الأجنبيّة، واضطراب في الأسواق المحليّة. ومع ذلك، يبقى التوصّل إلى تسوية للنزاع الروسيّ الأوكرانيّ بطريقة تُرضي جميع الأطراف هو السبيل الوحيد لإعادة الاستقرار والنمو للاقتصادات العالميّة.
من جهة أخرى، فإنّ الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة أثّرت أيضاً على اقتصاد أميركا، وعلى استقرار الشرق الأوسط واقتصاد إسرائيل المتهالك شيئاً فشيئاً، لاسيما بعد إدراجها على قائمة العار لقتلة الأطفال. ولذلك فإنّ كل من أميركا وإسرائيل بحاجة لصدور قرار وقف إطلاق نار شامل في غزة، حتى لا يعانوا من أزمات ماليّة وكوارث اجتماعيّة دوريّة، قد توصِل اقتصادهم وبلدهم ككل إلى الحضيض.
وبرأيي كأستاذة اقتصاد جامعيّة منذ سبعة عشر سنة ومشرفة على العديد من الأبحاث الاقتصاديّة والماليّة، فإنّه يتوجّب على أوروبا أن تُسرّع جهودها لتنويع مصادر الطاقة بالاعتماد على الطاقة المتجدّدة وإقامة شراكات جديدة لاستيراد الغاز والنفط من مصادر بديلة مثل الشرق الأوسط والولايات المتّحدة. كما يتوجّب على الإتّحاد الأوروبيّ أيضاً أن يُعزّز سياساته الداخليّة لتحسين التنسيق الاقتصاديّ بين الدول الأعضاء وتقليل الاعتماد على الواردات الخارجيّة من خلال تعزيز الإنتاج المحليّ وتقنيات الطاقة البديلة، دون أن يغيب على الولايات المتّحدة الأميركيّة وأوروبا العمل معاً لحل النزاعات الاقتصاديّة والجيوسياسيّة من خلال الدبلوماسيّة والتعاون المتعدّد الأطراف؛ وهذا يشمل العمل على إصلاحات في منظمة التجارة العالميّة وتعزيز السياسات التجاريّة المنصفة.
أختم بالقول إنّ النزاع الدائر حاليّاً بين الولايات المتّحدة وروسيا له تأثيرات عميقة على الاقتصاد العالميّ، فبينما تواجه أوروبا تحديّات كبيرة في تأمين الطاقة والحفاظ على الاستقرار الاقتصاديّ، تجد الولايات المتّحدة نفسها في موقف صعب بسبب ارتفاع التكاليف والتضخم. ولذلك، فإنّ الحلول الفعليّة تتطلّب تعاوناً دوليّاً وتنسيقاً استراتيجيّاً مع روسيا والصين لمواجهة هذه التحدّيات وضمان الاستقرار الاقتصاديّ العالميّ.