إقتصادالاحدث

تداعيات الحرب التجاريّة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين | بقلم د. رنا منصور

تُعدّ الحرب التجاريّة الدائرة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين أحد أبرز النزاعات الاقتصاديّة في القرن الحادي والعشرين، حيث تعكس التوتر العميق بين أكبر اقتصادَيْن في العالم، وتسجّل فصلاً جديداً في صراع يتجاوز التجارة ليطال التكنولوجيا، العملة، والنفوذ الجيوسياسيّ.
جذور الخلاف: أكثر من تجارة
لم تبدأ الحرب التجاريّة بين واشنطن وبكين مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، بل تعود جذورها إلى تسعينيّات القرن الماضي، حين بدأت الولايات المتّحدة تُعرب عن قلقها من الممارسات الاقتصاديّة الصينيّة، كدعم الدولة للشركات، وغياب الشفافيّة، وانتهاك حقوق الملكيّة الفكريّة، وتلاعب بكين المزعوم بعملتها لتعزيز صادراتها. ومع انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالميّة عام 2001، تأمّل الأميركيّون أن تؤدّي هذه الخطوة إلى تحرير الاقتصاد الصينيّ تدريجياً، إلّا أنّ الواقع أظهر أنّ بكين استفادت من النظام التجاريّ العالميّ دون أن تُخضع اقتصادها للمعايّير الليبراليّة الغربيّة. هذا التفاوت فجّر فيما بعد أكبر أزمة تجاريّة في تاريخ العلاقات بين البلدَيْن.
إدارة ترامب: من الإحتواء إلى المواجهة
مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تغيّر نهج واشنطن من الإحتواء إلى المواجهة. في نيسان 2025، أعلن ترامب فرض رسوم جمركيّة بنسبة 34% على الواردات الصينيّة، فردّت بكين بالمثل، ورفعت الرسوم على السلع الأميركيّة إلى 84%. وصف وزير الخزانة الأميركيّ “سكوت بيسنت” هذا الرد الصينيّ بـ”الخسارة للصين”، مشيراً إلى أنّ صادرات واشنطن إلى بكين تفوق بخمسة أضعاف ما تستورده الولايات المتّحدة الأميركيّة منها. ورغم إصرار ترامب على إمكانية التفاوض، اتّهم الصين بأنّها “أسوأ المخالفين في نظام التجارة الدوليّ”، ما أضاف بُعداً سياسيّاً للصراع الاقتصاديّ. وعندما أعلنت بكين عن رسوم إضافيّة بنسبة 50%، رفع ترامب الرسوم المفروضة على السلع الصينيّة إلى 125%، معتبراً أنّ “أيام استغلال الصين للأسواق العالميّة قد انتهت”.
تداعيات اقتصاديّة عالميّة
تسبّبت هذه التصعيدات المفاجئة في اضطراب الأسواق العالميّة، وأدّت إلى خسائر بتريليونات الدولارات في البورصات. علّق ترامب جزءاً من الرسوم المفروضة على شركاء آخرين مثل الإتّحاد الأوروبيّ واليابان، وفرض تعريفة موحّدة بنسبة 10% لمدة 90 يوماً لإعطاء فرصة للمفاوضات، بينما أبقى على التصعيد مع الصين. اللافت أنّ قطاعات حيويّة مثل النفط، الغاز، أشباه المواصلات، والمعادن الأساسيّة استُثنيت من الرسوم، لكن من المتوقع أن تواجه تحقيقات تجاريّة لاحقة.
أبعاد استراتيجيّة
إنّ الحرب التجاريّة الحالية تتجاوز حدود الأرقام والتعريفات، فهي تعكس مواجهة بين نموذجَيْن اقتصاديَّيْن وسياسيَّيْن: النموذج الأميركيّ القائم على السوق المفتوحة، والنموذج الصينيّ المرتكز على تدخّل الدولة في توجيه الاقتصاد. كما تُظهر هذه الحرب قلق واشنطن المتزايد من الصعود الصينيّ، ليس فقط كقوة اقتصاديّة، بل أيضاً كمنافس تكنولوجيّ وعسكريّ.
إلى أين؟
رغم التصعيد غير المسبوق، تبقى نهاية هذه الحرب رهناً بإرادة الطرفَيْن في التفاوض. أكثر من 75 دولة تواصلت مع واشنطن بحثاً عن حلول، ما يشير إلى أنّ العالم كلّه يترقّب مخرجاً من هذا الصراع. لكن طالما أنّ الصين تصر على الرد بالمثل، والولايات المتّحدة الأميركيّة تمضي في سياسة العقاب التجاريّ، فإنّ الطريق نحو تسوية شاملة لا يبدو سهلاً في المدى القريب.
صراع ما بعد التجارة
ختاماً، فإنّ الحرب التجاريّة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين لم تعد مجرّد خلاف حول الميزان التجاريّ أو الرسوم الجمركيّة، بل تحوّلت إلى ساحة مواجهة شاملة على مستقبل النظام الاقتصاديّ العالميّ.
فواشنطن ترى في بكين منافساً استراتيجياًّ يسعى إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة الدوليّة، فيما تعتبر الصين أنّ الإجراءات الأميركيّة محاولة لعرقلة صعودها المشروع إلى مصاف القوى الكبرى.
وبين التصعيد والتفاوض، يبدو أنّ العالم دخل مرحلة جديدة عنوانها “التعدديّة القطبيّة الاقتصاديّة”، حيث لم يعد الاقتصاد العالميّ مرهوناً بقرارات واشنطن وحدها، كما لم تعد الصين تقبل بلعب دور “مصنع العالم” فحسب، بل تطمح إلى قيادة الإبتكار والتكنولوجيا. وهذا الصراع، بقدر ما يعكس مصالح وطنيّة ضيقة، يُسلّط الضوء أيضاً على الحاجة الماسّة لإعادة صياغة قواعد التجارة الدوليّة لتكون أكثر عدالة وتوازناً في زمن التحوّلات الكبرى.

د. رنا هاني منصور

د. رنا هاني منصور دكتوراه في العلوم الاقتصادية- بنوك وتمويل أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية، كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال- الفرع الأول أمينة سر جمعية الخبراء الماليين عضو في اللجنة العلمية للجمعية اللبنانية لتقدم العلوم عضو في اللجنة الإستشارية لمجلة جويدي للإبتكار والتنمية والإستثمار لها أكثر من 150 مقال في العديد من المواضيع المالية، الاقتصادية، السياسية والاجتماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى