على الرغم من أن الثلاثة الحاصلين على جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام يستحقونها عن جدارة، لكن تلك الجائزة قد كشفت عن الوجه الحقيقي للاقتصاد العالمي، من حيث تهميش عدد من القضايا الهامة؛ كتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين، وتطوير أساليب البحث العلمي، والفحص الذاتي، إلى جانب القصور الواضح في القدرة على التغلغل الحقيقي في حياة الفقراء ورأب الصدع فيها.
لا شك أن الفائزين بجائزة بنك السويد المركزي في ذكرى ألفريد نوبل هذا العام ومن بينهم الخبيرة الاقتصاد إستر دوفلو- وهي ثاني إمرأة، وأول اقتصادية تحصل على الجائزة- يستحقون الشكر والثناء نظير مساهماتهم في إحداث نقلة نوعية في الأساليب الاقتصادية، إلا أن هناك بعض المخاوف إزاء التحولات الجديدة. فمشروع ‘randomista’ ليس مجرد مشروع منهجي فقط، بل هو مخطط شامل قائم على إعداد أجندة معيارية لمبادئ الأبوية والهندسة السلوكية، وبالتالي فإن نتائج التجارب السريرية المعشّاة للمشروع قد تفتقر إلى الدقة العلمية.
أثر التجارب السريرية على الاقتصاد وصناعة القرار
يسلط البيان الصحفي المصاحب للجائزة، الضوء على الكيفية التي ساهم بها الفائزون بالجوائز الثلاثة في تغيير اقتصاديات التنمية من خلال تقديم الأساليب التجريبية وتعميمها. فقد استعار كل من مايكل كريمر ، أبهيت بانيرجي وإستير دوفلو، منهجية التجارب السريرية من عالم الطب، وقاموا بتطبيقها بهدف تقييم تدخلات السياسة الاجتماعية. وتعد تلك التجارب، جزء من مجموعة أوسع من التجارب العشوائية التي تتم في منظمتين؛ مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر (J-PAL)، والابتكارات لمكافحة الفقر (IPA).
وكانت أبرز المنشورات التي قدمها كل من بانيرجي ودافلو؛ كتاب (الاقتصادات الفقيرة) والذي تم طرحه في عام 2011، حيث أكدا الاقتصاديان خلاله على أن التجارب الاجتماعية الميدانية هي السبيل الأمثل لتحسين حياة الفقراء.
ويمكن القول بأن منهجية التجارب السريرية باتت تهيمن على اقتصادات التنمية في العالم. ومع ذلك، لازال فريق من الباحثين يتساءل عما إذا كانت تلك التجارب قادرة على تحقيق نتائج مؤكدة وصحيحة، وبخاصة أن تلك الأساليب تعمد إلى تصنيف الأسئلة وتحديدها في قالب ثابت نسبيا.
لقد ساعدت البحوث العشوائية على خلق أصولية منهجية في بعض مناظرات السياسة الاجتماعية، وبالتالي فقد يعتبر الباحثون أن التجارب العشوائية التي يقومون بإجرائها بأنفسهم هي المعيار الوحيد الصحيح الموثوق به، كما أن ارتفاع تكلفة تلك التجارب وعدم دقة النتائج هو ما دفع عدد من الخبراء حول التساؤل عن مدى قدرة المنهجية الجديدة على إحداث تغيير جذري في حياة الفقراء.
الشق السلوكي للتجارب السريرية
وعلى الصعيد السلوكي، فقد طرحت المنهجية الجديدة تساؤلات هامة ليس فقط عن سلوكيات الفقراء المبحوثين، ولكن أيضا عن سلوكيات الباحثين القائمين بتنفيذ التجارب. فعندما فشلت إحدت التجارب التي تم إجرائها لاختبار دور (التمويل المصغر) في الاقتصاد، لم يول الباحثون الكثير من الاهتمام لتداعيات نتائجهم الغير دقيقة، وبدلا من ذلك فقد ركزوا على بعض النتائج الإحصائية الصغيرة والمتعلقة ببعض المتغيرات، مثل أثر التمويل المصغر على تشجيع الانخراط في ريادة الأعمال وخفض السلوكيات الاستهلاكية لبعض السلع الجاذبة.
وعلى الرغم من أن تلك الأفكار قد ساعدت على تحويل النماذج الاقتصادية بطريقة أكثر تقدمية، وتمكين أكبر قدر ممكن من الواقعية والتعددية في النماذج الفكرية الاقتصادية المطروحة، إلا أنه من ناحية أخرى قد أدت إلى نوع من الجهود الغامضة في مجال إعادة هندسة سلوكيات الفقراء، والتي اكتسبت قوة جذب هائلة في التنمية العالمية.
ويستدعي النموذج السلوكي الجديد ، الذي تم تدوينه في تقرير “التنمية في العالم لعام 2015 الصادر عن البنك الدولي حول العقل والمجتمع والسلوك” ، تغيير المعايير الاجتماعية المستهدفة والتسويق المبتدئ من خلال الترفيه و “هندسة الاختيار” و “الدفع” والضغوط الاجتماعية والشرطيات العقابية التي تستهدف تغيير سلوكيات الفقراء. وترتكز الفكرة الأساسية في “مساعدة” الفقراء على التغلب على “كره المخاطرة” الذي يفترض أنه غير منطقي، وذلك من أجل تشجيعهم على الانخراط أكثر في ريادة في الأعمال ، وتدريبيهم على كيفية استثمار الوقت والادخار من أجل المستقبل.
والجدير بالذكر أن نتائج تلك التدخلات السلوكية يمكن أن تكون غير وافية ومثيرة للقلق في نفس الوقت، وذلك لأنها تركز في الأساس على دور الأب في الأسرة وتلقي باللوم على الضحية في صورة مضللة. ويفسر النموذج السلوكي، الدخل المنخفض والأحوال المعيشية غير المستقرة، في ضوء السلوكيات الفردية والتحيزات المعرفية، مع تعمد غض الطرف عن مسئولية الأنظمة السياسية والاقتصادية.
والحقيقة، أن الفقر ليس مجرد نتيجة لأوجه القصور في السلوكيات الفردية للفقراء فحسب، فالأغنياء يرتكبون الأخطاء أيضا- ربما بأموال غيرهم في كثير من الأحيان- ولكن العواقب بالنسبة لهم أقل بكثير. ووفقا لما أقر به عدد من الخبراء العام الماضي؛ فإن المقاربات السلوكية والتجارب السريرية قد صممت عمليا لتغيب عن الصورة الأكبر.
النماذج السلوكية في مواجهة الاقتصادات المتطورة
لقد كشفت الجوائز السابقة عن المساهمات التي قدمها بعض الاقتصاديين في مجال التنمية والحد من انتشار الفقر، لكن السنوات الأخيرة قد بشرت بحدوث تحول جذري في الأنماط السلوكية باعتبارها المسئول الأول عن الفقر.
وأخيرا فإن القول بأن الجوائز الحديثة تكشف عن فقر النظام الاقتصادي، يعني أن الأمر لا يقتصر فقط على جانب المساواة بين الجنسين، ولكنه يظل ضعيفا على مستوى المنهجية أيضا، وذلك نظرا لتفوق التحليل الكمي على الطرق النوعية، مما جعل المناقشات تتحول نحو اقتصادات غير متجانسة تفتقر إلى البصيرة. والجدير بالذكر أنه من شأن الاقتصاد التدريجي للقرن الحادي والعشرين أن يتخلى عن الطريقة السلوكية في التفكير والمنهجية ، ويفسح المجال أمام الأسئلة السياسية والاجتماعية والثقافية حول أسباب الفقر وعدم المساواة. فالاكتشافات الحقيقية تنتظر الاقتصاديين الذين يسعون نحو التفكير خارج الصندوق.
رابط المقال الأصلي اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا