إقتصادالاحدث

سعر صرف الدولار بين التحرير والتثبيت: الواقع والتحديات | بقلم د. رنا منصور

يُعتبر سعر صرف العملة الوطنيّة تجاه العملات الأجنبيّة، ولا سيّما الدولار الأميركيّ، من أبرز السياسات الاقتصاديّة التي تتّخذها الدول، حيث تلعب قوة الاقتصاد دوراً حاسماً في تحديد قوة العملة. لذا فإنّ التلاعب بسعر الصرف بشكل مصطنع يمكن أن يؤدّي إلى مشكلات كبيرة في الاقتصاد والعلاقات الدوليّة. ويتساءل الخبراء الاقتصاديّين اليوم عن الحل الأمثل لسعر صرف الدولار في لبنان بين التحرير والتثبيت. وما هي التحديات المرتبطة بكل منهما؟

بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى أنّ مَصرف لبنان حافظ على سياسة تثبيت سعر الصرف لفترة طويلة، حيث كان السعر الرسميّ ثابتاً عند 89500 ليرة لكل دولار. ورغم بعض الإيجابيّة التي لمسها المواطن اللبنانيّ من تثبيت سعر الدولار، إلّا أنّ هذا التثبيت يحمل سلبيات عديدة كونه يعتمد على أدوات غير تقليديّة وتدخّلات غير شفافة. كما يُعتبر هذا التثبيت “مصطنعاً” حيث لا يستند إلى قاعدة اقتصاديّة صلبة تمكّن من النمو الاقتصاديّ، بل يزيد من الإنكماش في ظل غياب الخطط الإصلاحيّة والقوانين المساعدة للمصرف المركزيّ على استقرار السوق النقديّ.

من إيجابيات تثبيت سعر الصرف أنّه يُمكن أن يوفّر استقراراً اقتصاديّاً نسبيّاً ويمنع التقلّبات الحادة في قيمة العملة الوطنيّة. كما أنّ هذا الاستقرار يُسهّل على الأفراد والشركات التخطيط الماليّ طويل الأجل ويساعد في تخفيف الضغوط التضخميّة التي قد تنشأ من تدهور العملة الوطنيّة. وعندما يكون سعر الصرف ثابتاً، يُصبح من الأسهل للمستثمرين الأجانب والمحليّين تقيّيم المخاطر وتوقّع العوائد. هذا يمكن أن يزيد من الاستثمارات في البلاد، ممّا يدعم النمو الاقتصاديّ ويُساهم في خلق فرص عمل جديدة. وبذلك، فإنّ تثبيت سعر الصرف يمكن أن يحمي القوة الشرائيّة للمواطنين خاصة في الدول التي تعتمد بشكل كبير على الواردات. فعندما تكون العملة مستقرّة، تكون أسعار السلع المستوردة أكثر استقراراً، ممّا يساعد على الحفاظ على مستوى معيشة المواطنين.

في المقابل، يُعتبر تحرير سعر الصرف ضمن ضوابط معيّنة أكثر فاعليّة وأقل تكلفة على الاقتصاد. كما يسمح التحرير لسعر الصرف بالتحرّك بناءً على العرض والطلب، ممّا يُساعد في استيعاب التغيّرات الاقتصاديّة بمرونة أكبر. وعلى هذا، يتطلّب هذا النظام سياسات اقتصاديّة مستقلّة وعلاقات تجاريّة وماليّة خارجيّة حرة.

علاوة على ذلك، إنّ تجارِب الدول الأخرى مثل المكسيك وبريطانيا وإيسلندا تُظهر أنّ تحرير سعر الصرف يمكن أن يكون مفيداً في استيعاب الأزمات الاقتصاديّة بشكل أفضل مقارنة بالدول التي تعتمد سعر الصرف الثابت. أضف إلى أنّه، خلال أزمة 2008-2009، تمكّنت الدول ذات سعر الصرف الحر من حماية اقتصادها بشكل أفضل من الدول التي تعتمد سعر الصرف الثابت.

والحقيقة أنّ لبنان اعتمد لفترة طويلة سياسة سعر الصرف الثابت تجاه الدولار مع بعض المرونة، ممّا ساهم في استقرار نسبيّ. لكن السياسات الاقتصاديّة الخاطئة والأوضاع السياسيّة المتعثّرة أدّت إلى انهيار سعر الصرف وسقوط الليرة. كذلك، منذ العام 2019، شهد لبنان انهياراً كبيراً في سعر صرف الليرة، ممّا أدّى إلى خسارة ثلثَيْ الناتج المحليّ وانحدار الدخل الفرديّ إلى مستويات غير مسبوقة.

ولذلك، يحتاج لبنان إلى إصلاحات اقتصاديّة جذريّة وسياسات نقديّة شفافة لاستعادة الاستقرار الاقتصاديّ. كما يتطلّب الإنتقال في لبنان إلى نظام سعر الصرف الحرّ تدريجيّاً توفير بيئة اقتصاديّة مستقرّة ودعم من المؤسّسات الدوليّة مثل صندوق النقد الدَّوْليّ، فضلاً على أنّه يجب على الدولة تحسين إدارة مواردها وتقليل الفساد لتحقيق النمو الاقتصاديّ المستدام.

أمّا اليوم، فيُعتبر تثبيت سعر الصرف في لبنان على 89500 ليرة للدولار “مصطنعاً” لأنّه لا يعكس الوضع الاقتصاديّ الحقيقيّ. فهذا التثبيت يمكن أن يؤدّي إلى تشوّهات اقتصاديّة ويُعزّز الإنكماش الاقتصاديّ في ظل غياب إصلاحات اقتصاديّة حقيقيّة. لا سيّما أنّ التدخّل المستمر للبنك المركزيّ للحفاظ على سعر صرف ثابت يتطلّب احتياطات نقديّة كبيرة ويزيد من الأعباء الماليّة على الدولة، ويمكن أن يؤدي إلى استنزاف هذه الإحتياطات بسرعة في حال تعرّض الاقتصاد لصدمات خارجيّة أو داخليّة. فضلاً على أنّ عدم الشفافيّة في إدارة سعر الصرف واستخدام أدوات غير تقليديّة يُمكن أن يضرّ بمصداقيّة المصرف المركزيّ والدولة. ثم إنّ التدخلات غير المعلنة يمكن أن تخلق حالة من عدم اليقين وتؤدّي إلى فقدان الثقة في العملة الوطنيّة. أضف إلى أنّ تثبيت سعر الصرف قد يُشجع على المضاربة في السوق النقديّة، حيث يمكن أن يسعى المستثمرون للإستفادة من الفروق بين السعر الرسميّ والسعر في السوق السوداء، وهذا يُمكن أن يؤدّي إلى عدم استقرار اقتصاديّ ويزيد من الضغط على العملة الوطنيّة.

وبعد استعراض ما تقدّم، أستخلص أنّه في حين يُمكن لتثبيت سعر الصرف أن يوفّر استقراراً اقتصاديّاً ويشجّع الاستثمار، فإنّه يحمل في طياته العديد من المخاطر، خاصة إذا كان مصطنعاً ولا يستند إلى أسس اقتصاديّة قوية. لذا يجب على الدول التي تتّبع هذه السياسة أن تكون مستعدة للتعامل مع تكاليفها وآثارها الجانبيّة، وأن تسعى لتحقيق توازن بين الاستقرار النقديّ والنمو الاقتصاديّ المستدام. وبناء عليه، في حالة لبنان، يمكن أن يكون التحوّل التدريجيّ نحو نظام سعر الصرف الحر مع إصلاحات اقتصاديّة شاملة الطريق الأمثل لتحقيق الاستقرار والنمو المستدام.

د. رنا هاني منصور

د. رنا هاني منصور دكتوراه في العلوم الاقتصادية- بنوك وتمويل أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية، كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال- الفرع الأول أمينة سر جمعية الخبراء الماليين عضو في اللجنة العلمية للجمعية اللبنانية لتقدم العلوم عضو في اللجنة الإستشارية لمجلة جويدي للإبتكار والتنمية والإستثمار لها أكثر من 150 مقال في العديد من المواضيع المالية، الاقتصادية، السياسية والاجتماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى