إذا أردتَ تقويضَ شعبٍ أتخِمهُ ، ثمّ املأ شوارعه بالدّعايات، ثمَّ امنحه القروض الميسّرة أساساً لاقتناء ما لا يحتاجه إلا تلبيةً لأثر الظّهور، ثمَّ ابدأ تخويفه بقطع الإمداد عنه، واجعله خاضعاً لاقتصادِ الهلع .. عندها ستجد شعباً يسير بحسب إملاءات رغباته لا ضميره ولا مصلحته حتى، سيقتنع بأيّ مشروعٍ يدرُّ عليه حفنةَ قروشٍ مقابل رهنِ.. كلّ شيء. وبذلك، يذهب إلى الجحيم راقصاً بينَ الحُبورِ والخوف..
تشبه حالنا قصّة ” أبو عنتر ” ( زعيم السّجن) في أحد مسلسلات ” غوار ”
فذات يوم، قرّر أبو عنتر في السّجن، تحت ذريعة، عدم تكرار مأساة سرقة المساجين، أن يفتح لهم مشروعاً فقال: ” بدي أعملّكن مشروع شغّلكن مصريّاتكن فيه وتاخدوا فوايد أقله 20ـ 30 بالميّة !!”
سأله أحد السجناء : ” وشلون هيدي!!؟ ”
جاوبو أبو عنتر.. ” لبدو يشغّل مصريّاتو بيحطّن عند فرَّيدي ( أحد معاونيه في الزنزانة ) و بياخد فوراً أرباح 20 بالميّة!! ” .. هنا استغرب فرِّيدي نفسه سائلاً أبو عنتر : ” وشلون هيدي؟ !! من وين بدي جبلن إدفعلن الأرباح ؟ ” فجاوبه أبو عنتر : ” من دهنو سَقّيلو..”
هنا وأمام ذهول المساجين و ثقتهم بأبي عنتر قاموا بإيداعه كل ما تحتويه جيوبهم .. لا بل من لم يكن يملك فلوساً استدان من سجين آخر مقتنعاً بفكرة الأرباح الفوريّة ..
وبعد حين سأل فرّيدي أبو عنتر: ” معلّمي، شو هوّي هالمشروع هيدا ؟ ”
أجابه أبو عنتر : ” لهلّق ما بعرف..!! ”
نعم حتى الآن لا نعرف ما أصل ذلك المشروع المالي.. الذي أوصلنا إلى شحّ النّقد في سجنٍ إستهلاكي بامتياز..
من أجل دعم تثبيت سعر الصّرف، كان لرفع الفوائد على السّندات والودائع بالليرة اللبنانيّة، الأثر السّلبي على الإقتصاد حيث تم تغييب إنتاجيّته المتواضعة أساساً، نحو مزيدٍ من إقتصاد الوهم .. في الوقت الذي كنّا بأمسِّ الحاجة لتوظيف الاقتراض الواسع الذي تمّ في غضون الثلاثة عقود الأخيرة لبناء إقتصاد إنتاجيّ يقويّ مناعة لبنان في محيطٍ جيو استراتيجي مهتزّ.
هكذا تكوّنت الثروات بأن فاقت نسبة الفوائد ال 45% على السندات بالليرة، ما حدا بشراء كثيف لها من قبل المصارف والأفراد من لبنانيين وعرب، وتم تفريغ البلد من طاقاته الإنتاجيّة والمبادرات الاستثمارية نحو ” اقتصاد أبو عنتر “. فأصبح الهدف يصبو لاكتناز المال وبناء الثروات الشخصية، تحقيقاً للمثل القائل ” معك قرش بتسوى قرش”
مؤسفٌ في بلدٍ يرزح تحت نِيرِ المديونيّة أن يكافأ أصحاب الرّساميل بكرمٍ مغدقٍ ، و يُعاقب المستثمرون بضراوةٍ شرسة، خلافاً لكلّ مبادئ علم الإقتصاد.. فبدلاً من تحفيز الرأسماليّين على دعمِ الإستثمارات القطاعيّة اللبنانيّة، تمّ تشجيعهم على مضاعفة ثرواتهم باللّجوء إلى ” فرّيدي “..
كل ذلك تحت الأضواء التي أعمت بصائرنا بإسم تثبيت سعر الصّرف..
البعض يتكلّم عن تحرير سعر الصّرف أو تعويمه بالمصطلح الإقتصادي.. والفائدة المتوخّاة من الإبقاء على تثبيته ..
اليوم بتنا متأخرين عن كسب أيّة فرصة مع نظام ريعيّ يحكمه التضخّم..
إنه الفخّ الذي وقعنا فيه جميعاً، فلا يكذبنَّ أحدٌ علينا بعد اليوم، إذ في حال تحرير سعر الصّرف ، ستقوم كارثة إجتماعيَّة مع انخفاض قيمة الرواتب والأجور و تراجع حادّ للقدرة الشرائية..كما وارتفاع كلفة الإستيراد وتمويل ميزان المدفوعات في ظلّ إيجابيّة يتيمة تكمن في خفض حجم كتلة الدين العام بالليرة اللبنانيّة الذي يشكّل ثلثي الدّين العام الإجمالي.
كان يمكن لتحرير سعر صرف الليرة اللبنانيّة أمام الدولار الأثر الإيجابي خلال تمتع لبنان بمؤشرات اقتصادية قويّة. حيث التحرير كان ليقلّص الدين العام، ويزيد من قدرة الليرة الشرائية ويعزز قوّتها..
أمّا في ظلّ اقتصادنا الريعيّ والنظام النقدي المنتهج زيادة ثروة المصارف وثروات الأقلية،على حساب الأكثرية.. ما عاد لتعويم وتحرير سعر صرف العملة إلا الأثر السلبي البحت الذي قد يؤسّس لانهيار اقتصادي واجتماعي شامل.
بالمقابل فإنَّ تثبيت سعر الصرف أو حتى اعتماد التعويم الموجَّه مكلفٌ جداً على الدولة و سينهش كامل الاحتياطي بالعملات الأجنبية، ما يؤدي ( على الطّريقة الرائجة ) لابتكار هندسات ماليّة مجدّدة تلبيةً لتسديد استحقاقات الدّولة وأرباح البنوك والمقرضين الكبار.
الإيجابيّة اليتيمة لتحرير سعر الصرف، كما أسلفنا، هي في خفض حجم كتلة الدين العام بالليرة اللبنانية الذي يشكل ثلثي الدين الإجمالي.
أمام مساوئ التثبيت والتحرير لسعر الصرف، يبقى الحلّ الأنجع الذي يمكن أن يؤسّس لنظام إقتصادي لبناني جديد، هو استعادة المال المسروق على الطّريقة التي خبرناها في أكثر من دولة عربيّة وغير عربيّة. سيسمح ذلك بإحياء قدرة الدّولة على الإستثمار العام عبر إلغاء الدّين العام بالمال المسترجع.
من يملك حلاً آخر كي لا نبقى شعباً إستهلاكياً يمتصلُ من دمِهِ ليَستَقي، فليتقدّم قبل استنزاف كل الدّماء وانتهاء محكوميّة ” أبو عنتر و فرِّيدي ”
للإشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا