لبنان : تأجيل انفجار عصي على الإلغاء | بقلم البروفسور مارون خاطر
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لا يَختَلِفُ اجتماعُ بعبدا الأخير عمَّا سبقه من محاولات لم تُفلح في إيجادِ حلولٍ لمُعاناةِ لبنان واللبنانيين. اللقاء الذي أُريدَ منه إيجاد حلٍّ شاملٍ لمشكلةِ المحروقات لن يُحقِّقَ مُبتغاه إذ لا حَوْل لعلاجِ النتائج في إنتاج حلولٍ شاملة. أما علاجُ الأسباب، الذي لا تألفه دولتنا منذ قيامها، فمكانه طاولة حكومة جديدة. حكومةٌ مُصغَّرة، مُستقِلّة وقادرة على إقرارِ إصلاحاتٍ تَفرُضُها الجهاتُ الدولية المانحة ولا سيَّما صندوق النقد الدَّولي. بدايةً، لا بدَّ من السؤال عن دستورية هذا الإجتماع لناحيةِ الاختصاص والصلاحية في اتخاذ قرارات تُلزِمُ ماليَّة الدولة من خارج مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للدفاع. إستطرادًا، نسأل عن أسباب عدم انعقاد حكومة تصريف الأعمال بعد أن اجتاز رئيسها المعنى الضيِّق لتصريف الأعمال إلى فضاء المعاني الوسيع. إلى عدم صوابية التركيز على علاج النتائج بدون الأسباب، تواجه مُقررات لقاء بعبدا عواقبَ تطبيقيّة تتعلّق بمبلغِ الدعم وبمصادرِ تمويله.
نبدأ من حجم الدَّعم الذي حُدِّدَ أقصاه بـ 225 مليون دولار فقط حتى نهاية أيلول (سبتمبر). تُشير الأرقام الى أن لبنان أنفَقَ أكثر من 820 مليون دولار على استيراد المحروقات خلال شهر تمّوز (يوليو) الفائت والذي عاش فيه اللبنانيون اُمَّ أزمات المحروقات. توازياً، لم يتَّخِذ المجتمعون أي خطوات جِدّية استثنائيَّة لضبط الحدود ومَنع التهريب الذي لم يَرِد أصلاً في البيان الرئاسي. من ناحيةٍ أُخرى، غابت ضوابط مكافحة التخزين الذي يُكرِّسُ وجودَ سوقٍ سوداء نفطيَّة داخلية وعابرة للحدود. تدفَعُنا هذه الأسباب إلى الاعتقاد الجازم بأن ما سُوِّقَ على أنّه حلٌّ شاملٌ لمشكلة المحروقات ليس إلّا إنفاقٌ باهظٌ على شراء الوقت وتأجيل الحلّ عبر جرعةٍ بمفعولٍ أكثر من مُسَكِّن وأقلّ مِن مُخَدِّر. في ظلِّ النَقص الحاد في الكميّات المتوافرة واستمرار جولات الترهيب والتهريب والتخزين، لن تَكفي المبالغ المرصودة إلّا لأسابيع قليلة لن تصل بالتأكيد إلى نهاية أيلول (سبتمبر). موازاةً لذلك، سيستمر الذُّل وطوابيره في التحكّم بيومياتنا المُظلِمة. من المُهم الإشارة الى أن إدخال بواخر إضافية لن يُساهِمَ في التخفيف من وطأة الأزمة، لذلك قد يكون من الحكمة الابتعاد عن التوتّر السياسي وتجنُّب العقوبات وتركيز الجهود على تشكيلِ حكومةٍ لكلِّ لبنان.
أما تمويل الدَّعم المُقَرّ فأظهر تبايُناً صريحًا بين البيان الرئاسي وتصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لوكالة “رويترز”. ففي حين تطرَّق البيان الى تمويل الخزينة اللبنانيَّة للفارق بين سعر الدولار على مِنَصَّة “صيرفة” والسعر الجديد لشراء المحروقات، أشار الحاكم إلى أن التمويل سيأتي عَبرَ الحكومة. في كلتا الحالين نسأل: من أين لخزينة الدولة الغارقة في الديون والمعدومة الإيرادات القدرة على التمويل؟
أي موازنة ستُقَرّ في 2022 على أنقاض “القاعدة الاثني عشرية” التي تَحْكُمُ 2021 ومشروع موازنتها المُعيب؟
أي حكومة هي تلك التي تملك عملةً صعبة لتموِّل وتتصرَّف؟
ما الذي يَحمي أموال المودعين ويَحرس الاحتياطي الإلزامي وحتى الذَهَب من أطماع مُسيئي الأمانة؟
إن تَمويلَ ما أقرَّه اجتماع بعبدا مُعضِلةٌ سريّةٌ لن تُحَلَّ إلّا بوضعِ اليد وباستباحة أموال الناس. يبقى أن نشدِّدَ على أنَّ كل ما يُنفَق على المحروقات ليس إلّا استنزاف لما تبقّى من عملة صعبة وإن اختلف الإخراج. أمّا تمويل زيادة بدل النقل والمساعدة لموظفي القطاع العام فيتكفَّل بها “الطبع” وهو مرفوض من حيث المبدأ في ظلِّ النمو الاقتصادي السلبي لاقتصادنا. إلّا أن تداعيات هذين القرارين على التضخّم وعلى سعر الصرف تبقى محدودة لذلك لن نُسهِبَ في تحليلها.
لا شكّ في أنَّ الحاكم هو أحد أبطال أزمة لبنان، كما في أن الحرص غير المسبوق على الإحتياطي مُستَغرَبٌ جدًا. إلّا أن التسويف والمُطالعات الخاطئة في قراءة أسباب الأزمة تُشكِّل عائقاً أمام إيجادِ حلولٍ حقيقيَّة لها. ليس صحيحاً أنَّ أزمة المحروقات سببها أنَّ الحاكم رفع الدعم في هذا التوقيت، كما أنَّه ليس صحيحاً أنَّ الأزمة تفاقمت بسبب قرار رفع الدعم الذي يبدو أنه لم يكن أحادياً. مِن ناحية ثانية، قرارُ رفعِ الدعم نِتاجُ مجلس المصرف المركزي وهو بالتالي قابِلٌ للتعليق من قِبَل مفوَّض الحكومة لدى المصرف بموجب المادة 43 من قانون النَّقد والتسليف، فلماذا لم يُعلَّق فتنتهي أزمة المحروقات وأزمة لبنان؟
ما تسبّبَ بأزمة لبنان موافقة الحاكم وإصرار كل من حَكَم لبنان إلى اليوم منذ عُيِّنَ حاكماً على اعتبار أنَّ جميع الظروف هي استثنائية الخطورة وأنَّ جميع الحالات هي حالات ضرورة قصوى.
ما تسبَّبَ بأزمة لبنان أن حُكَّامه أساؤوا تفسيرَ واستعمال المادة 91 من قانون النَّقد والتسليف فموَّلوا عبرها المجالس والصناديق والاستيراد والمُحاصصة والزبائنية والتبعية والطائفية والفساد.
ما يُفاقِمُ أزمة لبنان أنَّ جنونَ العَظَمَة والأنانيَّة والنرجِسيَّة والنَكَد السياسي تتحكّم بمستقبل بلدنا وشعبه.
ما أوصل لبنان إلى هذا القعر هو غياب النيَّة الحقيقية في الإصلاح لدى الجميع والإستمرار في اعتبار شراء الوقت والهروب إلى الأمام حلولاً، تزامناً مع تأجيل الحلول.
أخيراً، لا يتعدَّى إجتماع بعبدا الأخير كونه محاولةً لتأجيل انفجارٍ أصبحَ عصيَّاً على الإلغاء. يبقى السؤال الأهم، ماذا سيحلّ بنا يوم يقضي أيلول (سبتمبر) أيامه ويُرفَعُ الدَّعم؟ أفي لبنان اليوم عاقلٌ يُصَدِّق أنَّ ما تبقى من دولتنا سَيُفلَحُ في إنجاز البطاقة التمويلية في غضون شهر أو إثنين أو ثلاثة؟ ولماذا لم تُنجَز إلى الآن؟ هل نكون أمام “إجتماع بعبدا” ثانٍ؟ المطلوب حلولٌ بالعمق لا بدَّ أن تبدأ بتشكيل حكومة وهي إحدى الصلاحيَّات الدستورية التي لم تُستَنفَد بَعد. لِتُشَكَّل حكومة لبنان! قد تكون موانع التشكيل في الظاهر داخلية إلّا أنها بالفعل خارجيَّةٌ بامتياز.