يكون الشعب قويّاً عندما يكون للقوانين قوّة، فبغير ذلك نصبح أمام خيار الإرتهان للفساد و أوامر مختلسي المال العام، فلو أردنا احترام القانون علينا بكلّ بساطة جعله محترماً.
في بلدٍ أكبر ما قيل في أزمته الإقتصاديّة والماليّة من رأس السّلطة أنه ” مش مفلس، البلد منهوب “.
مخطئ من يقول بأنّ قوانيننا ليست حديثة أو غير شاملة لتطال زوايا الفساد المظلمة، أو أنّ أصولها معقّدة.. لا، فنحن لدينا غزارة على مستوى التشريعات التي تطال مختلف النواحي الإجتماعية والإقتصادية والماليّة ، إنّما تبقى العبرة في عدم التطبيق والتحوير والتملّص والقياس والتهرّب والإستزلام والتسويف والمماطلة..
إنَّ السّلطة القضائية كما حدّدتها المادة 20 من الدستور اللبناني هي الضمانة الوحيدة لحماية حقوق المواطن والوطن من أيِّ اعتداء قد يطالهما ، من قبل الخارجين على القانون أو غير الملتزمين نصوصه والمتكابرين والمستزلمين. لقد تكرّست هذه الضمانة في مقدّمة الدستور من خلال النص على التزام السلطة مواثيق الأمم المتحدة والمواثيق الدوليّة بمختلف الحقول والمجالات من دون استثناء.
لقد شمل قانون العقوبات اللبناني الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 340 تاريخ 1/3/1943
العديد من مواد التجريم والمحاسبة في إطار إختلاس المال العام واستثمار الوظيفة العامة يتاح للسلطة القضائية تطبيقها بطلاقة كونها نافذة المفعول منذ تأسيس الجمهوريّة.
لقد جرَّم قانون العقوبات اللبناني صرف النفوذ عبر المادتين 357 و 358 منه، كما و جرَّم الاختلاس واستثمار الوظيفة بكل وجوهها إن بالإكراه أو بالإعفاء الضريبي أو الغش من قبل من أوكل إليهم في القطاع العام إلتزام البيع والشراء للأموال المنقولة والغير منقولة والصيانة والتموين والإستصناع بموجب المناقصات العمومية والإضرار بمشاريع الدولة والتواطؤ لإفساد عمليات التلزيم والتغاضي بالمراقبة والإشراف على مراحل التنفيذ وتقديم المواد الفاسدة و كل موظف حصل على منفعة شخصية من إحدى معاملات الإدارة التي ينتمي إليها من القضاة وجباة المال وممثلي الإدارة وضباط الدولة أو الشرطة وسائر متولّي السلطة العامة الذين يقبضون معاشات من الدولة وكل من يؤخرون تطبيق القوانين أو الأنظمة وجباية الرسوم أو الضرائب أو تنفيذ القرارات القضائية أو المذكرات القضائية والأوامر الصادرة عن السلطة ذات الصلاحية وذلك في المواد 359 حتى 377 عقوبات..
من الناحية التطبيقية أولى قانون أصول المحاكمات الجزائية المعدَّل رقم 328 الصادر في 2/8/2001، بموجب نصٍّ عام، المحاكم العادية صلاحية النظر في جميع الدعاوى الجزائية، ما لم يوجد قانون خاص يمنع عنها صلاحية النظر في قضايا معيّنة ليدخلها في اختصاص محاكم إستثنائية أو خاصة، كالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والمجلس العدلي، والهيئة العامة لمحكمة التمييز الجزائية عندما تنظر بالجرائم المنسوبة إلى القضاة والقضاء العسكري ومحكمة الأحداث ومحكمة المطبوعات والمحكمة الناظرة في القضايا الجمركية ومحكمة مكافحة الغش والإحتكار.
إلا أنه بقي اختصاص المحاكم العادية هو الأصل، لتمتّعها قانوناً بالولاية الشّاملة.
في العام 1999 صدر قانون الإثراء غير المشروع رقم 154 الذي شمل جرائم إثراء الموظف والقائم بخدمة عامة والقاضي أو كل شريك لهم في الإثراء، أو من يعيرونه اسمهم، بالرشوة أو صرف النفوذ أو استثمار الوظيفة، أو العمل الموكول إليهم (المواد 351 إلى 366 من قانون العقوبات)، أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة وإن لم تشكل جرماً جزائياً.
كما الإثراء عن طريق الاستملاك أو عن طريق نيل رخص التصدير والإستيراد أو المنافع و سوء تنفيذ المقاولات والامتيازات والرخص الممنوحة من أحد أشخاص القانون العام جلباً للمنفعة إذا حصلت خلافاً للقانون.
شمل هذا القانون كل موظف أو متعاقد أو متعامل أو مستخدم أو أجير دائم أو مؤقت، في أي ملاك أو سلك، بأي رتبة أو درجة، في الوزارات أو الإدارات العامة أو في المؤسسات في وزارة الدفاع الوطني أو في المؤسسات العامة ومن بينهم رؤساء مجالس الإدارة، أو في المصالح المستقلة أو في البلديات أو اتحاد البلديات، وكل ضابط أو فرد في المؤسسات العسكرية والأمنية والجمارك كذلك من كان قائماً بخدمة عامة وكل من أسند إليه، بالانتخاب أو بالتعيين، رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس النواب أو رئاسة مجلس الوزراء، أو الوزارة أو النيابة أو رئاسة أو عضوية المجالس البلدية أو اتحادات البلديات أو المختار أو الكاتب العدل، أو اللجان الإدارية إذا كان يترتب على أعمالها نتائج مالية، وممثلو الدولة في شركات اقتصاد مختلط، والقائمون على إدارة مرافق عامة، أو شركات ذات نفع عام والقضاة أعضاء المجلس الدستوري والقضاة العدليون والإداريون والماليون وأعضاء كل هيئة قضائية معتبرة جزءاً من تنظيمات الدولة.
ولملاحقة الجرم لا يشترط أن يحصل الإثراء غير المشروع مباشرة أو حالاً، بل يمكن أن ينشأ إما عن الاستفادة من المشاريع المنوي تنفيذها، أو باستخدام أموال الخزينة ووسائل الدولة خلافاً للقانون بقصد تحسين قيمة عقارات يملكها الأشخاص المذكورون في المادة الأولى منه.
لقد كانت السابقة التشريعية التي قدمها قانون الإثراء غير المشروع، موجب رفع السريّة المصرفيّة فألزم الأشخاص المشمولين به والذين دخلوا الخدمة قبل نفاذه، وما زالوا فيها، خلال مهلة ثلاثة أشهر أن يقدّموا تصريحاً موقعاً يبيّنون فيه الأموال المنقولة والغير منقولة التي يملكونها هم وأزواجهم وأولادهم القاصرون في لبنان والخارج.
والأمر الأهمّ، أن هذا القانون أولى القضاء صلاحية الملاحقة ورفع السرّية المصرفيّة عن الذين تركوا الخدمة قبل نفاذه بناءً لطلب المرجع القضائي المختص في حال خضعوا للملاحقة وفق أحكامه..
من الملفت ما جاء النصّ عليه في دعاوى الإثراء غير المشروع، أنه وخلافاً لكلّ نصّ، لا تحول دون الملاحقة الجزائية الأذونات أو التراخيص المسبقة الملحوظة في القوانين مع مراعاة أحكام الدستور، كما و تطبق أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية على التحقيق في قضايا الإثراء غير المشروع، وتطبق أحكام قانون العقوبات في حالات تحقق الإثراء غير المشروع نتيجة جرم جزائي وبذلك يدعي النائب العام مباشرة أمام قاضي التحقيق في بيروت على أن يضم إلى ادعائه المستندات التي كونت قناعته.
حيث لا تسقط الملاحقة بجرم الإثراء غير المشروع في حالات الاستقالة أو الصرف من الخدمة أو الإحالة على التقاعد أو انتهاء مدة تولي الخدمة العامة.ة كما و في حالة وفاة المدعى عليه يجوز مباشرة الملاحقة أو متابعتها مدنياً بوجه الورثة أو الموصى لهم في حدود ما آل إليهم من التركة.
نشير إلى أنه، بتاريخ 16/10/2008 صدر القانون رقم 33 ونشر في العدد 44 من الجريدة الرسمية تاريخ 23/10/2008 الذي أعطى الإجازة للحكومة اللبنانية الإنضمام الى اتفاقية الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد المعتمدة من قبل الجمعيّة العموميّة بقرارها رقم 4/58 بتاريخ 31/10/2003
حيث جاءت أسبابها الموجبة بأن الفساد وباء غادر يترتب عليه نطاق واسع من الآثار الضّارة في المجتمعات . فهو يقوّض الديمقراطية وسيادة القانون، ويؤدي إلى ارتكاب إنتهاكات حقوق الإنسان وتشويه الأسواق وتدهور نوعية الحياة ويتيح ازدهار الجريمة المنظمة والإرهاب وغير ذلك من التهديدات لازدهار
الأمن البشري.
حيث أتت الأحكام الأولى من نوعها في الإتفاقية تضع موضع التطبيق مبدأ أساسياً جديدا وإطاراً لتقوية
التعاون بين الدول بغية منع الفساد والكشف عنه وردّ العائدات. وسيضيق السّبل بالمسؤولين الفاسدين لإخفاء مكاسبهم غير المشروعة. وهذه مسألة هامة جداً بالنّسبة للبلدان النّامية التي قام كبار مسؤوليها الفاسدين بنهب الثروة الوطنيّة، وتحتاج الحكومات الجديدة فيها حاجة ماسة إلى الموارد اللازمة لإعمار المجتمعات وإصلاحها.
لم يقف التشريع الجزائي عند هذا الحدّ ففي العام 2015 صدر القانون رقم 44 ” قانون مكافحة تبييض الاموال ” الذي صدّق مشروق القانون التعديلي للقانون 318/2001 وذلك بموجب المرسوم رقم 8200 تاريخ 24/5/2012 .
لقد أعطى القانون في مادته الأولى الوصف الموضوعي للأموال غير المشروعة التي يستهدفها وهي الأصول المادية أو غير المادية، المنقولة أو غير المنقولة بما فيها الوثائق او المستندات القانونية التي تثبت حق ملكية تلك الأصول أو أية حصة فيها، الناتجة عن ارتكاب أو محاولة إرتكاب معاقباً عليها او من الاشتراك في أي من الجرائم الآتية، سواء حصلت هذه الجرائم في لبنان أو خارجه، ومنها على مستوى إستعادة المال العام :
– إستغلال المعلومات المميزة وإفشاء الاسرار وعرقلة حرية البيوع بالمزايدة والمضاربات غير المشروعة.
– الفساد بما في ذلك الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة واساءة استعمال السلطة والاثراء غير المشروع.
– السرقة واساءة الائتمان والاختلاس.
– الإحتيال بما فيها جرائم الافلاس الاحتيالي.
ـ تزوير المستندات والاسناد العامة والخاصة بما فيها الشيكات وبطاقات الائتمان على انواعها وتزييف العملة والطوابع واوراق التمغة.
– التهريب وفقاً لاحكام قانون الجمارك.
– تقليد السلع والغش في الاتجار بها.
– جرائم البيئة.
– التهرب الضريبي وفقاً للقوانين اللبنانية.
ويتم ذلك عبر إخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة او اعطاء تبرير كاذب لهذا المصدر، بأي وسيلة كانت.
إن جريمة تبييض الأموال، جريمة مستقلة ولا تستلزم الإدانة بجرم أصلي، كما أن إدانة الفاعل بالجرم الأصلي لا يحول دون ملاحقته بجرم تبييض الأموال في حال وجود اختلاف بالعناصر الجرمية أما وصفها فهو جنائي يقضى فيها بالحبس من ثلاث الى سبع سنوات وبغرامة لا تزيد عن مثلي المبلغ موضوع عملية التبييض.
فيما خصَّ جهاز ملاحقة جرائم تبييض الأموال فقد أناط القانون سلطة الملاحقة لهيئة مستقلة تدعى «هيئة التحقيق الخاصة» تتألف: من حاكم مصرف لبنان وقاضٍ من الهيئة المصرفية العليا، و من رئيس لجنة الرقابة على المصارف إضافة إلى عضو اصيل وعضو رديف يعينهما مجلس الوزراء.
يحق للهيئة كشف السرية المصرفيَّة عن حسابات المشتبه بهم المحالة أمامها ملفاتهم، بعد تلقيها البلاغات وطلبات المساعدة واجراء التحقيقات في العمليات التي يشتبه بأنها تشكل جرائم تبييض اموال ويمكنها اتخاذ القرار المناسب بشأنهما سيما التجميد الاحترازي المؤقت للحسابات و/أو للعمليات المشتبه بها وذلك لمدة اقصاها سنة قابلة للتمديد لستة اشهر اضافية ولمرة واحدة في ما خص طلبات المساعدة الواردة من الخارج ولمدة اقصاها ستة اشهر قابلة للتمديد لثلاثة اشهر اضافية ولمرة واحدة بالنسبة للابلاغات وطلبات المساعدة الواردة من الداخل.
ويحق للهيئة تقرير: التجميد النهائي للحسابات و/أو العمليات المعنية و/أو رفع السرية المصرفية لصالح المراجع القضائية المختصة ولصالح الهيئة المصرفية العليا بشخص رئيسها عن الحسابات او العمليات التي يشتبه بأنها تتعلق بتبييض أموال او بتمويل ارهاب.
كما وإبقاء الحسابات المشتبه بها قيد المتابعة كما حق الرجوع، بشكل نهائي او كلي، عن اي قرار تتخذه وذلك في حال توفرت لديها معطيات جديدة بهذا الخصوص.
كما ويحق لهيئة التحقيق الخاصّة وضع اشارة على القيود والسجلات، العائدة لأموال منقولة أو غير منقولة، تفيد بأن هذه الاموال هي موضوع تحقيق من قبل «الهيئة» وتبقى هذه الاشارة قائمة لحين البت، ويجي عليها إرسال نتيجة التحقيق للنائب العام لدى محكمة التمييز فالنائب العام المالي الذي له الإدعاء لدى قضاء التحقيق فالهيئة الاتهامية .
وتصادر لمصلحة الدولة الاموال المنقولة وغير المنقولة التي يثبت بموجب حكم نهائي انها متعلقة بجريمة تبييض اموال.
أما الملفت أنه لا يعتد بأية أحكام مخالفة لقانون مكافحة تبييض الأموال أو لا تأتلف مع مضمونه ولا سيما تلك الواردة في قانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 .
أضف أنّ المجلس النيابي اللبناني أقرّ قانون حماية كاشفي الفساد في 24/9/2018 كما وقانوني حق الوصول إلى المعلومات بتاريخ 19/1/2017، ومكافحة الفساد في عقود النفط والغاز في 24 أيلول 2018 . كما وإطلاق الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وقد أرست إلى إقرار لجنة المال والموازنة قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وانشاء الهيئة الوطنية.
كما وأنَّ صلاحيات سلطات التفتيش والملاحقة والتحقيق تراعى بموجب القوانين النافذة من قانون الموظفين 112/1959 وديوان المحاسبة 1959 و قانون التفتيش القضائي 1985 وقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد 2001 وبواسطة السلطات الرقابية.
ولكي لا يفلت المجرم من العقاب يذكر أنَّ قانون العقوبات اللبناني يطبّق الشريعة الجزائية اللبنانية من حيث المكان على جميع الجرائم المقترفة على الأرض اللبنانية. تعد الجريمة مقترفة في الأرض اللبنانية : إذا تم على هذه الأرض أحد العناصر التي تؤلف الجريمة، أو فعل من أفعال جريمة غير متجزئة أو فعل اشتراك أصلي أو فرعي. أو إذا حصلت النتيجة في هذه الأرض أو كان متوقعاً حصولها فيها.
كما وتبيح القوانين اللبنانية إسترداد من يقترفون الجرائم على أرض لبنان أو يقترفون الجرائم التي تنال من أمنه أو من مكانته المالية أو التي يقترفها أحد رعاياه.
مروحة واسعة من القوانين التي تطال مرتكبي الفساد ومستغلي السلطة وناهبي المال العام، مهما كثروا أو حاولوا التلطي وراء التدرّج الإداري أو الحصانة الوظيفية وغيرها.. وأمام هذه الحقيقة وواقعية النصوص التشريعية ومرونتها فيما خصّ مكافحة الجرائم الماليّة، تبقى العبرة في التطبيق، ليكون القانون كوقع الموت الذي لن يستثني أحد..
بالنشرة البريدية اضغط هنا