الأيديولوجيا اللبنانية والديانة المصرفية: العشق الجارف الى…حافة الالحاد
نشر ايضاً في القدس العربي I للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لم يختبر أي بلد قصة عشق جارف مع «المصارف» كما فعل لبنان.
جمعت الأيديولوجيا المهيمنة عليه مطوّلاً بين تقديمه «وطناً رسالياً نموذجياً» للتعايش الإسلامي المسيحيّ وبين تبجيله كـ»وطن المصارف» بالدرجة الأولى.
سوّغت هذه الأيديولوجيا اللبنانية لنفسها مطوّلاً أنّ وطناً روحياً يجد في المشترك الإسلامي المسيحيّ علّة وجوده عليه أن لا يصرف جهداً كبيراً على زراعة وصناعة، وأنّ المعجزة الحيّة فيه تكمن في عبقريته المصرفية.
شيئاً فشيئاً لم تعد المصارف تكتفي بسخاء الأيديولوجيا اللبنانية. لم تروها لحظة الشاعر المصرفي ميشال شيحا، لحظة «الجمهورية التجارية» المركنتيلية. احتاجت المصارف لأكثر من ذلك. ازدرت حتى التجارة. لا توظيف للمال إلا في المال نفسه.
اصطنعت لنفسها ملحمة كاملة. سفن تمخر بحار الظلمات الهائجة. قلاع صامدة منيعة. لم يعكر صفو هذه الملحمة إلا «مظلمة» انهيار بنك انترا عام 1966. لكنه انهيار أعادت المصارف تدويره وتأطيره في سردية القيامة وطائر الفينيق، فزيّنت لنفسها أنّها صمدت بوجه أعاصير الحرب الأهلية، وشكّلت اللبنة الأساسية لاستمرار الوحدة الوطنية ورافعة السلم الأهلي وإعادة الإعمار بعد ذلك.
انساق اللبنانيون مطولاً وراء «الإيمان بالمصارف». اذا ما استثنينا أدبيات الشيوعيين حول «الطغمة المالية» التي ابتلعتها الذاكرة، وموجة «المصارف الإسلامية غير الربوية» التي جاءت محدودة التأثير في لبنان. بدوره، سمح انتشار مقولة «الطبقة السياسية» المنصبة على التنديد بهدر السياسيين للمال العام والتربّح منه، بتحييد ملأ المصارف، إلا عندما تكون الحالة نافرة في إتصالها بتبييض الأموال والفساد «السياسي» المباشر، كما في حالة «بنك المدينة» الذي أغلق عام 2003. انما بشكل عام، ساهمت مركزية خطاب «مكافحة الفساد» بشكل أو بآخر، ولفترة طويلة، بتحييد العمق الاقتصادي المالي للنظام اللبناني وللأيديولوجيا السائدة على حد سواء: أرباب المصارف.
ثمة لبّ مصرفي للأوليغارشية المالية والمقاولاتية اللبنانية. لا يحترف أكثر أربابه السياسة، وإن حصلت لهم مشاركات حكومية رمزية في بعض الأحيان. وهو عينه اللب الذي عرف كيف يستثمر في الحرب كما في السلم، واتفاق يئن من وطأة الوصاية السورية ويستفيد منها في آن، ثم تداخل اقتصاده مع الاقتصاد السرّي لـ«حزب الله» فترة غير قليلة، ولو أنّه انقبض مراراً من الحزب، «الحارس» للنظام الأوليغارشي مرة بمعنى «الحجر» ومرة بمعنى «الصون».
تعاونت كل من حاكمية المصرف وجمعية المصارف على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة على تسويق هذه «الملحمة الأوليغارشية»، التي وجدت استقبالاً لدى فئات واسعة من الناس، طالما أنّه جرى العمل على المواءمة بين تقديم البلد كـ»وطن المصارف» وبين تقديمه كـ»وطن البوتيكات»، على حساب كل صناعة وزراعة، وعلى حساب البحث العلمي والتكنولوجي، ولصالح تتفيه الثقافة و«إعادة ترييفها»، أي اختزالها إلى فولكلور، وإلحاقها بـ«مصرفك مدى الحياة».
انتشار كالفطر لفروع المصارف بشكل لا يجد له مثيلاً في أي مدينة غير بيروت. جيش من الموظفين. اختزال حركة الادخار والاستثمار وتوطين الرواتب في المصارف، كما لو كان الصندوق التعاضدي الشعبي أو أي شكل تعاوني آخر، مستقلا عن منظومة المصارف، هي أمور محض خيالية. فوائد عالية تحثّ على الكسل الوطني العام، بدلاً من التوظيف المتواصل للرساميل في مشاريع منتجة ومرتبطة بدينامية الاقتصاد المستدام.
معركة الانتفاضة اللبنانية اليوم مع المصارف مضنية، وغير سهلة، لأنها أيضاً معركة في بلد تبغددت فيه «الملحمة المصرفية» كثيراً، ولم تتكامل فيه خطابية «مكافحة الفساد» مع تصويب حيوي على التمركز المخيف للثروة المالية والعقارية في يد قلة من كبار الأغنياء
جرى التغني مطولاً بالسرية المصرفية، الى أن فرضت ظروف ما بعد 11 أيلول/سبتمبر تقنينها تدريجياً. لكن «المصرفية السرية» وليس السرية المصرفية هي الأخطر. فمن الذي بمستطاعه أن يعرف بدقة ما تحويه الخزينة غير حاكم المصرف المركزي نفسه؟ الترنّح الحالي، وحبس أموال المودعين، من جملة ما يعطي مصداقية للتشكيك الواسع بالأرقام «المطمئنة» التي كان يعرضها إلى فترة وجيزة من الآن. «المصرفية السرّية» تعني أيضاً شبكات من التداخل بين القطاعين المصرفيين، العام والخاص، على قاعدة ضخ العام للخاص. كذلك تعني «المصرفية السريّة» سلكاً كهنوتياً على طريقتها: ديانة قائمة بذاتها.
في «العقد الاجتماعي» يتحدث جان جاك روسو عن «الديانة المدنية»، تلك التي تختلف عن الانتماءات الدينية المختلفة في مجتمع ما، وتقوم على اصطفاء رموز ومثالات وأيام وأبطال للاحتفاء بها كديانة توافقية مكملة للعقد الاجتماعي، وضامنة للرابطة الاجتماعية. جرى توظيف هذا المفهوم لاحقاً في علم الاجتماع الديني، مع روبرت بيلا، حيث يكون لكل دولة «ديانة مدنية» على هذا النحو، بعضها مستقى من ديانة الأكثرية فيها، وتختلف «الديانة المدنية» تماماً عن دين الدولة، التي تعني تقيّد الدولة بدين الغالب أو الأغلبية فيها. فـ»الديانة المدنية» دنيوية بامتياز، في حين أن الديانات تقوم على ربط الدنيا بالآخرة.
تلخّص عبارة «مصرفك لدى الحياة» الترويجية إلى حد كبير مغزى الديانة المدنية القائمة في لبنان: إنها ديانة التعبّد للمصارف. بالأحرى، إذا كان لكل طائفة دينها في لبنان، فإن الفضاء الموازي والمشترك، أي «الديانة المدنية» هو الإيمان بعبقرية المصارف، وأنها المنقذ، وأنها دائماً كفيلة بإنقاذ نفسها والبلد.
الحاجة إلى المصارف ليست اقتصادية فقط في هذا النموذج. إنها كذلك حاجة «دينية مدنية»، وعلى طريقتها، وثنية. تبدو المصارف كهياكل، والكهنة والعرافون هم موظفوها، وكبار الكهنة هم أربابها ومدراؤها. على امتداد السنوات الماضية، عكف الكهنة والعرافون على عزو كل «لاعقلانية» تنتاب عملهم إلى شيء غامض وسحري وغنوصي يدعى «السيستام»، سيستام مجتمع مديون للمصارف الدائنة للدولة.
هذه المصارف لم ترض أي إعادة نظر بأرباحها، وهي الآن تحبس ودائع الناس وحساباتهم الجارية ومعاشاتهم عنهم، وتعاملهم كما لو أنهم قصّر، في الفتات من مالهم الذي تتكرّم به عليهم بعد إذلال وانتظار، وفي ظلّ حراسة أمنية من لدن وزارة الداخلية، حراسة يأبى فيها جهاز الدولة، في عزّ الاحتقان الاجتماعي الحاصل، إلا أن يشهر من خلالها طبيعة ولاءه الطبقية.. والدينية.. إلى الوثنية ـ المصرفية، بما يهدّد ليس فقط العقد الاجتماعي.. بل السلم الأهلي رأساً.
معركة الانتفاضة اللبنانية اليوم مع المصارف مضنية، وغير سهلة، لأنها أيضاً معركة في بلد تبغددت فيه «الملحمة المصرفية» كثيراً، ولم تتكامل فيه خطابية «مكافحة الفساد» مع تصويب حيوي على التمركز المخيف للثروة المالية والعقارية في يد قلة من كبار الأغنياء.
فالفساد هو الفرع، أما التمركز المخيف للثروة فهو الأصل، وبمعيته التفاوت العنيف بين آلاف يشكلون الأوليغارشية المالية، وبرجوازية تجارية ومدرائية وسمسرية تحسب بعشرات الآلاف، إن لم يكن بمئة ألف نسمة وأكثر، وبين الطبقات الشعبية الكادحة. هذا في اطار رأسمالية دولة أوليغارشية بتوجيه حاكمية المصرف المركزي ووزارة المالية، وهي رأسمالية دولة لا تستند الى مؤسسات دولة اجتماعية مهتمة بتكافؤ الفرص أو بترجمة ما أوردته مقدمة الدستور من التزام بالعدالة الاجتماعية، لكنها تستند الى «بدل رث عن العدالة الاجتماعية» من خلال القطاع العام المنتفخ بالمحاصصة والمغانمة سواء بسواء، والذي يؤمّن التوظيف فيه رصيداً من الولاء للحزبيات «الأوليغا-شعبية» الحاكمة، سواء تلك سمحت بتحويل لوردات حرب وملاك عقاريين كبار إلى أوليغارشيين، أو التي سمحت بتحويل أوليغارشيين مقاولين إلى زعماء «شعبيين».
ما زالت أشكال المواجهة الشعبية مع الصلف المصرفي محدودة قياساً على المدى الذي بلغه الفعل الانتفاضي هذا الخريف. لكن «الإيمان بالمصارف» مختزلاً في الوقت الحالي بالإيمان بقدرتها على «النجاة بنفسها وبالمودعين» خذلته المصارف نفسها، من خلال الرهاب اللامحدود الذي يحكم أسلوب تصرفها والمبرّرات غير القابلة للتصديق. يستشعر هذا الرهاب تصاعد الموجة التشكيكية بـ«الديانة المصرفية»، وبتعريف البلد كـ»وطن المصارف أولاً». ما كان محصوراً بهوامش مؤدلجة أخذ يتسرّب إلى المتن، إلى الرأي العام. التشكيك بالديانة المصرفية، بل «الإلحاد» بها، جار على قدم وساق. والمصارف مرعوبة من «إلحاد» الناس بها أكثر من أي شيء آخر. الحياة باتت متناقضة مع «مصرفك مدى الحياة». علمنة الدولة والمعاش تمر في لبنان من خلال علمنة العلاقة مع المصارف، تفكيك «الديانة المصرفية» قبل أي شيء آخر.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا