“في التوتر حياة و في الاختلاف تضامن..”
جملة اختصر بها عالم الاجتماع و المستشرق الفرنسي جاك اوغستين بيرك(1910-1995م) ما للمعارضة و الاختلاف في الرأي من أهمية بل و حيوية في استمرار العيش المشترك.
تبدو العلاقة بين المثقف -و هنا ساستعمل لفظة المثقف للدلالة على المثقف المعارض- و السلطة في الدول المتخلفة و المجتمعات العربية بائسة ذلك أن السلطة فيها لا ترتضي لنفسها المساءلة و لا التقييم و التصويب و ترى نفسها فوق كل نقد و تقيم علاقتها مع المثقف على الإغواء بمناصب وتدور مثل رحى تجذب إلى محورها كل صوت معارض لتطحنه و تحوله الى رميم او فتات لا شكل له ليصبح من بعض مخلفاتها و هكذا تنتهي صلاحية كل منتمي للسلطة و ان كان يتمتع بتاريخه النضالي و المعارض، ذلك بسبب خلل في آلية الانتماء للسلطة و الممارسة السياسية.
لقد وجدت الدول المتقدمة صورة مثلى للإبقاء على أصوات المعارضة بمثابة فوانيس تنير عتمة دوائر السلطة و تعيد الفعل السياسي الى جادة الطريق و تنقذ المنتمي إليها من الدوار الذي يصيب لا محالة كل من يدخل إلى سرايا الحكم.
وجب التذكير هنا أن” متلازمة هوبريس hubris syndrome”او ما يمكن تعريبه بدوار السلطة او متلازمة الغطرسة هي اضطراب في حيازة السلطة ، وبخاصة القوة التي ترتبط بالنجاح الساحق ، والتي تستمر لسنوات وبأقل قدر من القيود على القائد -و هي تفاصيل تذكر بما حدث و يحدث في الدول العربية-إذ يبدو ان للسلطة سحر لا يقاوم و إغراء لا يستطيع مواجهته إلّا الأنبياء او من رحم ربي.
نعم لقد وجدت الدول التي قطعت لها شوطا في الديمقراطية مسارا يضمن للمعارضة استمرار وجودها لأنها مجتمعات أرست قواعد مأسسة الدولة و تمكنت من رصد الشكل الأنسب للممارسة السياسية حيث تضمن للدول استمرارها و تصديها لأي انسداد محتمل ومن بين قواعد اللعبة :تداول السلطة و قدسية الدستور الذي لا يمكن أن يتغير استجابة لمزاجية الحاكم او للضغوط التي قد يتعرض لها.
و هكذا تكون الدول” الديمقراطية “قد أنجزت اكثر من غيرها و ارست قواعد الممارسة الحزبية على نحو يضمن لكل فاعل في الحياة السياسية مكانته و دوره في فترات الحكم فيصبح أمام المواطن صوتين أو رأيين أحدهما يقوِّمُ الاخر و يصوِّبهُ و يضع له الحدود حتى لا يفقده دوار السلطة صوابه و حكمته و رشاده.
كم يلزمنا يا ترى لنستطيع ان نؤسس لمثل هذه الممارسات التي تبعث على الأمل و التفاؤل في الفعل السياسي و ما الذي يجعل المثقف يعرض تماما عن ممارسة الفعل السياسي و يكتفي بالبقاء بعيدا و بالاكتفاء بمشاريعه الخاصة الضيقة الأفق التي لا تتعدى حدود فردانيته كأن يقتني بيتا او يسافر في عطلاته مع افراد أسرته و يكفل لهم العيش الكريم و كأنه غير معني بما يدور في الحياة السياسية مع ان الانسان كما عرفه افلاطون كائن سياسي بالطبع zoon politikon؟؟
لقد كتب ايتيان دي لا بويسيه (1530-1563) مقالة متحفة في العبودية الطوعية ليصف بها حال “المواطن المستقر”الذي يختار النأي بنفسه و يكتفي بالتكيف مع اشباع حاجاته الأساسية و بعض الترف الزهيد…و هي حالة قد تصيب ايضا المثقف و هو نموذج شائع في المجتمعات العربية.
و كان مالكوم اكس (1925-1965) رائدا في رصد ما يدور في وعي العبد عندما يقترب من دوائر سيده فميز بين عبيد المنزل و عبيد الحقل بعد دراسته لتاريخ العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية و يمكن تشبيه المثقف المدجن الذي يقبل بالانخراط في دوائر السلطة دون إرساء لقواعد الممارسة الديمقراطية بزنوج المنزل الذين بحكم ما يحصلون عليه من امتيازات (كبقايا طعام أسيادهم و ملابس أسيادهم و دفء أسرَّتِهم) فينسون نضال رفقائهم زنوج الحقل بل و يتحولون إلى حماة مستميتين في سبيل الإبقاء على التقسيم الذي اختاره السيد لفئات الزنوج.
كان يقول ريمون بار السياسي الفرنسي : ” لا ينبغي لك ان تأكل مع الشيطان وان كانت لديك ملعقة طويلة ” لأنَّك لن تستطيع أن ترفض له طلبا بعدها.
و هكذا يبدو أنه لا ينبغي أن نفكر في ملء الفراغ كيفما أتفق و انما ينبغي لنا ان نفكر اولا في إعادة تأثيث الفراغ المحيط بنا بما يتفق مع الرشادة و العقلانية و يؤهلنا للتصالح مجددا مع الممارسة السياسية.