السادس والعشرون من مطلع هذا الأُسبوع كان “اليوم العالَمي للزيتون” كما تم الاتفاق سنة 1987 بين منظمة اليونسكو و”المجلس الدولي للزيتون” أَن يكون 26 تشرين الثاني/نوفمبر “اليوم السنوي العالَمي للزيتون”. وتبرير ذاك الاتفاق أَن شجرة الزيتون رمزُ السلام والهارمونيا (التناغُم)، وأَنها تفيد البيئة، وأَنها تساعد على الاحتفاظ بالموارد الطبيعية وتنوعها، وأَن لها دورً رئيسًا في محاربة القيظ والتصحُّر. فالدراسات الحديثة أَثبتت أَن زراعة الزيتون تتمكَّن من تثبيت ثاني أُكسيد الكربون في التربة. من هنا أَن وجود الزيتون بوفرة في 56 بلدًا يثبِّت ضرورة وجوده، ويوسِّع مساحات زراعته في كل العالم.
هنا تفاصيل أَكثر عن منافع شجرة الزيتون وتاريخها.
منافع جَمَّة
من أَسرار الحِمْيَة المتوسطية التي تفيد الصحة السليمة في بلدان حوض المتوسط، أَن شجرة الزيتون تُنتج حبوب الزيتون وزيت الزيتون الضروريين جدًّا للاغتذاء والصحة. من هنا أَن “الحِمْيَة المتوسطية” (خصوصًا في جنوب إِسبانيا وجنوب إِيطاليا وجزيرة كْريت) تقوم على الاكتفاء اليومي بتناوُل الحبوب وزيت الزيتون والفواكه والخُضَر والأَعشاب والبهارات، مع قليل من بروتينات السمك وثمار البحر. وهذه الأَصناف هي التي يركز عليه اختصاصيو الحمْيَة ومهَرة الطباخين في المطاعم، لِما فيها من فائدة قُصوى للصحة والعافية. فزيت الزيتون – لِما فيه من عناصر مضادَّةٍ عمليةَ التأَكْسُد ومفيدةٍ في بعض العلاجات – يساعد على تجنُّب عدد من الإِصابات، بينها السرطان والبدانة ومشاكل القلب والتهاب المفاصل.
الهالة القدسية
تتَّخذ شجرة الزيتون مكانة مميزة في تاريخ البشرية، حتى أَن لها هالةً قدسية منذ العصور الإِغريقية السحيقة. كان اليونان يعتبرونها رمز الحياة، ويربطون وجودها بمبادئ الخلود والسلام والهارمونيا (التناغُم) والنمو والبعث من الموت إِلى الولادة، وحتى رمز الصداقة. وبهذه الصفات تغنَّى بها الشعراء والكتَّاب والرسامون والنحاتون من كل العالَـم فهي لدى كثيرين منهم جزء من نتاجهم الأَدبي والفني.
في قلب الأَكروبوليس شجرةُ زيتون دائمةُ الخُضرة يعتبرها اليونانيون “مقدسة”، ويسمونها “الخالدة” (أَو الشجرة التي لا تموت). وفي مروياتهم أَن هذه الشجرة قاومت الحروب خلال عصورٍ عدة. وإِنْ أَصابها ضرر كان غصن منها ينزرع في التراب وينمو شجرة كبرى. لذا خلال 2500 سنة بقيَت شجرة الزيتون، بخلودها، رمز مدينة أَثينا ومثال الازدهار والسلام والأَمل والقيامة من الموت.
وما الأَكروبوليس؟
هو في أَثينا أَكمل الأَبنية الضخمة القديمة التي ما زالت على كمالها حتى اليوم ولم تُدمِّرها عوامل الطبيعة القاسية عبر العصور. يقوم المبنى عند تلَّة من نحو 156 مترًا وتشرف على حوض أَثينا تحتها. يبلغ طول المبنى 350 مترًا وعرضه 170 مترًا. والتلة صخرية على شفير انحدار حادّ من جميع جهاتها عدا الغربية، وأَرضها منبسطة تمامًا. وحول بناء الأَكروبوليس جدارُ دعمٍ عريضٌ واقٍ باقٍ منذ 3300 سنة.
صراع إلهة الحكمة وإِله البحار
رمز شجرة الزيتون “الخالدة” آتٍ من أُسطورة أَثينية من الميثولوجيا اليونانية، هي أَن شجرة الأَكروبوليس المعبودة تلك، زرعتْها الإِلهة أَثينا شخصيًّا، ولذا هي جزء حيوي من أُسطورة المدينة. وجاء في الأُسطورة أَن أَثينا (إِلهة الحكمة) وبوزيدون (إِله البحار والعواصف) اختلفا على مَن يحكم المدينة. اقترح زوس (كبير الآلهة) أَن يقوم بينهما تنافس يحكم المدينة من يفوز به. التقى بوزيدون وأَثينا عند تلة أَكروبوليس، وحضر زوس وآلهة الأُولمب كي يشاهدوا التنافس. بدأَ بوزيدون فتناول رمحه المثلَّث الشُعَب وغرزَه في الصخر فارتجَّت الأَرض وطاف بحر من تحت الأَرض ذو نبع مالح، فالمدينة القديمة قريبة من البحر ومحاطة بأَنهار عدة. لكن بادرة بوزيدون لم تلاقِ حماسة من الحضور.
جاء دور أَثينا فركعت وزرعت نبتة في الأَرض. وما هي حتى نشبَت من الأَرض شجرة زيتون مدَّت أَغصانها المثقلة بحبوب الزيتون. فكانت الشجرة أَفضل هدية بما لها من عناصر نافعة في حبوبها وزيتها المغذّي. أَمام حماسة الحضور أَعلن زوس أَن أَثينا هي التي ربحت فأَعطت المدينة اسمَها. وما زالت حتى اليوم، في معبد البارثنون، تماثيل تخلِّد تلك المنافسة. والشجرة الموجودة اليوم على مدخل الأَكروبوليس تجسد تقديس الأَثينيين إِياها وجميع اليونان.
الزيتونة المقاوِمة
حين جيش الملك الفارسي أَحشويروش الأَول احتل اليونان ودخل أَثينا سنة 480 (ق.م.) أَحرق مبنى الأَكروبوليس ودمَّر كلَّ ما حوله بما فيه شجرة الزيتون. وذكر المؤَرخ والعالم الجغرافي هيرودوتس أَن شجرة الزيتون عادت فنبتَت في اليوم ذاته وعلَت حتى نحو متر، فاستدل من ذلك أَن شجرة الزيتون رمز الأَمل وعودة الحياة وعودة الأَثينيين إِلى الازدهار ضد العدائية الخارجية. لذا تم زرعُ حبوب الزيتون في جميع أَنحاء أَثينا، ومن هنا الاعتقاد التاريخي بأَن جميع بساتين الزيتون المحيطة بأَثينا تحمل في بذورها آثارًا من شجرة الإِلهة أَثينا. ولذا تـمَّ تشييد معبد إِريكتيُون (شماليّ الأَكروبوليس) ليضمَّ مقدسات المبنى الكبير: بينها شجرة الزيتون (التي زرعتها الإِلهة أَثينا)، وآثار رمح بوزيدون، وبئر المياه المالحة التي نضحت من غرزة بوزيدون.
هكذا اكتسبت شجرة الزيتون هالة القدسية لدى الأَثينيين، وبقيت تقاوم رغم ما انهال عليها الغزاة من حرق وتهشيم، إِنما كان يبقى منها نسغ لزراعة شجرة جديدة. وفي العصر الحديث، قام أَعضاء من معهد الآثار الأَميركي سنة 1952 فأَعادوا زراعة غصن زيتون نجا من الدمار الذي خلَّفه النازيون في الحرب العالمية الثانية.
الشجرة الحبيبة
هكذا باقيةٌ لشجرة الزيتون مكانة حتى اليوم في الحياة اليونانية منذ القديم السحيق، رمز الخصوبة والحكمة والسلام والرخاء والصحة والحظ والنصر والاستقرار والهناءة. وفي سفْر التكوين أَن حمامة نوح حملت في منقادها غصن زيتون رمز خلاص الحياة على الأَرض بعد الطوفان.
هي هذه أَهمية شجرة الزيتون: أَوراقها شكَّلت تاج الغار على جبين أَبطال الأَلعاب الأُولمبية والقادة العسكريين والملوك، وخشبها هو الأَفضل لبناء البيوت والسفن، وزيت الزيتون مشهور، كما حَبُّ الزيتون، بمنافعه من أَقدم العصور (الحمية المتوسطية) حتى اليوم. وشجرة الزيتون تحب البحر وشمس المتوسط، ويمكن أَن تعيش في أَرض جافة وصخرية وتقاوم الرياح والعواصف. لذا لا عجب أَنَّ على مدخل الأَكروبوليس – أَجمل الجواهر البنائية في التاريخ – تنتصبُ … شجرة زيتون.