قراءة في كتاب هجرة الأفكار- جلبرت هايت | بقلم صلاح الدين ياسين
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يعد كتاب “هجرة الأفكار” ذو الحجم المتوسط من تأليف الأستاذ الجامعي المتخصص “جلبرت هايت“، بحيث ينهض على طرح أساسي مفاده أنه ليس ثمة حضارة بشرية قائمة أو مكتفية بذاتها، باعتبار أن كل حضارة تتغذى على حضارة أخرى، ومن ثم فإن المنهج الأمثل لدراسة التاريخ هو رصد حركة انتقال الأفكار وهجرتها من مكان إلى آخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى: “إن فترة تقدم الحضارة هي فترة تنتقل فيها الأفكار بحرية من عقل إلى عقل ومن بلد إلى آخر، ومن الماضي إلى الحاضر.. أما العصر البربري، والبلد الهمجي فهما اللذان يحاولان شل الاتصال، وحبس الأفكار…”
نماذج ملهمة لانتقال وهجرة الأفكار
لقد استهل مؤلف الكتاب تعداده للنماذج المعبرة عن التمازج الفكري بإحدى الحضارات الرائدة في عالم اليوم وهي اليابان، فقد عرفت تلك الدولة تغييرا جذريا منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر تجسد في تليينها للتقاليد المتجذرة في رفض الأجانب وكراهيتهم من خلال انفتاحها على العالم الغربي عبر إيفادها لبعثات طلابية إلى أوروبا واستقطابها للكفاءات الأجنبية في مسعى لتملك ناصية المعرفة والعلوم واللحاق بالركب الحضاري، دون المس جذريا بخصوصيتها الثقافية والاجتماعية. وقد أصدر إمبراطور اليابان في عام 1868 مرسوم القسم الذي تعهد من خلاله بإصلاح أحوال الشعب، وقد ورد في عبارته الأخيرة: “سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم”.
ويصدق ما سبق قوله على الرومان الذين متحوا من مناهل الحضارة الإغريقية وفتنوا بها بعد غزوهم لليونان في القرن الثاني ق. م، بحيث أخذوا من الإغريق شغفهم بالعلوم والفنون والفلسفة وحبهم الشديد للحكمة، وأضافوا إلى حضارتهم مزايا أصيلة عند الرومان خاصة فيما يتعلق بالقانون والدين وحسهم الوطني المرهف، إلى جانب تقديرهم للمسؤولية. كما أن الأمم الأوروبية تدين بالكثير من الفضل للرومان الذين ساهموا في تحضيرها: “فقد وجدتهم روما قبائل مبعثرة تعيش في العصر الحديدي الأول، أميين فقراء.. فعلمتهم في حقب قليلة، الزراعة والتجارة والفن المعماري والصناعة، كما علمتهم في حقب أخرى، القانون والفلسفة والأدب والدين…”
وسرعان ما ينمحي الانطباع الذي يخالج القارئ بأن الكاتب من دعاة المركزية الغربية والتفوق الحضاري للعالم المسيحي، حين يشير إلى فضل الحضارة العربية على الأمم الأخرى وبخاصة إسبانيا التي لا زالت إلى حدود اليوم مشدودة إلى الإرث العربي والإسلامي، وهو ما يمكن تبينه في الغناء والشعر الإسباني وبعض العادات الاجتماعية الأخرى: “وكان العرب أكثر حضارة في ذلك الوقت، ومن المحقق أن حضارتهم كانت أكثر تماسكا، وكان العرب يحبون الموسيقى والشعر والملابس الجميلة والعمارات الفاخرة والحدائق والأثاث الفخم والفلسفة. وفي غضون أحقاب قليلة، اعتنق كثير من الاسبان الإسلام، حتى أولئك الذين استمسكوا بالمسيحية كانوا يرتدون الثياب العربية في بعض الأحايين، ويعجبون بالجمال العربي، وطريقة العرب في الحياة…”
حوافز التلاقح الحضاري وحدوده
لقد اهتم علماء النفس والاجتماع باستكشاف الدوافع والحوافز التي تدفع بأفراد جماعة اجتماعية معينة إلى قبول أفكار أجنبية وغريبة على ثقافتهم، ومن بين تلك الدوافع التي توصلوا إليها دافع الخوف، فالخوف من التعرض لغزو الأجانب كان وراء انفتاح اليابانيين على الأجانب من أجل التوفر على أسباب القوة والتمكين الذاتية، هذا إلى جانب حافز الكبرياء، ذلك أن الإلمام بأفكار أجنبية يضفي على الفرد المنتمي إلى جماعة أو بيئة داخلية الإحساس بالتفوق على أقرانه والشعور بامتلاك ثقافة رفيعة، دون إغفال حافز المتعة الذي يبرز في السعي إلى تملك وسائل الراحة والرفاهية المستوردة كالإقبال الواسع على استهلاك التدخين وشتى وسائل الترفيه مثل إصدارات السينما العالمية. كما قد ينحصر الدافع في الفضول المعرفي أو العلمي لذاته وبدون أن يكون مصحوبا بالحوافز السابقة.
غير أن عملية التمازج الحضاري التي تعد حقيقة تاريخية يصعب دحضها، تظل رهينة بمدى ونطاق العناصر المشتركة بين ثقافتين أو ثقافات متعددة من حيث الاتساع أو الضيق، ويورد الكاتب مثالا بالفروق الهائلة بين ثقافة الأمريكيين البيض وثقافة الأمريكيين من أصول أفريقية كإحدى العوامل التي تصعب الاندماج الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة ثانية، يقر علماء الأنثروبولوجيا بصعوبة التأثير في الجوانب غير المادية للثقافة مقارنة مع جانبها المادي، بدليل ما نعاينه في عالمنا العربي والإسلامي الذي يتهافت على أحدث الابتكارات والاختراعات الغربية، بينما يصم آذانه عن القيم والمفاهيم المنتمية إلى منظومة الحداثة الغربية بدعوى تعارضها مع الخصوصية الثقافية، ومن هنا يمكن أن نلمس الفرق بين العصرنة والحداثة التي تحيل إلى إصلاح عميق يطال منظومة الأفكار والوعي الاجتماعي.
ومن منطلق اعتداده بالإرث اليوناني والروماني ودورهما في ازدهار الحضارة الغربية، لا يخفي مؤلف الكتاب حسرته عما آلت عليه أحوال الثقافة الغربية التي فقدت عمقها وامتدادها التاريخي، نتيجة لنزوع العديد من دعاة الحداثة إلى قطع الصلة مع المعارف والفنون الأدبية الكلاسيكية، وهو ما يفسر شيوع الرداءة والتفاهة في غير قليل من التعبيرات الفنية والأدبية الغربية، بفعل انتشار اعتقاد زائف لدى فئة من المعاصرين مفاده أن شرط الحداثة والتقدم هو اجتثاث الجذور التي تصلنا بماضي أسلافنا.