أي لبنان نريد؟ | بقلم العميد د. عادل مشموشي
1 / 3
أمَّا وقد طُوِيَت صَفحَةُ العام 2022 بفواجِعِها ومآسيها، وقد أيقنَ اللبنانيون صِحَّةَ الوَعدِ الجَهَنَّمي الصَّادِق، بوصولِهم إلى شفيرِ جَهنَّم. ولكن تَحوُّطاُ ومَنعاً للمُفاجأةِ أضحى لا بُدَّ من دَعوَةِ المسؤولين ليُنبؤونا بما عَجزَ عن تنبُّئهِ كِبارُ مُنَجِّمينا لأن المسؤولين وَحدَهُم عالِمونَ بما يُفكِّرون، وواعونَ لما يُخطِّطون، ومُدرِكونَ إلى أين هم بالوَطنِ سائرون، ومُحيطونَ بما يًضمرونَ للشَّعب من مَكائد؛ لقد وعدونا بجهنَّمَ وصدَقوا الوعدَ، فها نحن على أعتابها واقفين، متوجِّسين مما ينتظِرُنا بعدَ ما بعدَ جهنَّم. وبانتِظارِ تَكرُّمِهم بتنبؤاتهم المُستَقبَلِيَّة، يَبقى على اللبنانيين واجِبَ الإجابةِ على سؤالٍ جَوهَري، يتمثَّلُ في “أي لبنان يُريدون؟”.
أي لبنان يُريد اللبنانيون؟ سؤالٌ جَوهري، وإن بدى للبعضِ بسيطاً وتافِها، إنَّما يَتوقَّفُ على الإجابةِ عليه مَصيرُ لبنان واللبنانيين. أمَّا الإجابةُ المُجديَةُ فتستوجِبُ الوقوفَ على ما آلت إليه الأوضاعُ في لبنانَ. ولم يعد سرَّاً أننا أمسينا في دولةٍ مُنهارَةٍ اقتصادِيَّاً وماليَّاً واجتِماعيَّاً وثقافِيَّاً وتربويَّا. دولةٌ عاجزةٌ مُفلِسَةٌ عقيمةٌ وغير مُجديَة، تُدارُ شُؤونُها من دون رئيسٍ للجُمهوريَّة، وبحُكومَةِ تَصريفِ أعمال، وبمُؤسَّساتٍ دُستوريَّةٍ مُعطَّلَة، وبإداراتٍ رَسمِيَّةِ ومؤسَّساتٍ عامَّةُ غيرِ فاعِلَة، لامتناعِ الموظَّفينَ والعاملين في القطاعِ العامِ عن العملِ وتكادُ إنتاجيَّتهُم أن تكونَ مَعدومَة، وبِجهازٍ قَضائيٍّ عاجِزٍ عن تحقيقِ العدالةِ لأن قُضاتِهِ إما مُعتكفون أو مُستنكفون أو مُتنحون. وحدَهُم الجَيشُ والأجهزةُ الأمنيَّةُ يَعملونَ، ولكن بشِقِّ الأنفُسِ وبمَعنوياتٍ مُحطَّمَة، لأن عناصِرَها كما عُمومُ اللُّبنانيين مُثقلون بهُمومِ الاستِشفاءِ والدواءِ وأقساطِ المَدارسِ والجامِعات، وفواتيرِ المياهِ والكَهرباء وغيرِها من ضَروراتِ الحَياة تحت وطأةِ أزماتِ مُتشابِكَة.
والإجابةُ لن تكون صائبةٌ ما لم يتمَّ التَّحري عن أسبابِ الفَشلِ والعملُ على التَّخلُّصِ منها أو تداركِها، أو مُعالَجتِها، وهذا يوجِبُ على اللبنانيين الإقرارَ أن حالَةَ التَّأزُّمِ التي يَتَخبَّطون فيها، وكُلَّ المآسي التي يُعانونَ منها اليومَ هي داخِلِيَّةُ المَنشأ، وهي صَنيعَةَ عُقولِهِم وأياديهِم ومَواقِفِهم المُتَهَوِّرَةِ أو المُتَخاذِلة، وإن كان البَعضُ يُلقي بتَبِعاتِها على أعداءَ خارِجيين أو خَصومٍ داخِليين، إلاَّ أن أسبابَها الحَقيقيَّةَ تُردُّ لِسوءِ الأداءِ السِّياسي، والذي يُعزى لافتِقادِ من نَصَّبوا أنفُسَهُم أولياءَ على مَذاهِبِهم وطَوائفِهم وكأسيادٍ على الشَّعبِ إلى الحدِّ الأدنى من الحِسِّ الوَطَني والإنساني والضَّميرِ الاجتِماعي. ولافتِقارِهم لروحِ المَسؤولِيَّة والكفاءةِ اللَّازِمَة، ولن تُعفيهم أيَّةُ ذرائعٍ من مَسؤوليَّتهمِ عمَّا أوصولوا لبنان إليه، مهما حاولوا تَضليلَ الرَّأي العامِ أو التَّنصُّلَ من مسؤوليَّاتِهم بتقاذُفِ الاتِهاماتِ فيما بينهم، أو برَميِ التَّبِعاتِ على بعضِهم البعض. والشَّعبُ أيضاً غير مَعفِيٍّ من مسؤوليَّاتِه، إن كانَ لجِهةِ تقاعُسِهِ عن القِيامِ بأدنى واجِباتِه الوَطَنِيَّة، أو لتغاضيهِ عن ارتِكاباتِ المسؤولين، أو لتقصيرِهِ في الدِّفاعِ عن حقوقِه، أو لِتَعامُلِهِ مع المَسؤولين وكأنَّهُم أنصافُ آلِهَةٍ أو أئمَّةٌ ونُسَّاكُ طوباويون مُبجلونَ مَعصومونَ عن الأخطاءِ والخَطايا.
الجَوابُ الشَّافي على السُّؤالِ المَطروحِ يُستوجِبُ استِذكارَ تًبعاتِ الخِلافاتِ العَبثيَّةِ القائمَةِ على المُناكفاتِ والمُهاتراتِ السِّياسِيَّة والخِطاباتٍ العُنصُرِيَّة، والاتِّهاماتِ التَّخوينِيَّة، وكُلِّ أشكالِ الفُجور…الخ لدوافعَ غَرائزيَّة، وأغراضٍ أنانِيَّةٍ وتَمايُزٍ فِئويٍّ استِعلائي غير مُبرَّر، هذا بالإضافَةِ إلى تَبني مَنهجِيَّةِ ابتزازيَّةٍ كوسيلةٍ لتَحقيقِ مآرِبَ ومَصالِحَ شَخصيَّةٍ أو فئويَّةٍ ولو انطوت على خرقٍ للدُستور ومُخالفَةٍ للقوانين، وإقحامٍ للبنانَ في مَحاورَ إقليميَّة والتي لم نجنِ منها سوى سِياساتٍ تَعطيليَّةٍ وحُلولٍ تَرقيعيَّة، واصطِفافاتٍ فئويَّة، وعِزلَةِ عربيَّة، وانكِفاءِ على مستوى السَّاحتينِ الإقليمِيَّةِ والدَّوليَّة.
وتقتضي الموضوعيَّةُ منا الإقرارَ بأن أخطرَ ما في الشَّعبِ اللبناني (مَسؤولين وأفراد)، تلك العاهاتُ غير المَرئيَّةِ المبنِيَّةِ على التَّكاذُبِ على بَعضِهِ البَعض، كما على الآخرين، والتي تتمثَّلُ في الإيحاءِ بأنه شعبٌ واحِدٌ مُتماسِكٌ ومُتحابٌ واحِدٌ ومُوحَّد، في حين أن سُلوكِيَّاتِهِ تدُلُّ على خلافِ ذلكَ، جرَّاءَ ما يَظهرُ من تقوقعٍ فئوي طائفي ومذهبي وإثني وعِرقي.
2 / 3
ومناطقي، وميولٍ خارجيَّةٍ على حِسابِ المُسلَّماتِ والمصالِحِ الوَطنِيَّة؛ كما في الإيحاءِ بأنه شَعبٌ حَضريٌّ مُتَحَضِّرٌ في حين أن أدبيَّاتِهِ تطغى عليها الروحُ القَبلِيَّةُ العَشائريَّةُ التي تحكُمُها الغَرائزُ والنَّزَعاتُ الانتِقاميَّةُ الثَّأريَّة؛ كذلكَ في التَّمظهُرِ بأنَّه شَعبٌ على قَدرٍ عالٍ من الثَّقافةِ والعِلم، في حين أنه أكثرَ شُعوبِ الأرضِ في تَمسُّكِهِ بالقُشورِ وظَواهِرِ الأشياءِ على حِسابِ الأصولِ وجَواهِرِ الأمور، ومن ذلك أيضاً زعمُهُ أيضاً بأنه شَعبٌ مؤمنٌ بالله وبأديانِه السَّماويَّةِ في حين أنه يَتظاهَرُ بالتَّدَيُّنِ ويَتستَّرُ بلبوسِ الدين ولكنَّه أكثَرُ من يسيءُ للأديانِ والمُتديِّنين إن كان بالمُمارَسَةِ أو بالمغالاةِ في استِغلالِ المُناسباتِ والرُّموزِ الدِّينيَّةِ إلى حدِّ الفُجور.
وقَبلَ تَحديدِ الإجابَةِ ينبغي على كُلِّ لبناني أن يُجري نَقداً ذاتيَّاً مُتَجَرِّداً وموضوعِيَّا قبلَ إلقاءِ اللَّومِ على الآخرين، يبدأ بالتَّحقًّقِ من مدى إيفائهِ بواجِباتِه قبلَ أن يُطالِبَ بحُقوقِه، وأن يَسألَ نفسهُ عما قَدَّمَ للوطنِ والآخرين قبل أن يَسألَ ما قدَّموه له، وما التَّطويرُ الذي أحدثه بحكمِ موقِعِه ومسؤوليَّاتِه والصَّلاحِيَّاتِ التي أنيطت به، وما هي المفاهيمُ والقِيَمُ التي أرساها أو تحلى بها، وما هي الإضافاتُ التي أجراها في الإداراتِ والمؤسَّساتِ التي عملَ فيها أو تولَّى مسؤولِيَّاتِها، وما هي التَّحسيناتُ التي أضافَها على المُنتجاتِ والخَدَماتِ التي شارك في إنتاجِها أو توفيرِها، وما هي القراراتُ والخُطواتُ الجريئةُ التي اتَّخذَها أو أقدَم عليها؛ وما هي التَّنازُلاتُ والمُكتسباتُ التي تخلَّى عنها في سبيلِ وحدةِ الوطنِ والتآخي بين مُختلِفِ مُكوناتِهِ ومواطنيه، وأخيراً كيفَ كانت ردَّاتُ فعلِه تجاه التَّجاوزات التي تحقَّقَ منها.
وقبل الإجابةِ على السؤال، أرى أن اللبنانيينَ مُطالبونَ باستَقاءِ العِبَرِ من الماضي، لتَفادي ارتِكابِ المَزيدِ من الأخطاءِ والهَفوات، وهذا يُملي عليهم التَّحَلي بالمَوضوعِيَّةِ والابتِعادِ عن التَّنظيرِ الافتِراضي، والاحتِكامِ إلى العَقلِ والمَنطِقِ لا إلى العَواطِفِ والمَشاعِر، وعليهم أن يُحسِنوا انتقاءَ الخياراتِ المُتاحَةِ أمامهم وَفقَ الإمكاناتِ المُتوفِّرة، وأن يأخُذوا بعينِ الاعتِبارِ خُصوصِيَّةَ لبنان من حيث موقِعِهِ الجُغرافي وتَنوُّعِهِ العَقائدي وغِناهِ الثَّقافي، وهذا يوجِبُ عليهم أن يعوا أن الدَّولةَ لا تُدارُ بالتَّفرُّدِ أو الاستِفراد، بل بالعَملِ التَّشارُكي ـ التَّعاضُدي، وأن يتَصرَّفوا من وَحي انتمائهم العربي وخصوصيَّاتِهم اللبنانيَّة، ومُتطلِّباتِ صِراعِهم مع العَدوِّ الإسرائيلي، والنَّأي بالنَّفسِ عن كُلِّ ما تبقى من صِراعاتِ إقليميَّةِ ومَحاوِرَ فِئويَّةِ توقِّيَاً لتبعاتِها السِّياسِيَّةِ والاقتصاديَّةِ والاجتِماعِيَّة عليهم.
واللبنانيون مُطالبون أيضاً بالإقرارِ بأنهم في مأزقٍ حَقيقي، وأنَّهم يُعانون من أزَماتٍ شائكَة، تستوجِبُ وقفَ الهدرِ ومكافحةَ كُلِّ أشكالِ الفَساد، وأن يُدركزا بألَّا خَلاصَ لهم إلَّا بالإتِّكالِ على الله أولاً وعلى أنفُسِهم ثانياً وثالِثاً؛ وأن يعوا جيِّداً أن النُّهوضَ بالوطنِ لا يتوقَّفُ على استِجداءِ القُروضِ وتَوَسُّلِ المُساعَداتِ، إنما يكونُ بالحِفاظِ على ثرواتِه الوطنيَّةِ البشريَّةِ والطَّبيعيَّةِ كما الماديَّةِ المُكتَسَبَة، وترشيدِ استِغلالها. كما باعتِمادِ مُقارباتٍ جريئةٍ في مواجَهَةِ الأحداثِ والأزَماتِ الحالَّةِ والمُستَجَدَّة، وفقَ مَنهجيَّةِ مُبادِرَةٍ تقومُ على الاستِعدادِ المُسبقِ وبتبني خُطَطٍ وقراراتٍ جَريئةٍ مَدروسَةٍ والابتِعادِ عن المُقارباتِ المَبنيَّةِ على رَدَّاتِ الفِعلِ، أو القراراتِ المُرتَجلَةِ وغير المَحسوبَةِ النَّتائج.
وبعدَ التَّفكيرِ ملِيَّاً بكُلِّ ما أشرنا إليه، أضحى بالإمكاني استِخلاصُ الإجابةِ على السُّؤالِ المَطروحِ، بالقولِ: إن لبنان الذي نريد، هو لبنانُ الرِّسالَة، لبنانُ الوَطنِ المُتمايِزِ بمَوقِعِهِ بمَناخِه بتقاليدِهِ بعاداتِهِ بتنوُّعِهِ الثَّقافي والدِّيني الفَريد، وَطنُ أبديُّ لكُلِّ أبنائه يعيشون فيه بتآخٍ وعلى قَدرِ المُساواة. لبنانُ الدَّولةِ المُستقلَّةِ المُستقرَّةُ الآمنةِ العادِلةُ الواحِدَةِ المُوَحَّدةِ ذاتِ السِّيادَةِ على كامِلِ إقليمِها، دولةٌ ليبراليَّةٌ ديمقراطِيَّةٌ برلُمانيَّةٌ تَقومُ على الفَصلِ بين السُّلُطاتِ والتَّعاونِ في ما بينَها؛ دولةٌ يَتساوى فيها الجميعُ ولا يطغى فيها مكوِّنٌ أو طائفةٌ أو مَذهبٌ أو مِنطقةٌ على ما عداه؛ دولةٌ يتساوى فيها مواطنوها في الحُقوقِ والواجِبات؛ دولةٌ تُحْكَمُ بروحِيَّةِ القِيَمِ الدِّيمقراطِيَّةِ الحِقّة غيرِ المُحرَّفة، ولا تُؤوَّلُ فيها النُّصوصِ الدُّستورِيَّةُ على غيرِ مَقاصِدِها ومَراميها، ولا تطبَّقُ لِصالِحِ فئةٍ دونَ أُخرى، ولا تُفَصَّلُ فيها القَوانين والمراسِيمُ على مقاساتِ أشخاص، ولا تُقسَّمُ فيها الدَّوائرُ الانتِخابيَّةُ وفقَ مساحاتِ نفوذِ الزُّعماء؛ دولةٌ تقومُ على مَعاييرٍ موضوعيَّةٍ مُجرَّدَةٍ يحكُمُها تكافؤ
3 / 3
الفرَصِ، والكفاءةُ والمُنافَسَةُ الشَّريفةِ لا المَحسوبيَّات؛ دولةٌ يَشعُرُ جميعُ المواطنينَ فيها أنهم شُركاءُ في إدارَةِ شؤونِ دَولتِهم، وتقريرِ مصيرها، لا كمواطنين مُهمَّشين مُستضعفين مَغبونين؛ دولةٌ تُغلَّبُ فيها المصلحةُ الوطنيَّةُ على أيَّةِ مصالِحَ خارجيَّةٍ أو داخليَّةٍ فئويَّةٍ أو فرديَّة.