التوقيف الاحتياطي للحاكم ما بين ضمان تحقيق العدالة، والتحوّط من مغبة ملاحقته أمام قضاء أجنبي | بقلم العميد المتقاعد د. عادل مشموشي
خيراً فعل النائب العام التمييزي بالإنابة القاضي جمال الحجار باستدعائه للحاكم السابق لمصرف لبنان، وتوقيفه احتياطيا بعد استجوابه. لقد فوجئ اللبنانيون بهذا الخبر، كما سارع بعض السياسيين إلى التأكيد على احترامهم لهذا التدبير باعتباره قرارا قضائيا بحت يناقض توجهاتهم السابقة، وحاول بعض آخر حاول استغلال هذا القرار لإظهاره وكأنه نتاج كفاحهم السياسي ضد ما يسمونه برموز الفساد، بينما التزم معظم السياسيين الصمت.
مما لا شك فيه أن قرار التوقيف المنوه عنه قد لاقى ارتياحا عارما لدى عموم اللبنانيين، وقد رؤوا فيه خطوة أولى على مسار محاسبة الفاسدين الذين تسببوا باركاباتهم الإجرامية واستغلالهم للسلطة واختلاس الأموال العامة ونهب ثروات الوطن، بعد ان كانوا شعروا بالإحباط نتيجة المناورات التسويفية والمماطلة التي طغت على الاجراءات القضائية السابقة على امتداد ما يقارب الخمس سنوات. إلى حد كاد المتابعون لملف رياض سلامة يعتقدون وكأن القضاء اللبناني اعجز من ان يتولى متابعة هذا الملف والنظر فيه نظرا لتعقيداته ولكثرة التدخلات السياسية فيه، خاصة وأنه تسبب بإرباك وتعارض في التوجهات داخل الجسم القضائي ذاته، بحيث بدى بعض القضاة وكأنهم يتعمدون إعاقة تحريك هذا الملف وكل القضايا الجزائية التي أثيرت في وجه رياض سلامة داخليا وخارجيا عن ارتكاباته المجرمة التي اقترفها خلال فترة توليه لمهام حاكمية مصرف لبنان.
لم يسبق بتاريخ القضاء اللبناني أن حظي متهما أمام المراجع القضائية بما حظي به رياض سلامة من اهتمام إلى حد الغنج، خلافا لما أبداه المحققون الغربيون أعضاء لجنة التحقيق الأوروبية الذين شاركوا في عملية استجوابه بحضور قضاة لبنانيين.
تعامل رياض سلامة مع القضاة اللبنانيين لما قبيل توقيفه بشيء من النرجسية، حتى نمي أنه لم يكن يتخلى عن سيجاره خلال جلسات التحقيق، ولم يكتف بذلك بل تعمد التخلف عن عدد من الجلسات التي دعي اليها بغرض استجوابه حول القضايا المنسوبة له وما أكثرها، على الرغم من الحراسة الأمنية المشددة التي وفرت له. حتى لم يصر إلى تنفيذ مذكرات عدلية صدرت بحقه عن مراجع قضائية محلية وأخرى أوروبية.
ويبدو أن تصرف سلامة حيال كل الملاحقات المثارة في وجهه بهذه البرودة والاطمئنان كانت تعزى للحماية السياسية التي حظي ويحظى بها من كبار السياسيين، وكبار الموظفين من قضاة ومسؤولين عسكريين وامنيين الذين وفر لهم خدمات مالية استثنائية خلال السنوات السابقة كقروض مدعومة أو تسهيلات نقدية أو مصرفية او تحويل إيداعاتهم وتعويضاتهم من الليرة اللبنانية إلى عملات أجنبية، وربما تحويل حيز كبير منها لخارج لبنان، يبدو أن القاضي حجار ليس من ضمنهم.
يعتقد كثيرون أن قرار التوقيف الاحتياطي لرياض سلامة ما كان ليتخذ من دون تنسيق وموافقة مسبقين من مراجع سياسية عليا لطالما حرصت على بقائه طليقا، ويخشى بعض آخر من أن يكون هذا التوقيف الاحتياطي قد جاء متماهيا مع رغبة رياض سلامة نفسه بتحريك ملفه القضائي في لبنان لتفويت الفرص على أية مراجع قضائية أجنبية لملاحقته ومحاكمته، بعلة عدم جواز ملاحقة الشخص نفسه بذات الأفعال أمام مرجعين قضائيين مختلفين، وأن الاولوية للملاحقة تكون للجهاز القضائي التابع للدولة التي اقترف فيها الجرم أو التي يحمل جنسيتها، كما تسلحا بالمبدأ القائل بأن الدول لا تلزم بتلبية طلبات استرداد مواطنيها وهي من تتولى ملاحقتهم، حتى وإن تكن الجرائم المنسوبة للمطلوب استرداده قد ارتكبت خارج أراضيها.
وبغض النظر عن هذه التأويلات والاستنتاجات، نرى في توقيف سلامة عملا يستأهل الثناء عليه، باعتباره خطوة لا بد منها لوضع ملاحقة الضالعين بالارتكابات الجرمية ذات العلاقة بهدر المال العام بما فيها الاختلاسات المالية والسمسرات والاتعاب الوهمية والمضاربات على العملة الوطنية والهندسات المالية المشبوهة الدوافع والاغراض، وتمكين وتسهيل تحويل عدد كبير من النافذي في السلطة لملايين الدولارات إلى خارج لبنان …الخ على المسار الصحيح، ولتدارك إفلات سلامة نفسه ومئات المساهمين معه من الملاحقة والعقاب.
والنيابة العامة التمييزية كما المالية والاستئنافية بادعائها في القضايا المثارة بموجب الملفات التي قدمت لها أو أحيلت عليها أو جاءت بمبادرة منها تكون قد قامت بواجبها وانتقل عب المسؤولية أمام الرأي العام اللبناني لسلطة التحقيق المختصة (سواء قاضي تحقيق ام هيئة اتهامية)، ومن بعدها للمحكمة المختصة بالنظرفي هذه الجرائم، ولكل من هذه المراجع صلاحية إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحق رياض سلامة وخاصة في حال اتهامه ببعض أو جميع الجرائم المنسوبة إليه .
إن حجم وطبيعة الارتكابات والأفعال المجرمة المنسوب لرياض سلامة وبعض المقربين منه سواء كانوا من ذوي القربى أم مجرد أصحاب او منتفعين، توحي وبما لا يقبل الشك بأنه لا يمكن لأفراد عاديين القيام بتلك الافعال والعمليات المعقدة إنما من قبل شبكات إجرامية جمع بين أفرادها توارد المصالح والنوايا الجرمية الآثمة، وعليه إن السير بهذا الملفات بجدية وتجرد يتطلب محققين كفوئين وخبراء ماليين ومدققي حسابات، كما تتطلب استجواب العشرات من موظفي مصرف لبنان المساعدين لرياض سلامة أو من الذين استعان بهم، كما مع عشرات وربما المئات من أعضاء مجالس الإدارة في معظم المصارف اللبنانية وربما غير اللبنانية، وكذلك مع مئات الأشخاص الذين سربت إليهم معلومات عن قرب الانهيار المالي والنقدي، وتم تحويل أموالهم إلى عملات أجنبية، أو تحويل معظم ثرواتهم للخارج. وهذا يعني أن التحقيق بهذه القضايا سيستغرق سنوات لا أشهر.
ان هذه الجرائم والملاحقة الجزائية بشأنها لا يكفي أن تقتصر على توقيف رياض سلامة، ولا على الذين تم استجوابهم لغاية الآن بل ينبغي توسيع مروحة الاستجوابات بحيث لا يفلت أي مرتكب أو مساهم بأي من الجرائم التي تنطوي عليها الملفات القضائية المفتوحة وما قد يثار مستقبلا من انتهاكات وما قد تكشفه التحقيقات بشأنها من جرائم.
واستدراكا لعدم إفلات أي مرتكب أو مساهم في هذه الجرائم من الملاحقة والعقاب، لا بد من إصدار قرارات منع سفر في القريب العاجل للحؤول دون تمكين أي من المتورطين بهذه الجرائم من مغادرة الأراضي اللبنانبة، وفي طليعتهم المساهمين في المصارف اللبنانية وأعضاء مجالس إدارتها، والمسؤولين عن عمليات صرافة العملات (تحويل الأموال من العملة الوطنية إلى عملات أجنبية) كما عن تحويلها إلى مصارف خارج لبنان.
وبالتوازي مع قرارات منع السفر، لا بد من تجميد الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للمشار اليهم أعلاه، ومنعهم من التصرف بها لحين إثباتهم لمشروعية مصادرها، وتوجيه مذكرات قضائية بهذا الخصوص للمصارف التي حولت اليها مبالغ مالية كبيرة لتجميدها لحين البت في مدى مشروعيتها.
إن حجم الارتكابات المنسوبة للحاكم السابق والمساهمين معه يدعونا للمطالبة بضرورة إحالة ملفات جميع الانتهاكات الجرمية (المالية والنقدية) التي ارتكبت خلال فترة توليه لمنصب حاكمية مصرف لبنان وسواء كان هو بالذات ضالعا فيها أو غيره من كبار الموظفين في مصرف لبنان (بالاضافة إلى الجرائم المتلازمة معها) أمام المجلس العدلي، نظرا لأهميتها وخطورتها على المستوى الوطني.
ونخلص من كل ذلك للقول إن هذه القضية قضية وطنية بامتياز، تقع مسؤليتها في المقام الأول على عاتق الجهاز القضائي، المطالب اليوم بالعمل على استعادة سمعته ودوره، وثقة المواطنين به، بعد أن أصابته الممارسات السابقة مقتلا، وفي المقام الثاني على السلطات السياسية بجناحيها التشريعي والتنفيذي للامتناع طوعيا عن التدخل في شؤون القضاء، وتوفير كل الدعم له، وفي المقام الثالث على الشعب اللبناني لتوفير جو ضاغط ومتابعة إجراءات الملاحقة لحين وصول ملف هذه القضية إلى خواتيمه ومحاكمة ومعاقبة جميع المرتكبين الضالعين في هدر المال العام وتبذيره وتبديد أموال المودعين في المصارف اللبنانية كافة.