الحاكم والذهب: حكاية جحا وابنة الملك | بقلم أحمد بهجة
كان لافتًا جدًا بيان مصرف لبنان الأسبوع الماضي بشأن نتائج التدقيق في احتياطي الذهب الموجود في خزنة المصرف (سبائك ونقود معدنية). وجاء في البيان التالي: “بعد استكمال عملية التدقيق، تبيّن أنّ موجودات خزنة مصرف لبنان من الذهب مطابقة تمامًا، كمًّا ونوعًا، للقيود المسجلة في السجلات المحاسبية”.
وكان لافتًا أيضًا أن يشير البيان نفسه إلى أنّ عملية التدقيق هذه حصلت بناء على طلب من صندوق النقد الدولي.
ربما الأهمّ من البيان تلك الصورة لـ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة واقفًا أنيقًا بين السبائك الذهبية اللمّاعة المرتبة فوق الرفوف في المخزن، يعني بصريح العبارة يقول “الحاكم” للبنانيين إنّ “الذهب بخير”، وهذا الأمر مدعاة للقلق وليس للطمأنينة، لأنه حين كان يقول “الليرة بخير” إنما لم يكن ينطق بالحقيقة بدليل هذا الحضيض الذي وصلت إليه العملة الوطنية ومعها الغالبية الكبرى من اللبنانيين الذين خسروا قيمة مداخيلهم وتبخّرت مدّخراتهم وتدهورت كلّ أحوالهم المعيشية والصحية والتربوية والبيئية…
وهنا يجدر التوقف عند ما قاله النائب اللواء جميل السيّد الذي طالب لجنة المال والموازنة بعقد اجتماع لسؤال مصرف لبنان:
1 ـ من هي الشركة العالمية؟ وكم تقاضَت؟
2 ـ ما هي كمية الذهب بعد الجردة؟
3 ـ كم كانت الكمية سنة 1992 وكيف تطوّرت نزولًا وصعودًا؟
أما إذا “طنّش” المصرف المركزي كالعادة ولم يقدّم إجابات واضحة على هذه الأسئلة الجوهرية، فإنه يصبح كما قال أحد الأصدقاء الظرفاء مثل جحا الذي أخبر صديقه أنه سوف يتزوّج ابنة الملك، وقد قطع نصف المسافة على طريق تحقيق هذا الهدف. ولما استفسر الصديق عمّا يقصده جحا بنصف المسافة؟ أجاب: أنا وأبي وأمي موافقون، ويبقى أن توافق العروس والملك والملكة…!
هذا هو حال “الحاكم” بالنسبة لكلّ ما يتعلق بالتدقيق في أيّ أمر يخصّ البنك المركزي، سواء التدقيق الجنائي أو التدقيق في حساباته الشخصية، والآن التدقيق في موجودات الذهب، المهمّ أنه شخصيًا راض عن النتائج، وعلى الآخرين أن يقتنعوا ويصدّقوا ما يقوله ويعلنه هكذا “ع العمياني”، بل هو يتميّز عن جحا بأمر مهمّ جدًا، فبينما يقرّ جحا بأنّ نصف المسافة المتبقي هو موافقة ابنة الملك وأهلها، لا يهتمّ “الحاكم” بأيّ أحد آخر، يكفي أنه هو موافق حتى يخبر اللبنانيين بالنتائج من دون الإعلان عن اسم الشركة التي تولت التدقيق، والتي ربما تكون أهمّ شركة في العالم أو ربما يكون أمين المستودع في المصرف المركزي هو مَن قام بالتدقيق، لا أحد يدري طالما أنّ الغموض يلفّ هذه المسألة!
كذلك لا أحد يدري كم هي المبالغ التي دفعها مصرف لبنان من أجل إنجاز هذا التدقيق المهمّ جدًا، والذي قال البيان المذكور أعلاه إنّ شركة التدقيق هي شركة عالمية متخصّصة ومحترفة في هذا المجال، تمّ اختيارها وتكليفها من قِبَل مفوَّض المراقبة الخارجي للمصرف وبالتنسيق والتوافق مع صندوق النقد الدولي”، من دون ذكر اسمها ولا المبالغ التي تقاضتها، كأنّ الأمر من الأسرار النووية، فيما المطلوب أن تكون الأمور واضحة وشفافة في هذا المجال إلى أقصى الحدود، وهذا ما يُرتّب على لجنة المال والموازنة وبالتالي على مجلس النواب مسؤولية كبيرة، خاصة في ظلّ الفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية وعدم قدرة حكومة تصريف الأعمال على القيام بما هو مطلوب منها في مساءلة ومحاسبة موظفي الأولى مهما علا شأنهم لأنّ المبدأ هو أن لا أحد فوق رأسه خيمة، والجميع هم فوق الغربال وما من أحد تحته أبدًا.
أكثر من ذلك، فقد أخبر “الحاكم” اللبنانيين في المقابلة التي أجرتها معه الإعلامية منى صليبا على قناة “الحرّة” الأميركية، أنّه يقوم بواجباته كاملة ولم يقصّر يومًا في تحمّل المسؤولية!؟ كيف يمكن أن يتفوّه أيّ شخص بكلام كهذا بينما هو يجلس فوق كلّ هذا الخراب الذي تسبّب به، أو على الأقلّ كان أحد أبرز المتسبّبين به إلى جانب طغمة سياسية غطته وغطاها، وسمحت له بأن يصبح كـ “فرعون”، ويضرب كلّ القوانين بعرض الحائط، وفي المقابل أباح لها أن تستفيد بمليارات الدولارات التي تكدّست في حسابات موزعة على مصارف عديدة في مختلف دول العالم، بينما باقي المودعين اللبنانيين المقيمين والمغتربين، ومعهم أيضًا مودعون عرب وأجانب، خسروا جنى أعمارهم لأنّ هناك حفنة من المجرمين الذين لا يردعهم ضمير ولا أخلاق قرّروا السطو على مئات مليارات الدولارات دخلت إلى لبنان منذ ثلاثين سنة إلى اليوم…!
ومع الأسف الشديد فإنّ هذا الواقع متجذر في ما يُسمّى “الدولة العميقة”، وهو أيضًا متشعّب ومتداخل طائفيًا ومذهبيًا، ويستفيد اليوم إلى أقصى حدّ من الفراغ السياسي القاتل المسيطر على البلد، بما يعني أنّ الحاجة باتت ملحة جدًا لملئ هذا الفراغ، ولكن لا يجوز أن يحصل ذلك كيف ما كان، بل يجب أن تكون الأمور مدروسة بدقة بحيث يأتي إلى السلطة مَن هو إصلاحي فعلًا وليس جزءًا من تلك المنظومة الفاسدة، وللبحث صلة…