الحكمة قبلَ شَجاعَةِ الشُجعان | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لم يمُر تَصريحُ مَعالي وَزيرِ الخارِجِيَّةِ اللُّبنانِيَّةِ الذي أدلى به بعد لقائهِ بدَولَةِ الرَّئيس نَجيب ميقاتي على أثرِ إطلاقِ حِزبِ الله ثلاثِ مُسيَّراتٍ يومَ الثاني من تَموزٍ الحالي إلى تُخومِ حَقلِ كاريش المُتنازَعِ عليه بين لبنان والعَدوِّ الإسرائيلي مُرورَ الكِرامِ على السَّاحَةِ اللُّبنانِيَّة، والذي اعتَبَرَ فيه “أن أيَّ عَمَلٍ خارِجَ إطارِ مَسؤولِيَّةِ الدَّولَةِ والسِّياقِ الدُّبلوماسي الذي تُجرى المُفاوضاتُ في إطارِهِ غير مَقبول، ويُعرِّضُهُ لمَخاطِرَ في غِنى عنها، كما أهابَ بجَميعِ الأَطرافِ التَّحلِّي بروحِ المَسؤولِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ العالِيَة، والتِزامِ ما سَبقَ وأُعلِنَ بأنَّ الجَميعَ من دونِ استِثناءٍ هم وراءَ الدَّولَةِ في عَمَلِيَّةِ التَّفاوض، كما أشارَ بموازاةِ ذلك إلى أن لبنان يُجدِّدُ المُطالَبَةَ بوَقفِ الانتِهاكاتِ الإسرائيلِيَّةِ المُستَمِرَّةِ لسِيادَتِهِ بَحرًا وبَرًا وجَوًا، ولم يُغفل الإشارَةَ إلى أن لبنان لازالَ يُعوِّلُ على استِمرارِ المَساعي الأمريكِيَّةِ لدَعمِهِ وحِفظِ حُقوقِهِ في ثَروتِهِ المائيَّةِ ولاستِعادَةِ عافِيَتِهِ الاقتِصادِيَّةِ والاجتِماعِيَّة. وعليهِ كثُرت تَعليقاتُ المُنَظِّرينَ والمُحلِّلينَ من سِياسِيينَ وغيرِ سِياسِيين والتي لم تخلُ من انتقاداتٍ حادَّةٍ إلى حدِّ نعتِ الموقِفِ بالتَّخاذُلِ، لِما تَضَمَّنَهُ هذا التَّصريحُ من دَلالَةٍ تُعَبِّرُ عن المَوقِفِ الرَّسمي للدَّولَةِ اللبنانيَّة.
تاتي أهَمِّيَّةُ هذا الموقِفِ من كونِهِ جاءَ بعد اجتِماعٍ ثُنائيٍّ بين وَزيرِ الخارِجِيَّةِ الذي يُغرِّدُ وَفقَ تَوجُّهاتِ التَّيَّارِ الوَطَني الحُرِّ ودَولَةِ الرَّئيسِ نَجيب ميقاتي الذي يُعتَبرُ، بحُكمِ الدُّستورِ، الناطِقُ الرَّسميُّ باسمِ مَجلِسِ الوزراءِ. ورَغمَ كُلِّ تلك الانتِقاداتِ الحادَّةِ والتي لا نزالُ نَسمَعُها إلى اليَوم من مَرجَعيَّاتٍ مُختلِفَة، إلاَّ أنَّنا نَرى أن هذا البَيانَ من حَيثُ تَوقيتِهِ ومَضمونِه، يَنِمُّ عن حِنكَةٍ سِياسِيَّةٍ عالِيَةٍ ومَسؤولِيَّةٍ وَطنِيَّة، إذ جاءَ لِيُؤكِّدَ على التِزامِ لُبنانَ بمَنهجِيَّةِ تَغليبِ الحُلولِ السِّلمِيَّةِ على لُغَتي العُنْفِ والحَرْبِ من خِلالِ تأكيدِهِ على أن لبنانَ لم يَزلْ يُعَوِّلُ على استِمرارِ مَساعي التَّفاوضِ التي تَرعاها الولاياتُ الأميركِيَّةُ بشَخصِ مَبعوثِها آموس هوكشتاين، مُحاولًا التَّمييزِ ما بينَ الموقِفِ الرَّسمي للدَّولَةِ اللبنانيَّةِ السِّلمي، وسُلوكِيَّاتِ المُقاوَمَةِ التي تُوحي بجُهوزِيَّتها للجُنوحِ إلى العُنفِ إن اضطرَّت لذلكَ دِفاعًا عن السِّيادَةِ الوَطَنِيَّةِ وحِفاظًا على الثَّرواتِ الطَّبيعِيَّةِ اللبنانِيَّة بما في ذلك الثَّروَةُ الغازِيَّةُ في قاعِ البَحرِ، سَواءَ كانت في المِياهِ الإقليمِيَّةِ أو في المِنطَقَةِ الاقتِصادِيَّةِ الخالِصَةِ أو الجُرفِ القاري الخاصّ بلُبنان.
إن هذا البيانَ وإن تَضمَّنَ دَعوةً للتَّحلي بالرُّوحِ الوَطنِيَّةِ العالِيَةِ، والتَّذكيرِ بوجوبِ وقوفِ الجَميعِ وراءَ الدَّولَةِ في عَمَلِيَّةِ التَّفاوضِ باعتبارهِ الخيارَ الأولَ، إلاَّ أنَّه لم يُسقِط إمكانِيَّةَ لوجوءِ المٌقاوَمَةِ إلى الأساليبِ والوسائلِ المُناسِبَةِ فيما لو تمَّ التُّعَرُّضُ لثَروتِنا الوَطَنِيَّةِ أو تَجاهُلِ حُقوقِ لُبنان في تلك المِنطَقَةِ الحُدودِيَّةِ البَحرِيَّةِ المُتنازَعِ عليها، وفي المُقابلِ أشارَ بوضوحٍ إلى رَفضِهِ للانتِهاكاتِ الإسرائيلِيَّةِ المُستَمِرَّةِ لسِيادَتِهِ بَحرًا وبَرًا وجَوًا والمُطالَبَةِ بضَرورَةِ وَقفِها. وفي ذلك إلقاءٌ بالتِّبعَةِ حَصرًا على العَدوِ الإسرائيلي في حالِ فَشِلَت عَمَلِيَّةُ التَّفاوضِ لتَعَنُّتِ الأخير.
إن التَّعقيبَ على الانتِقاداتِ التي تَناوَلَت التَّصريحَ ـ البَيانِ المُنَوَّهِ عنه لا يَصُحُّ من دونِ التَّطرُّقِ إلى المُلابساتِ التي تَرافَقَت مع إطلاقِ المُسَيَّراتِ، حيثُ فوجِئ المُراقِبونَ بإعلانِ حِزبِ الله أنَّهُ أَطلَقَ ثلاثَ مُسَيراتٍ غيرِ مُسلَّحَةٍ، وأدَّت المُهمِّةَ الاستِطلاعِيَّةِ التي سُيِّرَت من أجلِها، وأوحِيَ بذلكَ أن المُهمَّةٌ استِطلاعِيَّةٌ فَقَط، وتَتمحوَرُ حَولَ جَمعِ المَعلوماتِ عَمَّا يَحصَلُ في المِنطَقَةِ البَحرِيَّةِ المُتنازَعِ عليها، هذا في المُعلَنِ، إنَّما إرسالُ المُسيَّراتِ وإثباتُ نَجاحِها في تَصويرِ باخِرَةِ الحَفرِ الرَّاسِيَةِ في حَقلِ كاريش والعائدَةِ لِشَرِكَة إنرجين (Energean ) اليونانِيَّةِ يَنطَوي على رَسائلَ مُتعدِّدَة، أوَّلُها تَذكيرٌ لِمَن يَنبَغي أن يَتَذَكَّرَ أنَّ الحِزبَ بصِفَتِه “المُقاوِمَة” وكقوَّةٍ عسكريَّةٍ مَوجودٌ ومُتابِعٌ وقادِرٌ على التَّأثيرِ في مُجرَياتِ الأُمورِ وآخِرُها أنه جاهِزٌ وعلى أتمِّ الاستِعدادِ لكُلِّ الاحتِمالاتِ بما في ذلك العَسكَرِيَّة، ورُبَّما حَملَت في طيَّاتِها رَسائلَ باتِّجاهاتٍ مُختلِفَةٍ منها: رِسالةٌ إلى الشُّركاءِ في الوَطَن أن الحِزبَ لن يَتنازَلَ عن الإمساكِ بقَراراتِ الحَربِ والسِّلمِ، وثانِيَةٌ إلى الدُّولِ العَرَبِيَّةِ التي تزامنَ إطلاقُ المُسيَّراتِ مع مُشاركةِ مُمَثِّليها اجتِماعَ مَجلِسِ وزراءِ الخارِجِيَّةِ العَرَبِ في بيروت تَقولُ لِمَن يَعنيهِ الأمرَ من العَربِ أنَّهُ لا زالَ موجودًا ومُمسِكًا بزِمامِ الأُمورِ في لبنان، وثالِثَةٌ إيرانِيَّةَ الطَّابَعِ تُذكِّرُ بضَرورَةِ العَودَةِ إلى المُفاوَضاتِ في المَلفِّ النَّوووي، ورابعةٌ أنَّهُ يُمكنُ لروسيا عبر حُلَفائها مَنعُ إمدادِ أوربا بالغاز من الخاصرةِ اللُّبنانِيَّة.
إسرائيلُ بدورِها أقرَّت بوصولِ الطَّائراتِ المُسيَّرةِ الثَّلاثِ إلى تُخومِ حَقلِ كاريش، وأظهَرَت أنَّها نَجَحَت في إسقاطِ إحداها، مُحاولةً إخفاءَ إخفاقِ جِهازيَّتِها الصَّاروخِيَّةِ أرض ـ جو وطيرانِها في إسقاطِ الطَّائرتين الباقيَتين، واستعانت بفرنسا لإرسالِ رسالةٍ حازمةٍ مزدوجةٍ إلى لبنانَ وحزبِ الله بأنه لن تسكتَ عن أيَّةِ استفزازاتٍ أخرى. إلاَّ إسرائيلَ حاوَلت إخفاءَ حَقيقَةٍ عَسكَرِيَّةٍ مُرَّةٍ بالنِّسبَةِ لها، وهي عَدَمُ فاعِلِيَّةِ أو وَهنِ دِفاعاتِها الجَويَّةِ تِجاهَ المُسَيَّرات، ويُبنى على ذلك أن أيَّةَ مُنازَلَةٍ عَسكَرِيَّةٍ بينها وبينَ المُقاوَمَةِ في لُبنانَ لن تَكونَ بنُزهَةٍ، كما وأنَّ نتائجَها العَسكَرِيَّةُ لن تَكونَ أيضًا حاسِمَةٍ أو مَحسومَة النَّتائجِ لِصالِحِها، على الرَّغمِ من قُدُراتِها على إحداثِ أضرارٍ بشَرِيَّةٍ ومادِّيَّةٍ موجِعَةٍ بلبنان ولو عبر أهدافٍ مَدنِيَّة.
وبالعَودَةِ إلى مَوقِفِ لُبنانَ الذي أُعلِنَ على لِسانِ وزيرِ الخارجِيَّةِ، نرى أنه يُذكِّرُنا بمَوقِفٍ مَشهودٍ للمَغفورِ له دولةِ الرَّئيسِ رَفيق الحَريري، والذي مايزَ فيه ما بين مَوقِفِ لُبنانِ الرَّسمي ولُبنانِ المُقاوِم، والذي نَجَحَ من خِلالِهِ إلى حدٍّ كبيرٍ في تفويتِ الفُرصَةِ على العَدوِّ الإسرائيلي من الرَّدِ على عَمَليَّاتِ المٌاوَمَةِ بتَوجيهِ ضَرباتٍ إلى البُنى التَّحتِيَّةِ والمَرافِقِ العامَّةِ الهامَّةِ الأساسِيَّة، أو ارتِكابِ مَجازِرَ جَماعِيَّةٍ بحَقِّ المَدنينَ الأبرياء. تلك المُعادَلةُ، التي حيَّدت البنى التحتيَّةِ اللبنانيَّةِ والمَرافِقِ العامَّةِ والمَدنيين العُزَّل من دائرَةِ الاعتِداءاتِ الإسرائيليَّة، بحَصرِها المُنازَلَةَ العَسكَرِيَّةَ ما بين جيشِ العَدوِّ الإسرائيلي من جِهَةٍ والجيشِ اللبناني والمُاومَة من جِهَةٍ أُخرى، كانت لِصالِحِ لبنان.
لم يَعِ بَعضُ المَسؤولين اللُّبنانيين السَّابقينَ أهَمِّيَّةَ تلك المُعادَلَةِ، فأسهَموا عن عِلمٍ أم جَهلٍ في تَقويضِها، جَرَّاءَ مَواقِفِهم السِّياسِيَّةِ المَوتورَةِ والقائمَةِ على المُزايَداتِ والخِطاباتِ الرَّنانَة، التي لا تُسْمُن ولا تُغني عن جوع. الأمرُ الذي أتاحَ المَجالَ مُجدَّدًا للعدوِّ بجَعلِ لُبنان بأسرِهِ مَسرَحًا لعَمَلِيَّاتِه، بعدَ أن كان مُربَكًا بحَربِهِ مع المُقاوَمَةِ التي تَتَمَتَّعُ بهامِشٍ واسِعٍ من المُناورةِ والتَّخفي، والتي استَطاعَت من خِلالِهِما كَسْرَ عَنجَهيَّتِه وغَطرَسَتِه.
وكُنَّا نتمنى لو أن المنتقدين للموقِفِ اللبناني الرَّسمي من إطلاقِ المُسَيَّراتِ قد أخذوا بعينِ الاعتِبارِ أن السِّياسَةَ الخارِجِيَّةَ للدَّولَةِ تأتي نتاجَ تَفاعُلٍ بين عِدَّة عَوامِلَ مع بَعضِها البَعض، منها ما هو أساسي ومنها ما هو ثانوي، منها ما هو داخِلي ومنها ما هو خارِجي، منها ما هو دائمٌ ومنها ما هو مُؤقَّتٌ، منها ما هو مادِّي ومنها ما هو مَعنوي، منها ما هو ثابِتٌ ومنها ما هو من قبيلِ المُناوَرَة؛ وقد تَضْطَرُّ الدَّولَةُ أحيانًا إلى اعتِمادِ سِياساتٍ خارجيَّةٍ مُتضارِبَةٍ أو غَير مُتناسِقَة، وأحيانًا أُخرى قد تضطرُّ للإعلانِ عن مواقِفَ غير رَاغِبَةٍ فيها تَجَنُّبًا لِلَومٍ دَولي أو لتَصويرِها وكأنَّها تَفَوِّتُ فُرَصَ الحُلولِ السِّلمِيَّةِ أو تَقَوِّضُها.
كما يجبُ ألاَّ يَفوتَ المُحلِّلونَ أن الإدارَةَ السِّياسِيَّةُ تَقومُ على العَملِ بمَبدأ فَنِّ المُمكِن، باستِغلالِ عَناصِرِ القُوَّةِ والنُّفوذِ والفُرَصِ المُتاحَة، بَعيدًا عن المِثاليَّاتِ والطُّموحاتِ الفَردِيَّةِ أو الجَماعَيَّة؛ وهذا يُملي على المَسؤولين السِّياسيين أن يأخُذوا بعين الاعتِبارِ الواقعِ السِّياسِيَّ في البيئةِ الدَّاخِليَّةِ والمُحيطِ الخارِجي بصورَةٍ موضوعِيَّةٍ وغيرِ مُبالَغٍ فيها، وهذا ما يوجِبُ عليهم التَّفاعُلَ مع التَّوجُّهاتِ الاجتِماعِيَّةِ والانسانيَّةِ الدَّاخليَّةِ والمَواقِفِ الدَّولِيَّةِ المُختلِفَةِ حِيالَ المَسألَةِ المَطروحَةِ والتَّوفيقَ في ما بينَها، ومن هنا تَنبَعُ حَساسِيَةُ المَوقِفِ بالنِّسبَةِ للُبنان، إذ لا توافُقٌ على المُستوى السِّياسِي الدَّاخِلي، ونَحنُ دَولَةٌ صَغيرٌ يَكادُ تأثيرُها على السَّاحَةِ الدَّوليَّةِ أن يكونَ مَعدوما.
كما كان أحرى بالمُنتَقِدينَ أن يَتنبَّهوا أيضًا إلى أن التَّوجُّهاتِ السِّياسِيَّةِ الخارِجِيَّةِ ينبغي أن تكونَ مَعقولَةً والقَراراتُ السِّياسِيَّةُ المُتَّخَذَةِ بصَدَدِها يَنبغي أن تكونَ مُحكَمَةٌ وقابلَةً للتَّنفيذ، وقادِرَةً على تَحقِّقِ أفضَلِ النَّتائجِ بأقَلِّ ثمَنٍ أو كِلفَة، وإن كنَّا نُفضَّلُ لو أن سِياساتُنا ومواقِفُنا الدَّاخِليَّةُ كما الخارِجِيَّةُ تَقومُ على الفَعلِ لا رَدَّاتِ الفِعل، الذي يفترضُ أن تُبنى على تَخطيطٍ مَوضوعِيٍّ ودِراساتٍ مُعمَّقَة مُعدَّةٌ مُسبَقا، من شأنها أن تُحدِّدَ الأدواتِ اللَّازِمَةِ للتَّعامُلِ مع القَضايا المَطروحَةِ على ضَوءِ التَّطوُّراتِ والمُستَجِدَّات، الأَمرُ غيرُ المُتوفِّرِ في لبنان الذي يَفتَقِدُ إلى كُلِّ أشكالِ التَّخطيطِ المُسبَق.
وأجدى بركبِ المنتقدين أن يَتَنبَّهوا إلى أنَّ المسؤولونَ في معرضِ السِّياسَةِ الخارِجِيَّةَ يَتوجَّهونَ بخطاباتِهم ومواقِفِهم إلى المُحيطِ الخارِجِي، وهو مُحيطٌ يَتَّسِمُ بالتَّغييرِ المُستَمِرِّ الذي تَحكُمُهُ مَصالِحُ دَوليَّةٍ مُتبايِنَة، وأن مواقِفَ الدَّولةِ التي تتوخى حِمايَةَ أهدافَها وطُموحاتِها الخارِجِيَّةِ تَتأثَّرُ بمَكانَتِها في بُنيَةِ النِّظامِ الدَّولي، وعليهِ يَنبغي ألاَّ يُغفِلَ المُنتقدونَ حاجَةَ أوروبا لمَوادِّ الطَّاقَةِ عامَّةً ورَغبَتَها في العَملِ سَريعًا على الحُصولِ على بديلٍ عن الغازِ الرُّوسي، من دونِ إغفالِ رَفضِ الأخيرَةِ أي روسيا وسَعيَها للإبقاءِ على حَصرِ مَصادِرِ الغازِ إلى أوروبا بها أو عَبرَها، وفي هذا الإطار نرى ألاَّ مَصلَحَةَ للبنان في إظهارِ نَفسِهِ وكأنَّهُ يُعيقُ عَمَلِيَّةَ استِخراجِ الغازِ في الشَّرقِ الأوسط للتَّضييقِ على أوروبا، ولا أنَّه يَقِفِ إلى جانبِ فَريقٍ ضُدَّ آخَر، بل علينا أن نَحرَصَ على أن تكون مواقِفُنا مَحصورَةً بحِمايَةِ حُقوقِنا.
دولةُ الرَّئيس نَجيب ميقاتي ووَزيرِ خارِجِيَّةِ حُكومَتِه لم يَتبرَّءا من المُقاوَمَة، في ما أُعلِنَ على لِسانِ الأَخيرِ، إنَّما أرادا من خِلالِهِ إيصالَ رِسالَةٍ واضِحَةٍ للمُجتَمَعِ الدَّولي بأن لبنانَ الدَّولَةَ ليس من هُواةِ الحُروبِ ولو مع عَدوٍ غاصِبٍ صَلِفٍ ومُتغَطرِس، وأنَّهُ ما يَزالُ مُتجاوِبًا وسَيبقى كذلك إلى أبعَدِ الحُدودِ مع المَساعي الدَّولِيَّةِ التي تُشَجِّعُ على التَّفاوُضِ لِحَلِّ النِّزاعِ على الحُدودِ البَحرِيَّةِ مع الكِيانِ الإسرائيلي، إلاَّ أن هذا المَوقِفَ لا يَعني تَنازُلَ لبنانَ عن ثَروَتِهِ النَّفطِيَّةِ ولا عن حَقِّهِ في الدِّفاعِ عَنها بشَتَّى الوَسائلِ بما في ذلك الخَياراتُ العَسكرِيَّةُ إن اضْطرَّ لذلك “دِفاعًا عن النَّفس”، وفي هذا نَرى في هذا المَوقِفِ تَكامُلاَ مع تَوجُّهاتِ المُقاوَمَة.
تَقتضي الموضوعِيَّةَ مِنَّا كلُبنانيينَ تَحكيمَ العَقلِ والابتِعادُ عن تعابيرِ التَّخوين، وتَجَنُّبِ إظهارِ أنفُسِنا وكَأنَّنا هُواةُ حَرب، في الوَقتِ الذي نَعلَمُ جَيِّدًا ما جَرَّتْهُ الحُروبُ المُتعاقِبَةُ على لُبنان، وعَلينا أن نأخُذَ بعينِ الاعتِبارِ أن جَيشنا الوَطَني غَيرَ مُهيَّءٍ حالِيًا تَسليحًا ولوجِستِيًا لخَوضِ غِمارِ حَربٍ كلاسِيكِيَّةٍ مع العَدوِّ الإسرائيلي الذي لَديهِ جَيشٌ مُزوَّدٌ بأحدَثِ الأسلِحَةٍ الفَتَّاكَةِ ويَمتَلِكُ قُدُراتٍ تَسليحِيَّةٍ ولوجِستِيَّةٍ عالِيَة. كما أن ظُروفَنا الاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والمَعيشِيَّةِ لا تَسمَحُ لنا للمُباشَرَةِ بحَربٍ غيرِ مُستَعِدِّينَ لَها، ومن غيرِ الحِكمَةِ التَّفريطُ بالمُقاوَمَةِ من خِلالِ تَركِ العَدوِّ يَجرُّها إلى حَربٍ قد استَعدَّ لها ورُبَّما اختارَ توقيتَها. وهذا لا يَعني الاستِسلامَ والرُّضوخَ إنَّما التَّحوُّطُ لِكُلِّ الاحتِمالاتِ وبالتالي عَلينا الاستِعدادُ للحَربِ دائمًا، ولكن عدمِ اللجوءِ إليها إلاَّ كَخيارٍ أَخيرٍ، وحصرًا في الدِفاعِ عن كرامَتِنا وثَرَواتِنا وحُقوقِنا، ولكن علينا أن نَضَعَ نَصْبَ أعيُنِنا أن الحِكمَةَ قَبلَ شجاعَةِ الشُّجْعان.