السرية المصرفية ما لها وما عليها | بقلم القاضي عصام ضاهر والمحامي د. باسكال فؤاد ضاهر

نشأ قانون سرية المصارف في لبنان في 3 أيلول 1956، في ظل ظروف متناقضة من الرخاء في بلدان معينة والشدة في بلدان أخرى. فمن جهة جاءت نشأته في أعقاب الفورة النفطية التي اجتاحت الشرق الأوسط وخاصة الدول العربية وأدت إلى تدفّق الكثير من الأموال إلى المنطقة وإلى جيوب الكثيرين من أصحاب الخبرة المتواضعة في التعامل مع المصارف بشكل عام والأوروبية منها بشكل خاص، وذلك لصعوبة الولوج إلى نظم وإجراءات ذات حداثة معقدة نسبياً، ولعدم سهولة الانتقال إلى بلدان بعيدة نوعاً ما في وقت كانت فيه آليات إدارة و متابعة الحسابات عن بعد لم تنشأ بعد. ومن جهة ثانية فقد شهدت المنطقة فترةً مليئة باضطراب النظم السياسية وثورات وانتفاضات أدّت إلى حدوث موجة من الانقلابات والتغييرات في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي أنتج بدوره هروب رؤوس الأموال والرأسماليين إلى خارج بلدانهم للبحث عن ملاذ اقتصادي آمن .
وقد كان الهدف من اجتراح هذا القانون هو تعزيز الثقة في القطاع المصرفي اللبناني وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، مما ساهم في تحويل لبنان إلى مركز مالي إقليمي عُرف بـ”سويسرا الشرق” كما درجت العادة على تسميته. وقد حفل هذا القانون بجملة من المميزات كان أبرزها:
حماية خصوصية المودعين: وفّر القانون حماية صارمة للمعلومات المصرفية، مما عزز ثقة العملاء في النظام المصرفي.
جذب الاستثمارات: ساهمت السرية المصرفية في جذب رؤوس الأموال الأجنبية، خاصة من الدول العربية، مما دعم الاقتصاد اللبناني.
تعزيز القطاع المصرفي: أدى القانون إلى نمو كبير في حجم الودائع والموجودات المصرفية، مما ساهم في تطور القطاع المالي في البلاد. وإن كان قد حمل في طياته تحديات عديدة وعوامل خطورة ظهرت بوادرها وآثارها في قضية بنك انترا الشهيرة.
إلاّ أن هذا القانون قد تضمن أيضاً جملة من العيوب يمكن إيجازها دون استرسال في التالي:
تسهيل الفساد والتهرب الضريبي: أصبحت السرية المصرفية ملاذاً للفساد وغسيل الأموال والتهرب الضريبي، مما أضرّ بالاقتصاد اللبناني.
عرقلة الشفافية والمحاسبة: صعّب القانون من جهود مكافحة الفساد والتحقيق في الجرائم المالية، بسبب القيود المفروضة على الوصول إلى المعلومات المصرفية.
تعرّض لبنان لضغوط عديدة نظراً لسهولة التأثير على الواقع الاقتصادي عبر اختلاق و/أو استثمار أية اضطرابات أمنية أو سياسية نظراً لتأثير عامل الثقة والأمان على رأس المال. بالإضافة إلى تعرض لبنان لضغوط من المجتمع الدولي، خاصة من صندوق النقد الدولي، لإصلاح قوانينه المصرفية وتعزيز الشفافية.
خطوة إصلاحية أم انتقائية دستورية؟
بتاريخ 24 نيسان 2025 أقر مجلس النواب تعديلات جديدة على قانون سرية المصارف بموجب القانون رقم 306 الصادر تاريخ 28-10-2022 بهدف الاستجابة إلى متطلبات صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، ولاستعادة بعض الثقة بقطاعه المالي والمصرفي والإداري، وكخطوة إصلاحية بهدف تعزيز الشفافية. أما أبرز التعديلات:
تحديد الجهات التي لا تطبّق عليها أحكام السرية المصرفية المعدّدة في الفقرة باء من المادة الثانية من القانون، وهم :
الموظف العمومي.
رؤساء الجمعيات والهيئات الإدارية التي تتعاطى نشاطاً سياسياً، وهيئات المجتمع المدني وأزواجهم وأولادهم القاصرون والأشخاص المستعارون لهم و/أو المؤتمنون و/أو الأوصياء و/أو صاحب الحق الإقتصادي لهم، والمرشحون للإنتخابات النيابية والبلدبة والإختيارية، وسواء من خلال تملكات متسلسة أو وسائل سيطرة مباشرة متسلسلة أخرى أو خارجها.
رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدراؤها التنفيذيون ومدققو الحسابات الحاليون والسابقون دون الأشخاص المستعارين لهم والمحدّدين في الفقرة السابقة، ومثلهم رؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه كان يمكن للمجلس الدستوري أن يحمي مبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور اللبناني بهدف مساواة الفقرة الثالثة مع ما سبقها، وبالتالي رفع السرية عن الأزواج والأولاد القاصرين والأشخاص المستعارين و/أو المؤتمنين و/أو الأوصياء و/أو صاحب الحق الإقتصادي لكل من رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدرائها التنفيذيين ومدققي الحسابات الحاليين والسابقين، كما رؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية. إلاّ أنه كان لافتاً الوجهة التي سار عليها في قراره الرقم 19- 2022 حيث اعتبر أنه لا خرق لقاعدة المساواة السالف ذكرها.
توسيع نطاق الجهات المخوّلة الوصول إلى المعلومات المصرفية لتشمل السلطات القضائية، مصرف لبنان، هيئة التحقيق الخاصة، والإدارات الضريبية.
وقد اعتبرت هذه المادة أن مفاعيل رفع السرية المصرفية بالنسبة للأشخاص المذكورين أعلاه تبقى سارية حتى بعد تاريخ استقالتهم أو إحالتهم إلى التقاعد ولمدة خمس سنوات، وتسري على من تولّى سابقاً أياً من المسؤوليات المحددة حتى تاريخ 23 أيلول 1988.
أما الجهات التي بإمكانها طلب رفع السرية المصرفية والتي حُددت في متن المادة السابعة:
القضاء المختص في الدعاوى المتعلقة بجرائم الفساد والواقعة على الأموال كما والجرائم المحددة في متن الفقرة ألف من هذه المادة .
هئية التحقيق الخاصة.
الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد .
الإدارة الضريبية بهدف مكافحة التهرب الضريبي والإلتزام الضريبي والتدقيق.
أما بالنسبة للفقرتين “هاء” و “واو” من هذه المادة، أي ما يتصل بمصرف ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، فقد أتى التعديل الصادر في 2 نيسان 2025 وجزّأ حق رفع السرية المصرفية بالنسبة لهم فيما يتصل بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، كالآتي:
من حيث المبدأ لا يجوز الإعتداد بالسرية المصرفية تجاهمها سنداً لأحكام الفقرة هاء الجديدة .
أما بما يتصل حصراً بموضوع إعادة هيكلة القطاع المصرفي فلهم الحق بطلب رفع السرية المصرفية إنما بموجب طلب عام دون تحديد حساب أو عميل معين بإصدار طلب عام يرمي إلى إعطاء معلومات عن جميع الحسابات والعملاء. وقد تكون العبرة من وراء هذا النص حماية الوصول إلى الغاية المتوخاة، ألا وهي إعادة الهيكلة دون التفرد بأسماء معينة دونما أخرى. وبالتالي فقد بات من واجب القطاع المصرفي أن يرسل أرقام الحسابات ومضمونها إلى الجهات الرقابية وذلك غب الطلب منها، إنما دون الأسماء المرتبطة بتلك الحسابات. وقد ربط هذا التعديل رفع السرية المصرفية بصاحب الحساب المعني بحيث أنه يكشف اسمه في حال قدّم هو الإعتراض على الطلب المساق إلى قاضي الأمور المستعجلة ، علماً أن القسم الأخير من الفقرة “زين” من هذا المادة قد أوجبت وقف التنفيذ بمجرد تقديم الإعتراض لقاضي العجلة وذلك إلى حين صدور الحكم ما لم يقرر القاضي خلاف ذلك خلال مدة 15 يوماً.
تعديل في عمق مفاعيل الإعتراض
تعمقاً بشرح الفقرة الأخيرة نورد الآتي:
لقد أخرجت هذه المادة مفهوم الإعتراض من سياقه المستقر قانوناً وعكست طبيعته ومفاعيله التي تقول بأن الإعتراض يبقى بطبيعته غير موقف للتنفيذ إلاّ بحال قرر القاضي ذلك وفقاً لسلطته وبما يراه مناسباً لإحقاق الحق. واعتبرته موقفاً للتنفيذ بمجرد تقديمه إلّا في حال قرر القاضي ذلك. إنما عليه أن يصدر قراره هذا ضمن مهلة 15 يوماً علماً ان النص لم يحدد منطلقاً لبدء سريان هذه المهلة وما إذا كان تاريخ تقديم الإعتراض أو تبليغ الجهة المعترض بوجهها، ولذا لا يمكن اعتبارها مهلة إسقاط، وهذا أمر لافت جداً ويقتضي التنبه لمفاعيله، لا سيما وأن أمام قاضي الأمور المستعجلة نوعين من الإعتراضات في كتلة المشروعية القانونية:
النوع الأول عام وشامل وهو لا يوقف التنفيذ إلاَ بقرار يصدر عن القاضي.
النوع الثاني متصل بالإعتراض المحدد في الفقرة هاء من المادة السابعة من القانون موضوع التعليق وهو يوقف التنفيذ بمجرد تقديمه في القلم إلاّ بحال قرر القاضي خلاف ذلك ضمن مهلة 15 يوم.
ولا ضير من الإشارة أيضاً إلى أن هذا القانون يعتبر خاصاً بالنسبة إلى قانون النقد والتسليف العام في مجال تطبيقه، وبالتالي، وسنداً للقاعدة القانونية التي تقول بأن القانون الخاص يقدم في التطبيق على القانون العام، يمسي التعديل الخاص على نص المادة 150 من قانون النقد والتسليف شاملاً جميع الحالات المدرجة في متنه باستثناء موضوع إعادة هيكلة القطاع المصرفي المحكوم تطبيقه بما خص رفع السرية المصرفية بالفقرة هاء من المادة السابعة السالفة الذكر.
أخيراً نفيد أنه، ولنجاح تجربة هيئة التحقيق الخاصة، يقتضي تعديل المادة الثانية من قانونها بهدف فصل رئاستها عن حاكمية مصرف لبنان وجعل عدد الأعضاء فيها رقماً مفرداً ومستقلين من أجل إبعاد أي مفعول لتضارب المصالح.