ازمة لبنانالاحدث

الكهرباء في لبنان: من قدر العتمة إلى الاستدامة | بقلم زهير عساف

في لبنان، حيث تتصاعد الأزمات السياسية والاقتصادية، يبقى قطاع الكهرباء شاهدًا حيًا على الانهيار المؤسساتي الذي يعاني منه البلد. هذا القطاع ليس مجرد قضية تقنية أو اقتصادية؛ بل هو جزء من معاناة يومية يتجرعها المواطنون في كل مدينة وقرية. العتمة الممتدة لساعات طويلة باتت جزءًا من الروتين اليومي للبنانيين، الذين يعتمدون بشكل كبير على المولدات الخاصة التي ترهق ميزانياتهم. ومع ذلك، يبدو أن هناك بصيص أمل في الأفق، حيث تلوح فرص جديدة مثل قرض البنك الدولي ومشروع الربط الكهربائي مع الأردن عبر سوريا كخطوات محتملة نحو النهوض بالقطاع.

لكن هذه الحلول ليست سحرية ولا يمكن لها أن تنجح دون رؤية شاملة تضع الاستدامة والحوكمة الرشيدة نصب عينيها. المشكلة في لبنان ليست فقط في البنية التحتية المتهالكة أو التقنيات القديمة، بل أيضًا في غياب الإدارة السليمة والشفافية. منذ عقود، يعاني القطاع من هدر مالي وفني هائل، إلى جانب تقاسم غير عادل للموارد بين المناطق والفئات الاجتماعية. المواطن اللبناني، سواء كان في العاصمة أو في القرى النائية، أصبح أسيرًا لهذه الدوامة التي لا تنتهي.

في أبريل 2025، وافق البنك الدولي على تقديم قرض بقيمة 250 مليون دولار لدعم إصلاح القطاع. هذا التمويل ليس مجرد دعم مالي، بل هو فرصة لاختبار جدية الدولة اللبنانية في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها. المشروع يشمل خطوات مهمة مثل إنشاء مركز تحكم ذكي لإدارة الشبكة الكهربائية، وتحسين أنظمة الفوترة والتحصيل لتقليل الهدر، والاستثمار في الطاقة الشمسية كمصدر مستدام للطاقة. لكن، كما هو واضح، فإن نجاح هذه الجهود مرهون بالإرادة السياسية والتنفيذ الصارم.

بالإضافة إلى ذلك، هناك مشروع الربط الكهربائي الثلاثي بين لبنان والأردن عبر سوريا، الذي يُعتبر أحد الفرص الواعدة لتخفيف الأزمة الحالية. المشروع يهدف إلى توفير ما يصل إلى 250 ميغاواط نهارًا و150 ميغاواط ليلًا من الشبكة الأردنية، وهو ما يمكن أن يساهم بشكل كبير في تغطية جزء من الطلب المحلي. ومع ذلك، واجه المشروع تحديات متعددة، منها تأخير لبنان في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، والظروف الأمنية في سوريا، وتعقيدات بيروقراطية داخل البلاد. ولولا هذه العراقيل، لكان المشروع قد بدأ بالفعل في تحقيق نتائج ملموسة.

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على جنوب لبنان، تضررت العديد من المحطات الكهربائية وخطوط التوزيع، مما زاد من معاناة الأهالي في تلك المناطق. إعادة بناء هذه البنية التحتية ليست فقط ضرورة إنسانية، بل هي أيضًا شرط أساسي لتحقيق العدالة في توزيع الطاقة. يجب أن تكون هذه المناطق أولوية في الخطط الإصلاحية، مع إشراك المجتمعات المحلية في تحديد الاحتياجات وتنفيذ المشاريع بطريقة تراعي الصدمات المستقبلية.

من جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن استدامة قطاع الكهرباء دون التطرق إلى الآليات المالية. توفير تمويل ذكي وعادل يعتبر أمرًا حيويًا لاستمرارية الإصلاحات. من هنا تأتي أهمية إصلاح التعرفة بشكل تدريجي مع حماية الأسر ذات الدخل المحدود، وتعزيز التحصيل عبر العدادات الذكية، وإطلاق صندوق وطني لتمويل المشاريع المستدامة. كما يمكن للشراكات بين القطاعين العام والخاص أن تلعب دورًا كبيرًا في تحديث قطاع الإنتاج والتوزيع.

في نهاية المطاف، يرتبط قطاع الكهرباء بشكل مباشر بأهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف السابع الذي يدعو إلى ضمان حصول الجميع على طاقة نظيفة وموثوقة وبأسعار معقولة. لتحقيق هذا الهدف في لبنان، يجب العمل على دمقرطة الوصول إلى الكهرباء في جميع المناطق، والاستثمار في الطاقة المتجددة لتقليل الكلفة والانبعاثات، وتعزيز الشفافية والمساءلة في جميع مراحل الإنتاج والتوزيع.

اليوم، يقف لبنان أمام خيارين: إما الاستمرار في مسار الانهيار، أو اقتناص الفرص المتاحة لإعادة بناء قطاع الكهرباء كمدخل إلى مشروع وطني متكامل. من خلال قرض البنك الدولي، ومشروع الربط الإقليمي، وخطط إعادة البناء والتمويل المستدام، يمكن للبنان أن يخرج من نفق العتمة نحو منظومة طاقة أكثر عدالة وكفاءة واستدامة. لكن هذا لن يحدث إلا إذا توفرت الإرادة السياسية والمساءلة الشعبية، لأن التغيير الحقيقي لا يبدأ إلا من هنا.

زهير عساف، باحث في التنمية المستدامة الإستراتيجية

زهير عساف باحث في التنمية المستدامة الاستراتيجية جامعة بليكينغي للتكنولوجيا -السويد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى