المشاركة في العملية الانتخابية واجب وطني وليست مجرد حق | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
الشعب اللبناني أمام استحقاقٍ مصيري خلال الأشهر القليلة المقبلة، يتمثل في إجراء الانتخابات النيابية ولم يبقَ سوى أسبوعان لتقديم طلبات الترشيح، إلا أن كل المعطيات تشير إلى أن الشعب اللبناني لم يع بعد أهمية هذا الاستحقاق، في ظل حالة الإرباك التي تعتري مسرح الحياة السياسية، نتيجة الغموض وخلط الأوراق التي أحدثتها المستجدات المتسارعة.
هذا الحدث السياسي الوطني، على الرغم من أهمبته، كان يمكن تجاوزه باعتباره حقا من الحقوق السياسية التي يمكن للمواطن المخول قانونا ممارسته أو الامتناع عنه، لو كان الوطن في وضعٍ طبيعي، إذا لا إكراه في ممارسة الحقوق السياسية طالما كانت تتوافق مع مندرجات أصول الممارسة الديمقراطية. إلا أن الوضع الحرج الذي يتخبط فيه لبنان منذ أن انبثقت انتفاضته الشعبية في السابع عشر من تشرين الثاني عام 2019 يجعل من مشاركة اللبنانيين في العملية الانتخابية ترشحا أو اقتراعًا واجبًا وطنيًا وليس مجرد حق يجوز استعماله أو الاستنكاف عن ممارسته.
تأتي المشاركة في العملية الانتخابية المقبلة في صدارة الأولويات الوطنية التي ينبغي أن يعيرها كل فردٍ متمتعٍ بحقوقه السياسية في لبنان الاهتمام اللازم، وعليه أن يحسن ممارسة هذا الواجب، وإلا اعتبر في مقياس الأدبيات الوطنية متخاذلا عن القيام بأهم واجباته كمواطنٍ مسؤول.
نقول هذا بعد أن توضحت أمام جميع اللبنانيين، بمختلف انتماءاتهم السياسية والطائفية والمذهبية وفئاتهم الاجتماعية، تبعات عدم إيلائهم لمثل هذا الاستحقاق الاهتمام اللازم منذ عقود، وها نحن جميعا ندفع أثمانا باهظة،على كافة المستويات، لاستهتار الشعب وتخاذله في ممارسة هذا الحق الجوهري بحكمةٍ وعقلٍ رشيد.
لقد أدت إساءة استعمال اللبنانيين لحقهم الانتخابي خلال عقودٍ خلت إلى إيصال الوطن إلى ما هو عليه اليوم، فأضحى بلدا مفككا سياسيا، منهارا اقتصاديا، متعثرا ماليا، مهمشا دوليا، معزولا إقليميا؛ يتم التعامل معه كدولتهٍ فاشلةٍ عاجزةٍ عن القيام بأدنى واجباتها تجاه المجتمع الدولي كما تجاه مواطنيها، باعتبارها أقرب إلى حالة الافلاس المالي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي …الخ بعد أن انفجرت عشرات الأزمات الشائكة التي تشابكت وتداخلت مع بعضها البعض، فزادت في الأمور تعقيدا، الى حدٍّ ينذر بانفجارٍ شعبيٍّ وشيك، ما لم يصر إلى تدارك الأمر بتصويب الأداء السياسي الهابط الذي تسبب بكل الأزمات الحالة بالوطن والتي يعاني منها اللبنانيون اليوم، سواء كانت سياسية، اقتصادية، مالية، نقدية ، معيشية وأمنية…الخ
لم يعد بخافٍ على أحد أن تلك الأزمات يقف خلفها أو تسبب بها سياسيون وصلوا إلى مواقعهم السياسية من خلال التلاعب في القوانين الانتخابية وتفصيلها على مقاساتهم السياسية ووفق مصالحهم الانتخابية، هذا بالإضافة إلى تضليلهم بعض الناخبين جراء التلاعب بمشاعرهم الدينية والغرائزية، وشراء أصوات البعض الآخر من ذوي النفوس الرخيصة. وبعد أن تموضعوا في مواقعهم وتمكنوا بصلاحياتهم من التحكم بمسار الأمور، عاثوا في الوطن فسادا لم تعرفه المجتمعات البشرية قاطبة، فكرسوا التوارث السياسي، ونهبوا ثروات البلاد وتطاولوا على مدخرات الشعب، وتقاسموا كل ذلك كمغانم لحروبهم التي خاضوها ضد شعب مسكين ائتمنهم على مقدرات بلده، متسلحين بقلة الضمائر، وبأساليب نكراء قامت على استباحة كل المحرمات، وانتهاك النصوص الدستورية ومختلف القوانين والنصوص الوضعية النافذة، وزرع أزلامهم كأدوات يسيرونها في المراكز الحساسة في مختلف إدارات الدولة ومؤسساتها بما في ذلك السلك القضائي والأجهزة العسكرية والأمنية للتغطية على ارتكاباتهم، وتقاسموا النفوذ على الجغرافيا الوطنية، وأداروها كمزارع خاصة بهم، وسخروها لتحقيق مآربهم ومصالحهم الفئوية والخاصة. وبعد أن أفلسوا الدولة ونهبوا خيراتها وثرواتها وسطوا على أموال المودعين من لبنانيين وغير لبنانيين، عمدوا إلى تهريب ما اكتنزوه من أموالٍ ملوثةٍ بالفساد إلى الخارج بالتواطؤ مع حاكم مصرف لبنان الذي لا يقل عنهم فسادا وفجورا.
في ظل هذه الكبوة الوطنية لم يعد بالإمكان النهوض بالوطن في ظل وجود أيٍّ من الرموز السياسية أو أذنابها في السلطة، لأنهم إما فاسدون وإما متآمرون على الشعب، وبالتالي لا يؤمن جانبهم ثانية، وما على الشعب، إن أراد حياة كريمة، سوى إقصاؤهم كليا عن المشهد السياسي في لبنان، تمهيدا لمحاسبتهم، واستعادة الثروات الوطنية المنهوبة والأموال العامة المختلسة إلى الدولة وأموال الشعب المسروقة لأصحابها. وها هي الفرصة آتية ومتاحة أمام الشعب ليعيد الأمور إلى نصابها، وما عليه سوى تحكيم العقل المنطق بدلا من الغرائز والعواطف، وممارسة واجبه الانتخابي بكل وعي ومسؤولية.
أيها الشعب اللبناني الأبي، إنك لمطالب اليوم بممارسة حقوقك السياسية بفعالية، من خلال ممارسة حقك الانتخابي ترشيحا واقتراعا، وعليك أن تكون مواطنا صالحا وشريكا حقيقيا فاعلا ومؤثرا في الحياة السياسية وبما يرسم لأبنائك من بعدك. لقد أضحى التقاعس في ممارسة هذا الواجب الوطني بمثابة محرماتٍ أخلاقيةٍ لا يجوز التساهل فيها، فاحسنوا اختيار ممثليكم في الندوة البرلمانية، من خلال التصويت لأشخاصٍ يكونون على قدر المقام، أشخاص مسؤولون قادرون على القيام بأعباء النهوض بالوطن ومحاسبة الفاسدين، كل الفاسدين، على ما اقترفوا من فظاعاتٍ بحق الوطن والمواطن.
أنتم مطالبون أيضا بحسن الاختيار. اقترعوا وفق ما تمليه عليكم عقولكم وضمائركم، لا وفق عواطفكم وغرائزكم الفئوية، اقترعوا لأصحاب الكفاءات العلمية والمواقف المشرفة، ولمن لا يهابون مواجهة الظلام المتعجرفين المتكبرين المتعالين عليكم، اقترعوا لمن ترونهم جديرون ومهيؤون لإنقاذ الوطن من كبوته وإخراجه من هذا المأزق الذي يتخبط فيه نتيجة السياسات التعطيلية، والمناكفات السياسية والمماحكات الصبيانية، والابتزاز الأناني.
أنتم مطالبون بالتمييز ما بين الحق والباطل، ما بين الجوهر والقشور، ما بين الفجار والأحرار، ما بين الوطنيين وتجار الطوائف والمذاهب، ما بين الأكفاء والمتملقين، ما بين مشرعين ومعقبي معاملات، ما بين رجال دولةٍ ومقتنصي مناسبات الأفراح والأتراح، ما بين أصحاب المواقف والتابعين، ما بين شجعان ومتملقين، ما بين فاسدين وإصلاحيين، ما بين صادقين ومرائين.
أنتم مطالبون، حيث كنتم خارج لبنان أم داخله، ومن النهر الكبير الجنوبي شمالا إلى الناقورة جنوبا، ومن شاطئ البحر غربا إلى آخر دسكرةٍ شرقا، بتغليب الاعتبارات العامة على الخاصة، وتفضيل البرامج الإصلاحية على العلاقات الشخصية، وبالتالي مطالبون بالتصويت لمن يستحق أصواتكم، لمن هم قادرون على النهوض بالوطن، لمن هم مهيؤون علميا وفكريا وثقافيا ومعنويا ووطنيا، لمن يمتلكون رؤية إنقاذية شاملة، لمن لديهم فكرا استراتيجيا منهجيا، لمن هم قادرون على إدارة الأزمات وتدارك حصولها وتلافي مخاطرها، لمن يتحلون بروح المبادرة، لمن يحمل همومكم، ويحاكي مراميكم، ولا يخذلكم عند الاستحقاقات الهامة، ولا يتهرب من المسؤولية في الملمات.
أحسنوا الاختيار وتصرفوا من وحي بصيرتكم، ولا تعموا أبصاركم عما هو صواب، ومايزوا الحق عن الباطل. إن التاريخ لن يرحمكم، ولن تغفروا لأنفسكم ولن يغفر أبناؤكم وأحفادكم لكم إن أسأتم الأمانة وساهمتم في تخريب الوطن ثانية. لا تبيعوا أصواتكم بالحياء ولا بحفنةٍ من المال، ولا باستعطافٍ أو ممالقةٍ فتضيعوا ويضيع الوطن.
إياكم والتخاذل في أداء واجبكم، إياكم والاستنكاف عن المشاركة في الانتخابات القادمة، اقترعوا لأن مستقبلكم ومستقبل أبنائكم رهن بحسن اقتراعكم، اقترعوا حفاظا على الحقوق وصونا للوطن.
حاذروا التغرير بكم لثنيكم عن المشاركة، حاذروا التلهي بأمورٍ ثانويةٍ يوم الاستحقاق الانتخابي، حاذروا إضاعة البوصلة باختياركم من لا يحاكي تطلعاتكم وآمال أبنائكم، وما يستحقه وطنكم. كونوا على قدر المسؤولية، وثقوا بأن صناديق الاقتراع لن تخذلكم إن أحسنتم الاختيار، وأن المشاركة الفاعلة في الإنتخابات خير وسيلةٍ للتعبير عما يختلج في صدوركم من مشاعر وطنية. واعلموا أن لا مجال للتغيير والتطوير والنهوض إلا بهذه الوسيلة الديمقراطية السلمية، وإن موعدنا معكم وإياكم يوم تعبرون فيه عن مواقفكم بأصواتكم المدوية.