المَزيد من التَوَتّر بانتظارِ عودةِ ماكرون بقلم البروفسور بيار الخوري
إستدعت نكبةُ بيروت يوم الرابع من آب (أغسطس) يقظةً فرنسية سريعة مدفوعةً بخطرِ خسارة آخر موقعٍ عربي متوسّطي فرَنكوفوني. خطرٌ مدفوعٌ أيضاً باحتمال فتح البحر الاوروبي أمام اللاجئين وهجرة جماعية للمسيحيين وهم عماد هذه الفرنكوفونية في هذا البلد الصغير.
تَشي الأجواءُ الإيجابية للولايات المتحدة بعد زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للبنان، بأن الغربَ قد بات خائفاً من سقوط لبنان بيد طهران في ظل الفوضى من ناحية، على قاعدة انهيارٍ اقتصادي نتيجة زلزال المرفأ الذي يزيد من أزمة الإقتصاد التي كانت بلغت مستوى الركود التضخّمي قبل الإنفجار. ومن ناحية اخرى فإن استمرار الضغط على لبنان سيعطي فرصةً مجانية للصينيين لإعادة إعمار مرفأ بيروت واستحواذ نقطة استراتيجية على شاطئ المتوسط.
هَرول ماكرون الى بيروت بشعارات ديماغوجية حول الاصلاح، وهو ما دأب عليه الفرنسيون بحماسة شديدة منذ إطلاق مؤتمر “سيدر” قبل عامين. ماكرون الذي يعرف أن الإصلاح مستحيل في لبنان في ظل التوازن القوي بين قوى محسوبة على مراكز دولية وإقليمية يبدو بينها الإتحاد الاوروبي أقلها تأثيراً في بيروت. إن العقد السياسي الجديد الذي اقترحه ماكرون يحتاج إلى انقلابٍ سياسي واسع لا يُمكن أن تؤمّنه قوة الديبلوماسية الفرنسية وحدها.
إستعرض الرئيس الفرنسي عاطفته أمام الناس المفجوعة، لكنه كان واضحاً أنه لا يستطيع دعم التغيير إلّا من خلال ميزان قوى مختلف في مجلس النواب.
وكما تنصّل من الثورة تنصّل من “كلّن يعني كلّن برّا” إلى “كلّن يعني كلّن جوّا” في لقائه مع الأحزاب، واضعاً زعيمين مسيحيَّين عن يمينه ويساره في حضور مُمثلٍ لرئيس مجلس النواب، نبيه بري، (إختاره الأخير مسيحياً، (النائب إبراهيم عازار)، ليقول للرئيس الفرنسي أنا أفهم ما تريد) كما بحضور رئيس حكومة سابق (سعد الحريري).
مشروع “جُوّا” رفضه فريقا الصراع. كان الوجوم بادياً على وجوه زعماء فريق “١٤ آذار” ساعة خروجهم من الإجتماع في قصر الصنوبر، وكذلك جاءت دردشة رئيس الجمهورية، ميشال عون، مع الصحافيين في اليوم التالي ليقول ان نظام التوافق والتراضي لا يمكن عودته، وأن المدخل لأيّ عقد سياسي جديد وأي حكومة مرتبطة بهذا العقد هو بنهاية هذا النظام.
مقدمات ما حصل السبت في بيروت هو هذا الجو السياسي معطوفاً على غضب شعب مقهور ويائس وجاهز للشارع حتى لو كان في ذلك مخاطرة كبرى.
لقد تحرّك الشارع من قبل العفويين والقوى السياسية المنظمة خارج السلطة، ولكن أيضاً من قبل أحزاب وقوى الطبقة السياسية ومَن خلفهم في الخارج.
تتّجه الأمور الآن نحو دور أوسع للقوى الأمنية، وهناك من يحاول قطع الطريق على هذا الدور. منذ يوم الجمعة الماضي تم توزيع تسجيلات خبيثة معروفة المصدر تدعو لحمل السكاكين والأسلحة ومواجهة كل من يقف بوجه “الثوار” بما في ذلك القوى الأمنية. لا يعرف اللبنانيون ربما أن هذه القوى الأمنية هي الملاذ الأخير في وجه الإنزلاق نحو الفوضى. لقد تم دفع أحد عناصرها الى الموت في فندق “لوغراي” لاستدراج ردة فعل القوى الامنية وزجّها في آتون الدم.
إنّ إخراجَ ملفاتٍ من الوزارات بشكل غير مُوَثَّق يُنذر بأكبر العواقب إذا كان هدف محاربة الفساد لا زال على الأجندة. مَن يخدم مَن في هذه اللعبة؟
لا يُشبه ما حصل السبت ذلك الذي حصل في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. إن الثورة التي وحّدت اللبنانيين تتعرّض لخطر توظيفها في الإنزلاق نحو انكسار لبنان والفوضى، ومَن لا يُصدّق ذلك فلينظر الى سوريا وليبيا واليمن. بيروت ليست نيويورك ولا باريس ولا لندن، وأيضاً ليست القاهرة ولا تونس العاصمة.
لقد كتبتُ في الثامن عشر من تشرين الاول (أكتوبر) الماضي صباح اليوم التالي لانتفاضة اللبنانيين: إننا نرقص على حبال جهنم، وكان في بالي مشهدٌ يشبه ما رأيناه السبت.
لا تسقط سلطة بالغضب، ولا بالرفض، بل بمشروعِ تغييرٍ يتَّفِقُ على اتجاهه وفحواه معظم اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومشاربهم، وهذا غير موجود مهما حاولنا أن نقول ما لا نريد. ولكن… ماذا نريد؟
لنتكلم بلا قفازات. لا جواب بل أجوبة عدة مُتناقضة ومُعظمها مُتسرّع.
حتى عودة ماكرون، المُسلّح هذه المرة بسخاءٍ دولي لمساعدة لبنان بعد النكبة، سنشهد مناورات كبرى في بيروت وعمليات جراحية واسعة ستفضي الى الجلوس حول طاولة قصر الصنوبر مرة أخرى، ويُفترَض ان يكون اتضح ميزان القوى الداخلي بعد نهاية الشهر. واذا خرج الرئيس الفرنسي خالي الوفاض من بيروت، عندها لا شيء يمكن ان يُفرملَ الخيارات “القصوَوية” القاسية وهي كثيرة.
*نُشر المقال أولا في موقع أسواق العرب