ازمة لبنانالاحدث

تقرير مُوسَّع حول اللامركزية الإدارية والمالية في لبنان – تحليل متعدد الأبعاد

المقدمة
تُعد اللامركزية الإدارية والمالية في لبنان إحدى الركائز الأساسية لمواجهة التحديات الهيكلية التي تواجهها الدولة، بدءًا من المركزية المفرطة التي تعيق التنمية المحلية، وصولًا إلى الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بسبب ضعف الموارد المالية للبلديات. يهدف هذا التقرير إلى تقديم تحليل شامل للامركزية من خلال أبعاد متعددة تشمل النظرية السياسية، والإطار القانوني، والجوانب الاقتصادية والاجتماعية، مع اقتراح آلية عملية للانتقال نحو نموذج لامركزي مستدام.
1. الإطار النظري والمقارنات الدولية
1.1 نظريات الحوكمة واللامركزية
تستند اللامركزية إلى نظريات متعددة، أبرزها “الحوكمة متعددة المستويات” التي تؤكد على توزيع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية لتحقيق كفاءة أكبر في تقديم الخدمات. في لبنان، حيث تهيمن السلطة المركزية على معظم القرارات، يمكن لهذا النموذج أن يُعزز قدرة البلديات على الاستجابة السريعة لاحتياجات المواطنين. أما “اللامركزية المالية”، فتركز على التوازن بين الاستقلال المالي للمحليات والتماسك الوطني، وهو أمر بالغ الأهمية في دولة متنوعة مثل لبنان، حيث قد يؤدي غياب التضامن بين المناطق إلى تفاقم التفاوتات.
1.2 الدروس الدولية
تقدم التجارب الدولية دروسًا قيمة للبنان. ففي جنوب أفريقيا، ساعدت اللامركزية بعد انتهاء الفصل العنصري على تعزيز العدالة الاجتماعية من خلال توزيع الموارد لصالح المناطق المهمَّشة. أما إندونيسيا، التي تشبه لبنان في تنوعها الجغرافي والثقافي، فقد نجحت في تخفيف التوترات عبر منح المحافظات صلاحيات واسعة في إدارة الموارد الطبيعية. هذه النماذج تُظهر أن اللامركزية ليست مجرد نقل للصلاحيات، بل آلية لتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
2. البُعد القانوني والدستوري
2.1 الإطار الدستوري اللبناني
ينص الدستور اللبناني في المادة 95 على “اللامركزية الإدارية الموسعة”، لكن التطبيق الفعلي ظل محدودًا بسبب غياب القوانين التنفيذية. فقانون البلديات الصادر عام 1977، على سبيل المثال، يمنح البلديات صلاحيات ضيقة، ويعتمد على الصندوق البلدي المستقل الذي فشل في توفير التمويل الكافي. هذا التناقض بين النص الدستوري والواقع التشريعي يُعيق أي تقدم نحو اللامركزية الحقيقية.
2.2 الحاجة إلى إصلاح تشريعي
يتطلب تفعيل اللامركزية إصلاحًا تشريعيًّا جريئًا، يشمل:
تعديل قانون البلديات لتمكينها من جباية الضرائب المحلية (كالرسوم على النشاطات التجارية).
إنشاء محكمة إدارية عليا لمراقبة قرارات البلديات ومنع الانحرافات، مع ضمان استقلاليتها عن النفوذ السياسي.
توضيح الصلاحيات بين الوزارات المركزية والبلديات عبر وثيقة قانونية تُحدد المسؤوليات بدقة.
3. التحليل الاقتصادي والمالي
3.1 التكلفة والعائد المتوقع
تشير تقديرات البنك الدولي (2023) إلى أن تكاليف تدريب الكوادر البلدية وتأهيل البنية التحتية الإدارية قد تصل إلى 10 مليون دولار، لكن العوائد المتوقعة تفوق هذه التكاليف. فمن خلال نقل صلاحيات مثل إدارة النفايات والإنارة العامة، يمكن للبلديات خفض تكاليف الخدمات بنسبة 20%، وفقًا لدراسة أجرتها الجامعة اللبنانية (2021). كما أن اللامركزية المالية قد تُحفز الاستثمار المحلي، خاصة في المناطق الريفية التي تعاني من شح الفرص الاقتصادية.
3.2 آليات التمويل التضامني
لضمان العدالة بين المناطق الغنية والفقيرة، يُقترح إنشاء “الصندوق الوطني للتضامن”، الذي يُموَّل من حصص ضريبية مركزية، على غرار النموذج الفرنسي. هذا الصندوق يمكنه تمويل مشاريع البنية التحتية في المناطق المهمَّشة، مثل بناء المدارس أو شبكات المياه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز الشراكات العامة-الخاصة، خاصة في قطاعات مثل الطاقة المتجددة، حيث تمتلك بعض البلديات اللبنانية  خبرة في إدارة مشاريع صغيرة الحجم.
4. البُعد التكنولوجي والرقمي
4.1 تعزيز الشفافية
أظهرت تجارب دول مثل الأردن أن المنصات الرقمية مثل تطبيق “البلدية في جيبك” يمكنها رفع مستوى الشفافية عبر تمكين المواطنين من تتبع الإنفاق البلدي في الوقت الفعلي. في لبنان، حيث يشكك الرأي العام في نزاهة المؤسسات، قد تُقلل هذه الأدوات من انتشار الفساد. كما أن استخدام تقنيات مثل البلوك تشين في تسجيل عقود المشاريع العامة قد يمنع التلاعب في المناقصات.
4.2 المشاركة المجتمعية الرقمية
يمكن للتقنيات الرقمية تعزيز المشاركة الشعبية، مثل:
الاستطلاعات الإلكترونية: لجمع آراء المواطنين حول أولويات المشاريع.
الخرائط التفاعلية: للإبلاغ عن المشكلات البلدية (كالحفر أو انقطاع الكهرباء).
هذه الآليات لا تُعزز الشفافية فحسب، بل تُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة.
5. التحليل الاجتماعي والسياسي
5.1 الديناميكيات الطائفية
في لبنان، حيث تُهيمن الطوائف على المشهد السياسي، قد تُستخدم اللامركزية كأداة لتعزيز النفوذ المحلي للجماعات الطائفية، كما حدث في بعض بلديات البقاع التي سيطرت عليها أحزاب سياسية محددة. لمواجهة هذا الخطر، يجب ربط تطبيق اللامركزية بإصلاح نظام المحاصصة الطائفية، واعتماد حصص تمثيلية للنساء والشباب في المجالس البلدية.
5.2 الإدماج الاجتماعي
تُظهر تجربة بلدية صور في إدارة خدمات النازحين السوريين كيف يمكن للبلديات أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز التماسك الاجتماعي. فمن خلال شراكات مع منظمات دولية، نجحت البلدية في توفير مدارس ومراكز صحية تلبي احتياجات السكان المحليين والنازحين على حد سواء. هذا النموذج يؤكد أن اللامركزية يمكن أن تكون أداة للإدماج، شرط توفر الإرادة السياسية.
6. تقييم المخاطر واستراتيجيات التخفيف
6.1 خريطة المخاطر
الخطر المرتفع: استغلال النخب المحلية للموارد (كتحويل أموال المشاريع إلى مصالح شخصية).
استراتيجية التخفيف: تعزيز الرقابة عبر منصات رقمية مستقلة، وإنشاء آلية شكاوى للمواطنين.
الخطر المتوسط: تفاقم التفاوت بين المناطق.
استراتيجية التخفيف: تفعيل الصندوق الوطني للتضامن، وربط تمويل المشاريع بمعايير الكثافة السكانية ومعدلات الفقر.
6.2 ضمان الاستدامة
لا تكتمل اللامركزية دون ربطها بأهداف التنمية المستدامة. ففي بعض البلديات، تم استخدام اللامركزية المالية لتمويل مشاريع الطاقة الشمسية، مما خفض فواتير الكهرباء بنسبة 40%. مثل هذه المبادرات تُظهر كيف يمكن تحويل اللامركزية إلى محرك للاستدامة البيئية والاقتصادية.
7. آلية انتقالية مُقترحة
المرحلة الأولى (1-2 سنة): التهيئة التشريعية والمؤسساتية
إصدار قانون شامل للامركزية يُحدد صلاحيات البلديات وعلاقتها بالحكومة المركزية.
تدريب الكوادر البلدية على إدارة الموارد المالية عبر ورش عمل بالشراكة مع منظمات دولية مثل UNDP.
المرحلة الثانية (3-4 سنوات): التطبيق التجريبي
تطبيق اللامركزية الإدارية في محافظة واحدة (مثل الشمال) كنموذج تجريبي، مع تقييم دوري للتحديات.
نقل صلاحيات محدودة كإدارة النفايات والحدائق العامة.
المرحلة الثالثة (4-6 سنوات): التوسع المالي
السماح للبلديات بجباية رسوم محلية (كضرائب العقارات غير المسكونة).
تفعيل الصندوق الوطني للتضامن لدعم المناطق الأقل نموًّا.
الخاتمة:
الانتقال نحو اللامركزية في لبنان ليس عملية تقنية فحسب، بل مشروع سياسي واجتماعي يتطلب إرادة جماعية. من الضروري:
بناء توافق وطني حول أولوية اللامركزية كمدخل للإصلاح الشامل.
تعزيز الشفافية عبر أدوات رقمية تمنع تحويل اللامركزية إلى فضاء للفساد.
ضمان العدالة بين المناطق عبر آليات تمويل تضامنية.
4. إشراك المجتمع المدني في مراقبة التطبيق واقتراح التعديلات.
قائمة المراجع
1. البنك الدولي. (2015). اللامركزية والتنمية المحلية في لبنان. تناول التقرير تحديات النظام المركزي واقترح نموذجًا تدريجيًّا للانتقال.
2. معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي. (2017). إصلاح النظام المالي البلدي في لبنان. ركَّز على ضرورة تمكين البلديات من جباية الضرائب المحلية.
3. الدهيبي، م. وآخرون. (2020). واقع البلديات في لبنان وتحديات الانتقال نحو اللامركزية. الجامعة اللبنانية. حلَّلت الدراسة العوائق السياسية والاجتماعية، وحذَّرت من غياب آليات التضامن بين المناطق.
4. مهنا، ج. (2022). اللامركزية كمدخل لإصلاح النظام السياسي في لبنان. مركز كارنيغي للشرق الأوسط. ناقشت كيف يمكن للامركزية أن تُقلص الصراعات السياسية المركزية.
5. UNDP. (2018). تجربة جنوب أفريقيا اللامركزية
قدَّمت نموذجًا لإدارة التنوع عبر اللامركزية بعد الفصل العنصري.
6. وزارة الداخلية اللبنانية. (2021). التقرير السنوي لأداء البلديات. رصد نقاط الضعف في تمويل البلديات وغياب الرقابة.
7. OECD. (2019). الفيدرالية المالية: تحليل مقارن.
درست توازن الصلاحيات المالية بين الحكومات المركزية والمحلية.
ملاحظة حول مرجع الجامعة اللبنانية
دراسة الدهيبي وآخرون (2020) الصادرة عن الجامعة اللبنانية تُعتبر مرجعًا محوريًّا لفهم التعقيدات اللبنانية، حيث أشارت إلى أن:
غياب البنية التحتية الإدارية في معظم البلديات يُعيق تفعيل اللامركزية.
الفساد المالي ليس مرتبطًا بالمركزية فحسب، بل قد ينتقل إلى المستوى المحلي إذا لم تُطبَّق آليات رقابية صارمة.
التفاوت الجغرافي في لبنان (مثل الفرق بين بيروت والمناطق النائية) يتطلَّب نظامًا لامركزيًّا مُصمَّمًا خصيصًا لضمان العدالة.

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام)

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام) هو وحدة بحثية تابعة لموقع "الملف الاستراتيجي"، تُعنى برصد وتحليل السياسات العامة، وتحولات الشركات الكبرى، والديناميات الجيوسياسية التي تسهم في إعادة تشكيل العلاقات الدولية والبُنى المؤسسية والاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. ينطلق المركز من منظور استشرافي علمي يهدف إلى تجاوز التحليلات الظرفية، من خلال تتبّع الأنماط الكبرى في السياسات والتحولات المعرفية، وفهم التفاعلات المعقدة بين الدول، والشركات العابرة للحدود، والمجتمع المدني، والمنصات الرقمية. يركز المركز بشكل خاص على دراسة السياسات الوطنية في دول الشرق الأوسط، وتحليل استراتيجياتها في مجالات الحوكمة، وإعادة التموضع الإقليمي، والتفاعل مع التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية. كما يعالج المركز القضايا المتصلة بمستقبل السيادة الرقمية والمعرفة، ودور الفاعلين غير التقليديين في التأثير على صنع القرار وتشكيل الفضاء العام. يعتمد المركز في إنتاجه المعرفي على مقاربة تحليلية حيادية تلتزم بالصرامة المنهجية والموضوعية، بعيدًا عن التحيزات السياسية أو الإيديولوجية، ويسعى إلى تقديم فهم مركب ومسؤول للتحولات الراهنة، بما يخدم الباحثين وصنّاع السياسات والمشتغلين في حقل التفكير الاستراتيجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى