حصينُ المقاومة بلبننتها وإجماع اللبنانيين على دورِها | العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
المَوقفُ حَرج، لبنانُ يَنزلِقُ إلى الهاويَةِ، والوِحدَةُ الوَطنِيَّةِ على المِحَك، والحُريَّاتُ في خَطر. وثَمَّةَ شُعورٌ عارٍمٌ لدى غالبيَّةِ اللبنانيين أن وَطَنهُم أمسى شِبهَ مَخطوفٍ، وأن وَجهَهُ الحَضاريُّ يَفقُدُ بريقَهُ يوماً بعدَ يوم. وثمَّةَ خِشيَةٌ من أن لبنانَ التَّنَوعُ الثَّقافي، والتَّعدُّدِيةِ في الطَّوائفِ والمَذاهبِ الدِّينيَّة، لبنان الانفِتاحِِ على مُختلِفِ الحَضاراتِ التي تُنادي بالقِيَمِ الأخلاقِيَّةِ والإنسانِيَّةِ والدِّينيَّةِ السَّمحاء، لبنان العَربِيُّ الهَوِيَّةِ والانتِماءِ في خَطَرٍ وجودِيٍّ كِياني.
لبنانُنا في خَطرٍ، كيف لا وهو يُعاني من تَخبُّطٍ سِياسِيّ وانهِيارِ اقتِصادِي، وعُزلَةٍ دوليَّة، وتَشويهٍ لسِمعَةِ قِطاعِهِ المالي، وانعدامِ الثِّقةِ بنِظامِهِ المَصرفي، وانهيار ِقِيمَةِ عِملتِهِ الوَطنِيٍة، وتجويعٍ للشَّعب، وتَهجيرِ لخيرَةِ الشَّبابِ سَعيا وراءَ لِقمَةِ عَيشٍ كريمَةٍ افتَقدوها في وَطنِهِم.
لبنان يَستصرِخُ الضَّمائر، وحُكَّامُهُ بمُقارباتِهم غيرِ المَدروسةِ يُعطِّلون الإنتاجَ القومي والفَرديَّ في ظِلِّ أزَماتٍ مَعيشيَّةٍ خانقةٍ، وكأني بهم يوصِدونَ جميع الأبوابِ أمام فُرَصِ النُّهوضِ، إذ يَحبسونَ الشَعبَ من دون كهرباءِ أ ومَحروقات، جُلَّ ما يَقومون به أَستجداءَ الهِباتِ والمًساعَداتِ من الدُّولِ الشَّقيقةِ والصَّديقَة، ويَترجونَ بعضاً من المَسؤولين في البنك الدَّولي لنيلِ رِضاهِم والمُوافقَةِ على تَخصيصِ لبنانَ ببَعضِ القُروضِ لتَقطيعِ الوَقت، علَّهُ يأتيهُم الفَرَجُ بسِحرِ سَاحِر. زُعماءُ لبنان مُتَّفقونَ على استِجداءِ الهِباتِ والمُساعَداتِ والقُروضِ، إلاَّ انَّهُم مُختلفونَ على مُعالَجَةِ مُختلِفِ الأزَماتِ السِّياسيَّةِ والاقتِصادِيَّةٍ والمالِيَّةِ والنَّقدِيَّة والمَعيشيَّة.
لم يعُد بخافٍ على أحد أن الأزمةَ السِّياسيَّةَ في لبنان، هي أم الأزماتِ، لكونِ الأزماتِ الباقيَةِ ما هي إلاَّ انعكاساتٌ لأزمَتِهِ السِّياسيَّة. والأزمةُ السِّاسِيَّةُ الحاليَّةُ في لبنانَ مردُّها لاختِلالِ التَّوازُناتِ الوَطنِيَّةِ الي كانت قائمَةً، وسَعي أحدِ المُكوِّناتِ اللبنانيَّةِ لإحكامِ سَيطَرَتِهِ على لبنان الدَّولةِ، بحيث أصبحَ يختلِطُ على الكثيرينَ تَحديدُ من يُديرُ الحياةَ السِّياسِيَّةَ في لبنانَ وكيف؟ هل رئيسُ الجُمهوريَّةِ الذي قُلِّصًت بعضُ صَلاحِيَّاتِه وأنيطَت بمَجلِسِ الوزراءِ مُجتمعاً؟ أو رَئيسُ مَجلِسِ الوزراءِ، أو رئيسُ السُّطَةِ التَّشريعِيَّة الذي يتَّهمُ من بعضِ المكوِّناتِ أنه يُسيِّرُ أعمال مجلسِ النُّواب وفقَ ما يتناسبَ مع تطلُّعاتِه. ثمَّةَ من يقولُ إن رَئيسَ مَجلِسِ الوُزراءِ أضحى خارجَ إطارِ المُنافَسَة، بعد كُلِّ التَّنازُلاتِ التي قدَّمها رؤساءُ الحُكوماتِ المُتَعاقِبينَ منذ اتِّفاقِ الطَّائفِ إلى اليَوم، حيثُ تقلَّصَ دورُهُ من مُشكِّلٍ للحُكوماتِ ومُحدِّدٍ لسِياساتِها كما ينُصُّ الدُّستور، إلى دورٍ أقرَبُ إلى ساعي البريدِ منه إلى رَئيسٍ لأعلى مَجلِسِ تَنفيذيَّ في الدَّولَة.
ثمَّةَ رأيٌّ يَقولُ بأن القرارَ السياسيَّ المصيريَّ في لبنان، بما في ذلك قَرارُ الحَربِ والسِّلمِ والسِّياسَةِ الخارِجيَّةِ أمسى خارِجَ إطارِ المسؤولين الرَّسميين، بل لدى أحدِ مُكوِّناتِ قِوى الأمرِ الواقِعِ أي حِزبِ الله، وأكثَرُ تَحديداً أمينُهُ العام، بحُكمِ موقِعِهِ الحِزبي، وبحُكمِ تأثيرِهِ على مواقِفِ مُعظَمِ المُكوِّناتِ السِّياسِيَّةِ والكُتَلِ البَرلُمانِيَّة، التي تحرُصُ على تلبيَةِ تَوجُّهاتِهِ في مُختلِفِ الميادينِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ …الخ.
إن المُشكلةَ السِّياسِيَّةَ الأساسِيَّةَ اليومَ لا تقتصرُ فقط على من يتَحكَّمُ بالقرارِ السِّياسي، إنما في التَّوجُّهاتِ السِّياسيَّةِ التي يَتفرَّدُ بها، ويَفرِضَها صاحبُ القرارِعلى الدَّولةِ اللبنانيَّة، وبخاصَّةٍ في مسألتين جوهرِيَّتين هما: المواقِفِ السِّياسِيَّةِ (غيرِ الرَّسمِيَّة) التي تُعلنُ حَولَ ما يَدورُ على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والإقليميَّة وقرارُ الحَربِ والسِّلمِ. الأولى يُتابِعُها المسؤولون الرَّسميونَ عيرَ شاشةٍ عَملاقَة، تُعلنُ المواقِفُ السِّياسيَّةُ المَحلِّيَّةُ والإقليمِيَّةُ والدَّوليَّةُ عَبرَها.ِ أمَّا دَورُ الدَّولة في هذا المجالِ فيقتصِرُ على التَّعامُلِ مع رَدَّاتِ الفِعلِ الدَّوليَّةِ والإقليميَّةِ على المَواقِفِ والتَّهديداتِ التي تُطلَقُ عبرَ الشَّاشَة، أمَّا الثانيَةُ فالدَّولةُ مُغَيَّبةٌ ومُغيِّبةٌ ذاتِها، فهي تأخُذُ العِلمَ بعدَ بدءِ العمليَّاتِ العَسكرِيَّةِ ومن ثمَّ إنهائها، أمَّا الصَّواريخُ والمُسيَّراتُ فلا علمَ لها بها، وكأنه لا ناقةً لها فيها ولا جَمل.
إن ما يُقلقُ اللبنانيين في المواقفِ السِّياسيَّةِ غير الرَّسميَّة اليوم له أبعادٌ ثلاثة:
ـ داخليَّاُ: تتمثَّلُ في الانعكاساتِ السَّلبيَّة للشُّعورِ بفائضِ القوَّةِ على تقويضِ المُمارَسَةِ الدِّيمقراطِيَّة، وفَرضِ الخَياراتِ السِّياسِيَّةِ تحت وطأةِ التَّهويلِ المُباشِرِ أو غيرِ المُباشِرِ بالاحتكامِ إلى السِّلاح.
ـ إقليميَّا: تتمثًّلُ في الإمعانُ بإقحامِ لبنان في لُعبَةِ المَحاورِ الإقليمِيَّة، ووَضعِهِ في موضعِ العدوِّ أو الخَصمِ مع عددٍ من الدُّولِ العَربيَّةِ الشَّقيقة، وبخاصَّةً دولِ الخليجِ العَربي، التي لطالَما وَقَفَت إلى جانبِ لبنان في المِحنِ التي كانت تلِمُّ به، سواء في إخراجِهِ من آتون الحَربِ الأهلِيَّةِ بإقرار اتِّفاقِ الطَّائفِ، أو بالمُساعداتِ المالِيَّة، أو لكونِ تلك الدَّولِ من أهمِّ أسواقِ العَملِ الخارِجِيَّةِ للبنانيين، كما سُوقاً لتَصربفِ العَديدِ من المُنتَجاتِ اللبنانيَّة.
ـ دوليَّا: وتتمثَّلُ في إقحام لبنان بصورةٍ مًباشِرَةٍ أو غيرِ مُباشِرة في أتون صِراعِ أحلافٍ دَولِيَّةٍ لا طاقَةَ للبنانَ في تَحمُّلِ تَبِعاتِها، وذلك خِدمَةً لأجُنداتِ خارِجيَّة، واعتِمادِهِ كوسيلةِ ضَغطٍ لتَحسينِ الظَّروفِ التَّفاوضِيَّة، أو ساحَةٍ لمُناكَفَةِ خُصومٍ مُفتَرَضينَ لدَولَةٍ إقليمِيَّة.
أمَّا هواجِسُ اللبنانيين من خُروجِ قرار الحَربِ والسِّلمِ عن سُلطَةِ المَراجِعِ الرَّسمِيَّةِ المُختَصَّة، فتكمُنُ في الأمور التالية:
ـ إقصاءُ الجيش اللبناني عن مَهامِ الدِّفاعِ عن الوَطَن، وإضعافُ قُدُراتِهِ القِتاليَّةِ على التَّصدي للعَدوِّ تَمهيداً لتَهميشِ وإلغاءِ دورِهِ الدِّفاعي المِحوري.
ـ المُغالاةُ في تقديرِ القٌوَّةِ والإمكاناتِ العَسكريَّةِ لدى المُقاوَمَة، وبالتالي الدُّخولُ في مُغامراتٍ غير مَحسوبَةِ النَّتائج، قد تكلِّفُ الوَطنَ غاليا.
ـ الإنزلاقُ إلى مَعرَكةٍ مع العدو الإسرائيلي، لا يكونُ الجيشٌ اللبناني مُتحسِّباً لها (نتيجةَ الاستِفرادِ في قرارِ الحَربِ) قد تقضي على قدُراتِ الجَيشِ اللبناني، وتُكبِّدُهُ الكثيرَ من الخَسائرِ البَشرِيَّةِ والمادِّيَّة.
ـ بناءُ الاستراتيجيَّةِ الدِّفاعيَّةِ وفق الإمكانيَّاتِ العَسكريَّةِ للمُقاومَة فقط، وإهمالُ تسليحِ الجيشِ ورَفعِ قُدراتِهِ القِتالِيَّةِ الاستراتيجيَّة، وتوقُّفِ إمدادِ المُقاومَةِ بالأسلِحَةِ لسَبَبٍ أو لآخَر، الأمرُ الذي يكشفُ لبنان عسكريَّاً أمام العدو.
وإذ أشيرُ لما تقدَّمَ من هواجسَ وتَساؤلاتٍ ليس من بابِ الافتئاتِ على المُقاوَمَةِ ومن يَقِفُ خَلفَها أو يَدعمُها داخلِيَّاً وخارِجِيَّا، أو بهدفِ التَّقليلِ من شأنِها وتَضحياتِها، إنما من مِنظارِ مواطِنٍ مسؤولٍ لديهِ حدٌّ أدنى من المَعرِفَةِ بالشُّؤونِ العَسكرِيَّة والقِتالِيَّة؛ ويؤلِمُهُ ما يتِمُّ تناقلُهُ كُلَّ يومٍ من مَخاضٍ سياسيَّ عَسيرٍ يتمحورُ حولَ سِلاح المُقاوَمَة، وانقِسامِ الرَّأي العامِ اللبناني عامودِيَّاً حَولَ هذا السِّلاحِ وأغراضِهِ ودَورهِ مُستَقبَلا، ومدى انعِكاساتِه على الأوضاعِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والماليَّةِ والمَعيشِيَّة على لبنان كدولة كما على الشَّعب، وبخاصَّةٍ بعدَ أن اتَّسعَ هامشُ تبادُلِ الرَّسائلِ ووتيرتِه، ما بين مُسيَّراتٍ وقاذِفاتٍ نفَّاثةٍ، اختلفَ المُحللونَ في تفسير أبعادِها ما بين زَكزكاتٍ قد تُنذرُ بانفِلاتِ الوَضعِ عن السَّيطَرَة، وبينَ مُناغَشاتٍ استِعراضِيَّة تهدفُ إلى تعزيز كِلا الطَّرفين داخِليَّا.
وبناءً عليه، ومنعاً من أيَّةِ تأويلاتٍ خاطئة أو سوء فهم، نُشيرُ مُسبقاً إلى أن مَقاومَةَ الاحتلالٍ حَقُّ تُكرِّسُهُ المواثيقُ الدَّوليَّةِ، باعتبارِهِ حًقّاً للدُّولِ كما للشُّعوبِ في الدِّفاع عن نفسِها أو عن شعبها، وذلك بشَتَّى الوَسائلِ المَشروعَةِ المُتاحَة، والمَعمولِ بها دولِيَّا، ضِدَّ أيِّ عَدوٍ غاشمٍ، فكيفَ الحالُ في وَجهِ كِيانٍ غاصِبٍ ومُتغَطرِس. ولكن إذا كانت المُقاومةُ حقَّاً مشروعاً لحِمايةِ الوَطنِ والشَّعب، فمن الأحرى ألاَّ تُشكِّلَ بذاتها سَبَباً لقتلِ الشَّعبِ بأسبابٍ أخرى، جرَّاءَ تفاقُمِ الأوضاعِ الاقتِصادِيَّةِ، أو التَّسبُّببِ بنِزاعاتٍ عَسكريَّةٍ غيرِ مدروسة، أو إساءةِ استِعمالِ سِلاحِها في الدَّاخل، وعليه نؤكِّدُ على الأمورِ التالية:
نحن مع وجودِ مُقاومَةٍ لبنانيَّةِ الأبعاد، تُشكِّلُ ظَهيرا داعِما للجَيش اللبناني (لا العكس)، ويكون الشَّعبُ كُلُّ الشَّعبِ داعِما لهُما. نحن مع مُقاومَةٍ تتبنَّى خَياراتِ الدَّولةِ اللبنانيَّةِ وتلتَزِمُ بتَوجُّهاتِ سُلطاتِها الرَّسمِيَّة لا تقفزُ من فوقِها، مع مُقاومةٍ تُغلِّبُ المَصلَحَةَ اللبنانيَّةَ على ما عَداها، ولا تَستغِلُّ ما ترى لديها من فائضِ القُوَّةِ لتَطويعِ شَعبِها، او لفَرضِ خياراتِها وإملاءاتِها عليه، ولا يُساءُ استِعمالُ سِلاحِها للتَّهويل على أهلِها في الدَّاخل، او لتَعطيلِ نتائجِ الانتِّخابات، او لتشويهِ المُمارَسًةِ الدِّيمقراطيَّةِ في الدَّولة، او لقلبِ المَعاييرِ بتَحكُّمِ إرادَةِ الأقليَّةٍ بالإكثرِيَّة، ولا تقمعُ الحُريَّاتِ الفردَيَّةِ بلُغةِ ما قبلَ السَّحسوحِ وما بعده.
ونحن أيضاً مع مقاومة لا تَرمي الحُرمَ على من يُخالفًها في الرَّأي، ولا تَستغلُّ الدين لتَقييدِ خياراتِ النَّاخِبين بتكليفٍ شَرعي، مُقاومَةٍ تَفصُلُ ما بين أدائها في الدِّفاعِ عن ارضِ الوَطن، وبين نَشاطِها السِّياسيِّ كحِزب لبناني داخِلي، وتُوازِنُ ما بين مُقتضياتِ العَملِ المُقاومِ، وبالتالي مٌتطلِّباتِ الصِّراعِ مع العدوِّ الاسرائيلي، وبين النُّهوضِ بالوَطن، وتوفيرِ فُرَصِ العيشِ اللَّائقِ والكريمِ لمواطِنيه.
نحنُ مع مقاومة تأخُذُ بعين الاعتبارِ هواجِسَ شَعبها، واهتِماماتِ باقي الشُّركاءِ في الوَطن، مقاومةٌ تُمثَّلُ فيها كُلُّ المُكوِّناتِ الوَطنيَّة، مُقاومَةٌ انتِماؤها وَطني صَرف، وولاؤها خالِصٌ للوَطن، تُغلِّبُ المَصلَحَةَ الوَطنِيَّةَ وتَجعلَها فوقَ كُلّ اعتبار.
وأخيرا، نرى وجوبَ تَحصينِ المُقاومةٍ بلبننتِها والإجماعِ على دورِها، نعم لمُقاومَةٍ يُريدُها الشَّعبُ وتُريدُه، يَحترِمُها وتَحتَرِمُه، يَحتَضِنُها وتَصونَهُ، يدعًمُها وتلتزِمُ بتَوجُّهاتِه، ويُكرِّمُ تَضحِياتِها ويُمجِّدُ شُهداءَها ولكنها لا تتسبَّبُ في تجويعِهِ أو قتلِ أبنائهِ نتيجةً لمُغامراتٍ غيرِ مَدروسَةٍ أو تنفيذاً لمُصالِحَ خارجيَّةٍ لا شأن للوطنِ بها.