ما عبر عنه النائب نديم الجميل وابن عمه سامي ورئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع في اطلالاتهم الأخيرة، وبالطريقة “الفجّة” يدل وبطريقة واضحة وجليّة أن خطاب الكراهية موجود في جيناتهم الوراثية، ومقولة “المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار” ما زالت تعشعش في عقولهم وأفكارهم، ولم تمحوها الإيام مهما تغيرت الظروف، فالجماعة تأسسوا على هذا المبدأ، شكلاً ومضموناً، من بيار الجميل (الجد المؤسس) حتى حفيد الحفيد.
وقد يبدو الأكثر تعبيراً عن هواجس هؤلاء ومن ينتموا إليهم هو رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، فخطاباته المتتالية حول “الكيانات اللبنانية”، وتمييزه بـ “تويتاته” من خلال وسائل التواصل الاجتماعي حول “لهم لبنانهم ولنا لبناننا”، تعبر بشكل صريح وواضح من أن جعجع يسعى وبشكل صريح وواضح الى اعتبار نفسه “الممثل الأكثر شرعنة” وتعبيراً عن الوجود الماروني المسيحي في لبنان، وبالتالي هو “حامي حمى الموارنة”. وهي دعوة مبطنة إما لتقسيم البلد على غرار ما كان أيام الحرب الأهلية أو السيطرة عليه. ولا مانع لديه من جر البلد بعد كل هذا الانهيار التاريخي للبنان من أن يحفر ويتوغل أكثر فأكثر في دماء كل من يخالفه من “كل مكونات المجتمع اللبناني” والمقيمين، إن كانوا فلسطينيين أو سوريين أو غيرهم، والتاريخ يشهد على المجازر التي ارتكبتها ميليشيات “الكتائب اللبنانية” و”القوات اللبنانية” من مجازر تل الزعتر والسبت الأسود وصبرا وشاتيلا (1900 شهيداً لبنانياً و3500 شهيداً فلسطينياً و500 مفقود مجهولي المصير لغاية الساعة)، وأحداث الصفرا وحرب الإلغاء إلى اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الرئيس رشيد كرامي ومجزرة اهدن ومجازر الجبل وغيرها مما حفظ في أرشيف الإعلام اللبناني. (لمن أراد الإطلاع – أرشيف المركز العربي للمعلومات يحتفظ بكل هذه الوثائق وباقي الصحف اللبنانية والعربية).
لطالما كان يحتمي جعجع بالعباءة البطريركية، حتى وإن لم تتبنَ بشكل “رسمي” تغطيته سياسياً، كون البطركية المارونية تعتبر نفسها “مرجعية” لبنانية وليست فقط “طائفية مسيحية”. ولطالما كانت مواقف البطريركية المارونية تعبر بطرق دبلوماسية عن مكنونات وطموحات وتطلعات “الأكثر تعصباً” ضمن “المجتمع المسيحي”، إن كانوا من “القوات والكتائب” حصرا او مستقلين. وفي الوقت الذي كان المسلمين يحاولون التعايش مع شركائهم في “الوطن” كان يسعى قادة “المجتمع المسيحي” الى الحصول على “الامتيازات” التي تجعلم يفرضون سيطرتهم بأي شكل من الأشكال على البلد، وبهذا الصدد يقول الكاتب عبد الرؤوف سنو: “تمسّك المسلمون بعروبتهم، ورأوا أنفسهم في مشروع وحدويّ عربيّ لا في الانعزال عن محيطهم. وفي المقابل، انشدّ مسيحيّون، غالبيتهم موارنة، إلى دولة مستقلّة لها خصوصيّتها عن محيطها، وتقوم على تعدّديّة ثقافيّة لطوائف البلاد.
وبالدستور والصيغة اللذان لحظا تقاسم السلطة والمناصب على أساس النسبيّة الطائفيّة، تضافرت الهويّة والنظام الطائفيّ لتخريب التعايش بين اللبنانيّين، ما أفشل الدولة في قدرتها على الإمساك بشعبها”، و”فيما كان المسيحيّون يتحضّرون منذ عهد المتصرّفيّة للعيش في كيان مستقلّ منفصل عن محيطهم العربيّ-الإسلاميّ ومتأثّر بالغرب، وناضلوا من أجل عدم إلحاقهم بالدولة العثمانيّة من جديد في العامين 1908 و1909، حتّى على أساس علاقات دستوريّة تجمعهم بها. وقد مرت مواقف المسلمين بثلاث مراحل نختصرها على الشكل التالي:
1- مرحلة تأسيس لبنان الكبير والانتداب الفرنسيّ عليه، حيث جرى فيها سلخ مسلمي “بلاد الشام”، وهم في الأصل محافظون، دينيًا وثقافيًا، من فضائهم العثمانيّ-السوريّ وهويّتهم العربيّة وضمّهم قسرًا إلى لبنان الكبير. ولم يكن ذلك بالشيء السهل عليهم وعكس حركة التاريخ.
2- انخراط المسلمين في مشروع الدولة اللبنانيّة بعد “الميثاق الوطنيّ” في العام 1943، وشعورهم بالغبن والحرمان، نتيجة استئثار المسيحيّين بالحُكم والسلطة، وخصوصًا الموارنة منهم، وغياب التوازن في المشاركة في الإنماء المناطقيّ والطائفيّ. وترافق ذلك مع هبوب رياح الصراع العربيّ-الإسرائيليّ والناصريّة على لبنان؛ فانتقل المسلمون، بناء على ذلك، إلى مرحلة جديدة.
3- السعي للإطاحة بالامتيازات المارونيّة بالتزامن مع تجسيد عروبتهم بدعم “المقاومة الفلسطينيّة” في لبنان والاستقواء بها، تزامنًا مع تغيّر الديموغرافيا لمصلحتهم. فدخل لبنان نتيجة ذلك في حرب دمويّة بين العامين 1975 و1990، كانت أسبابها الخارجيّة أكثر عمقًا من خلافات اللبنانيّين على هويّة بلدهم.
ما يعنينا هنا من كل هذه السردية أن هناك جماعة “لبنانية” تدعي أنها لبنانية أكثر من غيرهم وهم أصحاب البلد والحقوق التي كانت لدى الطائفة المارونية قبل اتفاق الطائف هي حقوق “حصرية” لهم تم انتزاعها بموجب اتفاق الطائف قسراً، ولم تستطع لغاية الآن أن تستسيغ هذه الاتفاقية، وكل ما يقال من قياداتهم من أنهم مستعدون لتنفيذ اتفاق الطائف بكامل بنوده “كلام لا يتعدى اللحظة” التي يقال بها إذ لا قناعة لديهم، بدليل أنهم منذ توقيع الاتفاق ولغاية الأن صدرت آلاف الدعوات لإلغاء الطائفية السياسية من وظائف الدرجة الأولى أو رفع سن الاقتراع في الانتخابات النيابية لسن الـ 21، ولم يحدث أي من ذلك.
هؤلاء “المتعصبون المسيحيون” لا ينظرون للواقع اللبناني الذي يعيش ضمن منطقة ملتهبة، وسط “كيان صهيوني” محتلاً لأراض عربية ومعادياً لما هو عربي وإسلامي، ولا يلتفتون فعلياً للقيام بمصالحة او اعادة النظر بشكل صحيح وفعلي باتفاق الطائف وتعديل ما يجب تعديله لحفظ حقوق الجميع فيه، بل ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على “شركائهم” في هذا الوطن، لاعادة البوصلة الى الوراء ولا مانع لديهم من المحاولة ثانية للقيام بحرب أهلية ويتعاملون ثانية مع العدو الصهيوني لحكم البلاد كما يشتهون، لإيصال رئيس لهم على دبابة صهيونية (كلف في الماضي أكثر من 200 ألف شهيد ومئات آلاف الجرحى والمعوقين والمفقودين).
إن الخطابات المقيتة المتكررة، لقيادات ومؤثرين، حول “كيانية” لبنان، و”لبنانهم ولبناننا”، و”لا نشبههم ولا يشبهونا”، كلها تدل على أن الحقد الأعمى، ما زال يعيش في نفوسهم، ومهما حاولوا التعمية إلا أن زلات لسانهم تفضحهم من حين لآخر.
في الوقت الذي كانت “الحركة الوطنية اللبنانية”، (وقادتها من المسلمين والمسيحيين العلمانيين)، والتي شكلت نموذجاً وطنياً عربياً لما احتوته تكتلات وأحزاب وجمعيات شاركت فيها كل مكونات المجتمع اللبناني من أقصاه إلى أقصاه ومن كل مذاهبه، عرفت وقتها بـ “قوى اليسار اللبناني”، كانت قوى اليمين حصراً للمسيحيين بقيادة الطائفة المارونية، والتي كانت تعبر عن هواجس قادتها لا الفئات التي لا حول لها ولا قوة في مناطق ما سمي آنذاك “اليمين الإنعزالي”. والأنكى أن وسائل الإعلام العالمية والعربية المتخاذلة كانت تقسم المناطق اللبنانية في “أدبياتها” المتقنة والمدروسة على أساس طائفي فتقول :”المناطق التي تسيطر عليها “القوى الإسلامية” وقوى “المناطق المسيحية” سعياً منها لإضفاء صفة “الحرب الطائفية” اللبنانية، وللأسف هذا ما اصطلح عليه في الإعلام.
وهنا لا بد من الإلتفات إلى ما قاله الكاتب أسعد أبو خليل في هذا الصدد: ” عن الأخطاء الكبيرة لـ”الحركة الوطنيّة اللبنانيّة” إذ أنها لم تعد العدّة للتحضّر للحرب الأهليّة، التي كان حزب «الكتائب» وصحبه، من أعوان العدوّ الإسرائيلي، يعدّون لها في لبنان. كانت الإشارات جليّة: منذ الستينيات كان «زعران الكتائب» في الكحّالة، والدامور، يتحرّشون بالفلسطينيّين، ويمعنون في دفع الطرف الآخر نحو الحرب الأهليّة. وفي مرّة أوقفت ميلشيا «الكتائب» شاحنة تحمل نسخاً من القرآن وأحرقتها، لا لشيء، إلاّ للإسراع نحو الفتنة. وكان قادة «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» يعلمون أنّ الدولة اللبنانيّة فتحت كل خزائنها، ومعدّاتها أمام ميلشيا «الكتائب» بعد فشل الجيش اللبناني في كسر المقاومة الفلسطينيّة، في مواجهات أيّار 1973″.
إن التجارب المريرة التي عاشها اللبنانيون، وآخرها الوضع الإقتصادي الخانق نتيجة الحصار الأميركي والعربي المفروض، وتواطؤ أحزاب وجمعيات وشخصيات لبنانية لديها مصالح مع الغرب، تتطلب إعادة النظر في كيفية مواجهة هؤلاء، إما بالدعوة لمؤتمر تأسيسي فعلي وإعادة النظر في هيكلية النظام اللبناني أو إدخال تعديلات على اتفاقية الطائف وتنفيذها أو محاولة الوصول الى ائتلاف وطني عروبي إسلامي غير طائفي وقلب الطاولة على الجميع والقيام بما يلزم، إذا لم يعد بالإمكان السكوت على تآمرهم وخذلانهم، والعمل على الاطاحة بهم مهما كلف ذلك، فكما جرى من تواطؤ “كتائبي قواتي صهيوني في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات”، يجري الآن التواطؤ وبشكل علني مع “الغرب” ظاهرياً، ومع الصهاينة في “الجوهر”، لتحقيق أهداف أميركية – صهيونية.
المصادر: عبد الرؤوف سنّو، “الدستور العثمانيّ 1908 والرأي العام في مدينة بيروت وجبل لبنان”. لبنان بين الدستورين 1879-1908، دار سائر المشرق، صحيفة الأخبار اللبنانية.