دور البلدية من جهاز تقني إداري إلى منصة تنموية شاملة | بقلم زهير عساف

في أزقة القرى اللبنانية، تتجلى أزمة البلديات التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي. ليست الأزمة مالية فحسب، بل هي أزمة رؤية ودور وشرعية. البلديات، التي تمثل النبض الإداري اليومي للمواطن، تعاني من انهيار يختنق معه حياة الناس تدريجيًا.
من الجنوب إلى البقاع، مرورًا بالشمال وجبل لبنان، تتكرر المشاهد: ميزانيات معلقة، خدمات متوقفة، مشاريع مؤجلة، وثقة شعبية تتآكل. في إحدى بلديات البقاع الأوسط، عجزت البلدية عن إصلاح شبكة الصرف الصحي رغم خطورة الوضع، واضطرت إلى انتظار تبرع من أحد المغتربين. هذا النموذج يكشف عن فشل في التمويل وانكشاف في الوظيفة العامة.
حان الوقت لإعادة تعريف دور البلدية من جهاز تقني إداري إلى منصة تنموية شاملة. هذا التحول لا يمكن أن يحدث إلا ضمن منظور علمي متكامل قائم على مبادئ التنمية المستدامة، وعلى فهم عميق للاقتصاد المحلي والحوكمة اللامركزية. البلديات ليست عبئًا على الدولة، بل فرصة اقتصادية. في مناطق كثيرة حول العالم، أظهرت البلديات قدرة عالية على تحريك عجلة الإنتاج المحلي، خلق فرص عمل، وتحقيق توازن اجتماعي وبيئي. في لبنان، ومع توفر الإرادة والتخطيط، يمكن أن تشكل البلديات رافعة لإنعاش اقتصادي محلي حقيقي.
أبرز ما نفتقده في التخطيط البلدي هو الالتزام الواضح بمبادئ التنمية المستدامة، والتي يجب أن تتحول من شعارات إلى منظومات تنفيذ. العدالة الاجتماعية تقتضي ضمان الإنصاف في توزيع الخدمات والفرص، لا سيما في المناطق المهمشة. الاستدامة الاقتصادية تتطلب دعم المشاريع المحلية، كإعادة تدوير النفايات، الأسواق الزراعية، أو التعاونيات الحرفية. الإدارة البيئية الرشيدة تعني تقليص التلوث، تحسين إدارة الموارد، والاستثمار في الطاقة المتجددة. التنمية البشرية تستوجب رفع كفاءة الموارد البشرية المحلية، عبر التدريب المستمر وإشراك المجتمع في صنع القرار. الحوكمة التشاركية تعني تعزيز الشفافية، المساءلة، والتعاون بين المواطن والمجلس البلدي.
البلديات لن تنجح بمفردها، مهما حسنت نواياها. ثمة حاجة ملحة إلى إعادة هيكلة العلاقة بين الوزارات، المحافظات، والبلديات، ضمن آليات تنسيقية واضحة وملزمة، تؤمن انسيابية التمويل والتخطيط والتنفيذ. لا يُعقل أن تعد بلدية خطة بيئية، فيما وزارة البيئة تخطط لمشروع موازٍ في الاتجاه المعاكس. هذا التكامل يجب أن يتضمن خططًا قطاعية منسقة، ميزانيات مشتركة، تبادلًا للبيانات، ومساءلة متبادلة.
تُجرى اليوم الانتخابات البلدية في لبنان، في ظل انقسام سياسي وتردٍ اقتصادي واجتماعي. هذه الانتخابات يجب أن تكون أكثر من مجرد استحقاق شكلي. إنها فرصة تاريخية لإعادة الشرعية للعمل البلدي، ولإطلاق موجة من القيادات المحلية الواعية، المتخصصة، والمجتمعية. ينبغي أن تستند البرامج الانتخابية إلى رؤى علمية، وخطط عمل عملية لا إلى شعارات فضفاضة. كما يجب أن يتم تعديل الإطار التشريعي ليمنح البلديات مزيدًا من المرونة والصلاحية والاستقلالية.
للمغتربين دور أساسي لا في الدعم المالي فقط، بل في تقديم الخبرة، وبناء الجسور مع مؤسسات دولية مانحة، وتأسيس شبكات إنتاج عابرة للحدود. لبناني في كندا أو غانا، حين يرسل حوالة لبلدته، فهو ينقذ يومًا آخر من عجز الخدمات. لكن الأهم، أن يكون له رأي وصوت في الرؤية.
ما نحتاجه اليوم هو عقد اجتماعي جديد بين البلديات والمجتمع، يقوم على المشاركة والشفافية والمسؤولية المتبادلة. بلدية قوية لا تولد فقط من الانتخابات، بل من ثقة الناس، ومن قدرتها على ابتكار حلول ملموسة لحياة يومية أفضل. إنها دعوة لكل لبناني ولبنانية – في الوطن أو الاغتراب – إلى إعادة الاعتبار إلى العمل البلدي كمسار تنموي وإنساني، لا كزوايا خدماتية هامشية. فالبلديات القوية تعيد بناء ما دمرته السياسات المركزية: الثقة، الكرامة، والأمل.