رب كبوةٍ ضارة نافعة، فلتصحَّح رواتب جميعِ الموظفين باحتساب الدولار بـ ٨٠٠٠ ل. ل | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
أدى اعتمادُ السلطةِ لسياسة النعامةِ التي تدفنُ رأسها في الرمال في الملمات، بتعاميها عن مُعاناة الموظفين وكافة العاملين في القطاع العام إلى امتناعِ معظم الموظفين عن الحضور إلى مراكز عملهم، تحت مسمى الاضراب او الامتناع قسريَّاً عن الحضور لاستحالة ماديَّة تمثلت في عدمِ قدرتهم الماليَّة على تلبية بدلات الانتقال اليوميَّة، باستثناء الأسلاك العَسكريَّةِ والأمنيَّةِ التي بقيت كعادتها مُلبيةً نداء الواجِب، لا تبخلُ بتضحياتها في سبيل الوطن رغم كل الإجحاف الذي يلحقُ بها، ورغم التَّغافلِ عن حُقوقِها في جميع الطروحات المتعلقة بتحسين الظروف المَعيشية للموظَّفين، جراء ربط التقديمات بأساس الراتب المتدني بالنسبة لهذه الفئة مقارنة مع من يوازيهم رتبة في الأسلاك الأخرى.
حاولت السُّلطةُ جاهِدةً ضربَ وحدةِ المَوقِفِ الذي عبر عنه العاملون في القطاع العام، وتَشتيتِ الموظَّفين من خِلالِ التَّمييزِ في ما بينهم إلاَّ أنها لم تنجَحَ في ذلك لصلابة مَوقفِ روابِطَ الموظَّفين في مختلف القطاعاتِ وتماسُكِها وثباتها على موقفها رغم كل مُحاولاتِ التضليل والرَّشوةِ العلنيةِ او المُقنعة لبعض الفئات من الموظفين، وخيرا فعلوا بموقفهم المُشرِّف.
أُولى المُحاولاتِ كانت بكبوةِ تَمييزِ القُضاةِ عن باقي الموظَّفين، والتي جاءت كمحاولةٍ استِرضائيَّةٍ استعطافيَّةٍ من مَرجعٍ غير مُختص (حاكم المصرف المركزي)، ومُلاحَق قَضائيا بالعديد من المَلفات، ورُبما ينبغي مُلاحقته بالمزيد منها لوجود شُبهاتٍ في إساءة إدارته للملف التقدي والمبالغة في الاقتراض من المصارف بفوائد مرتفعة، واعتماده هندسات مالية مشبوهة، خاصة بعد تكشَّفت قابليتُهُ للمساومَةِ وتَمريرِ ألكثير من الأمورِ المُلتبسَةَ الغَرَض خارجَ روحيَّةِ الدستور والنصوصِ القانونيةِ النَّافِذَة، وخيرُ مثالٍ على ذلك فذلكةً “تَخريجَة” احتِسابِ رواتِبِ القضاة، سواء جاءت استجابَةً لالتماسٍ من لجنةٍ منهم، او كمُبادَرةٍ تقاربيَّة من الحاكم الملاحق، وسيَّان اتت المحاولةُ بعلم الحكومةِ او من دون علمِها.
لم يعِ المسؤولون خُطورة هذه الخُطوة الناقِصَةِ المُعيبَة، ولم يكونوا يتوقعوا انعكاساتها السلبيَّة وتَسبُّبها بشبه انتفاضَة، لدى باقي الموظفين والعاملين في القطاع العام، لقصر نظرهم، ولبعدهم عما يعانيه الموظفون ومن في حُكمهم من مآس يوميوة، ولكونهم اعتادوا على التَّعاملِ مع المسائلِ المَطروحةِ والأزمات القائمةِ أو المُستجدة بمُقارباتٍ غير مَدروسَةٍ وبقراراتٍ غير محسوبةِ النتائج.
أدت تلك المُقارباتُ الخاطئة، والقراراتُ المُتسرِّعةُ إلى ارباك السُّلطة، وإطالَةِ أمَدِ أزمَةِ شَللِ القِطاعِ العام التي أصيبت بها مُعظمُ إداراتِ الدولةِ ومؤسَّساتِها الرَّسمِيَّةِ نتيجةَ امتِناعِ الموظَّفين عن الحُضورِ إلى مَراكزِ عمَلهم، كما أدَّت الى تضاؤلِ إيراداتِ الدولةِ الى مُستويات قياسِيَّة، هذا عدى عن ضعفِ قيمتها واقعيَّا نتيجة انهيار قيمةِ العِملةِ الوطنيَّة الأمر الذي تسبب بعجزِ الدولة عن تأمين أدنى النفقاتِ الضروريَّةِ، ودفعها لاستجداء القروض من البنك الدولي لدعمِ بعض السلع المَعيشيَّة المُلحَّة.
وبدلا من أن يسعى المسؤولون إلى توفيرِ الحدِّ الأدنى من المُتطلِّباتِ المادِّيَّةِ والماليَّةِ بالتَّحديدِ باعتمادِ مِعيارٍ موحَّدٍ لجميعِ الموظَّفين ومن في حُكمِهم، وبما يَحفظُ لهم كرامتهُم، ويتيحُ لهم تأمين قوتِ عيالِهم، ويُجنِّبُهم العَوَزَ ويؤمِّن لهم الحدَّ الادنى من متطلباتِ الرِّعايَةِ الصحيَّة، عمدوا إلى خُزعبلاتٍ غير مَسبوقة ليس في لبنان فقط إنما على مُستوى العالم أجمَع، إذ سَعوا إلى التَّعامُلِ مع الموظفين بالقطعة وكمياومين، كما سَعوا إلى تَشتيتِهم وتقويضِ تخركهم، من خِلالِ تمييزِ العاملين في بعضِ القِطاعاتِ والمرافِقِ على غيرِهم، وابتدعوا أفكاراً لا يَقبلها عاقل، كرفعِ بدلِ الانتقالِ اليومي للموظفين من دون التمييز بين المُوظَّفين المخصصين بسيارات او الموضوعةِ بتصرُّفهم سيارة وسائق او المُسخَّرةِ لنقلهم وسائل نقلٍ على حِسابِ الإدارة، وباقي الموظفين الذين يتكبَّدونَ بدل النتقال إلى مراكز عملهم باستعمال سياراتهم الخاصَّة او وساىل نقل خاصَّةٍ لقاءَ بدَل، ومن دون أن يأخُذوا بعينِ الاعتبارِ مِقدارَ المَسافَةِ الفاصِلةِ ما بين سكن المُوظف ومكان عمله؛ والأمرُ الثاني مُحاولتهم تسويقَ ما أسموهُ بالرَّاتبِ او البدل التَّحفيزي للحُضورِ، ولم يخجلوا من موافقتِهم الضُّمنيَّةِ على حُضورٍ جزئيٍّ للموظفين “بمُعدَّل يومي عمل او ثلاثة اسبوعيَّا والبلد يعاني من شلل نتيجة عدم حضور الموظفين إلى مكاتبهم والتاخير في انجاز مُعاملات المواطنين، وكانهم يُعبِّرون بشكل غير مُباشِرٍ عن رغبتهم في الإبقاء على حالَةِ الشللِ التي يعاني منها القطاع العام منذ بداية انتشار الوباء كورونا (اي منذ ما يُقاربُ السَّنتين)، وعلى اقل تقدير موافقتهم على إدارَةِ الدولة بنصفِ شَللٍ او ثلثي شلل تقطيعا للمرحلة الرَّاهنة، وفاتهم أن الأمور ذاهبة إلى مزيد من التأزم بسبب أداءهم التَّرقيعي، والاخطرُ من كل ذلك هو إهمالهم للمتقاعدين الذين أنهكوا حياتَهم في خدمَةِ الدولة والشعب، وحِرمانُهم من أيَّةِ عطاءات، وأغفلوا كُليَّا أو على الاقل لم يتطرقوا لمَسالتي الاستشفاء والطبابَة، وهنا الطامة الكبرى.
هذه المُقارباتُ العَرجاءُ تُخالفً مبدأين أساسيين: الاول وهو استدامةُ سَيرُ العملِ في المَرافِقِ العامَّة، والتي من خِلالِها تقومُ الدَّولةُ بواجِباتِها (بل سَببُ وجودِها)، وتقديمُ الخَدماتِ الضَّروريَّةِ لمواطنيها، والآخرُ مبدا العدلِ والانصافِ، لعَدمِ اعتِمادِ مَعاييرَ موحَّدة، والاهم من كل ذلك أن كل تلك البدع المبتكرةِ والفتاوى غير دُستوريَّةِ ومُخالفَةٍ للقوانين النَّافِذة، وفي طليعتها قانون النقد والتسليف والموازنَةِ العامَّة، واغربُ ما فيها أنهم يصوِّرونَها كمنَّة من المسؤولين “مساعدة” في حين أنها من صلب حقوقهم وفي صلب واجبات الدولة تجاهَهم.
أما وقد حَصلَ ما حَصل، وتكشَّفت نوايا من يتحكمون في السُّلطة، نقولُ إن ارتكابَ خطأ مَقصودٍ بالتطاولِ على حقوقٍ مشروعةٍ هو شنيعَة، ولكن عدمَ الرُّجوعِ عنه وتَصويبُهُ خَطيئةٌ أشنع، أما الأشنع (على وَجهِ الإطلاقِ فهو الاستمرارُ في التَّعامي عن مُعاناةِ المُوظفين، والتآمُرِ عليهم ككل ام على فئةٍ منهم. والتصويبُ يكون بالالتزامِ بروحِيَّةِ الدستور من حيث الالتزام بقاعدتي الانصافِ والعدالة، والتقيدِ بالنصوصِ القانونيَّةِ النَّافِذة، وهذا يستوجب مُسارعة الحكومة إلى التَّقدمِ بمَشروع قانون ” تحت صيغة معجَّل جدا” يقضي بتعديل الرواتبِ وفقَ مِعيارٍ موحَّدٍ يعتمدُ حيالَ جميع فئات الموظَّفين، يأخذ بعين الاعتبارِ مستويي التضخم وغلاء المعيشة، بما يُمكِّنُ الموظَّفينَ من الحُضورِ إلى عملِهم كالمُعتاد، اي خمسةُ ايامٍ في الأسبوع، ما يُعيدُ للقطاعِ العام حَيويَّتهُ وانتاجِيته وبالتالي مَكانته، والتَّعويضُ عن فترة الشَّللِ السَّابقةِ بإنجازِ المعاملات المتأخرة أي التي لم تُنجز في أوانها والمُتراكِمَةِ في خزائن إدارات الدولة وعلى مكاتبِ الموظفين او في أدراجهم. وايَّةُ حُلولٍ خارجَ هذه المَعاييرُ تبقى في إطار المَساعي الترقيعيَّةِ التي لن يُكتبَ لها العَيش، كونها لا تُشكِّلُ إطارا لحلٍّ فعلي ولم تعد تنطلي على الموظفين ونقاباتهم ورَوابطَهم.
أما للسائلين عن توفير التَّمويلِ فنقولُ لا مفرَّ من إعادَةِ النَّظرِ في احتِسابِ مُختلف الرُّسومِ والضَّرائبِ بما يُماشي المتغيرات النقدية، وخاصة في ظلِّ تهاوي قيمَةِ العِملةِ الوَطنيَّة، خاصَّة وأن اقتصادَ الدَّولةِ أصبح مدولرا، وكذلك التَّعامُلُ بين عُمومُ الأفرادِ وفي مُختلفِ القِطاعاتِ الخاصَّةِ من شَركاتٍ ومؤسَّساتٍ خاصَّةٍ وتُجارٍ ومِهنٍ حُرَّةٍ وحِرَفٍ وغيرها، ومن هنا يَشعُرُ المُوظَّفُ وكانَّه وَحدَه من يدفع ثمن الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، والمسؤولين يقفون منه موقف المُتفرِّج، وفي هذا قمة الجَورِ والظلم.