رسالة مفتوحة إلى دولة رئيس مجلس النُّواب وعبره إلى نواب الأمَّة | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
دولةُ الرَّئيس أتوجَّهُ إليكُم بصِفَتي مُواطِن لُبناني مُخلِصٍ، هالَهُ كغيرِهِ من المُواطِنينَ اللُّبنانيينَ الشُّرَفاءِ ما حَلَّ بوَطَنِنا الكَليم، وما آلت إليه أوضاعُ شَعبِهِ المُعذَّب. دولةُ الرَّئيس، على الرَّغمِ من كَثرَةِ ما لدَي من مَآخِذَ ومُلاحَظاتٍ على أداءِ الطَّبَقةِ السِّياسِيَّةِ التي أوصَلَت البلدَ إلى هذا الوَضعِ المأزوم، كما إنني لا أخفي تحميلِكُم وسائرِ من توالوا على السُّلطَةِ منذ ثلاثةِ عقودٍ، مسؤولِيَّةَ ما نَحنُ عله اليوم، إلاَّ إنني أشهَدُ لَكُم بوَطَنِيَّتِكُم الخالِصَة، وعُروبَتِكُم التي لا غُبَارَ عليها؛ كما أشهَدُ أنَّكم السِّياسيُّ الألمعيُّ المُخَضرَمُ الذي استَطاعَ بفَضلِ نباهتِهِ وبُعْدِ بَصيرَتِهِ وتَبَصُّرِهِ، وحِنكَتِهِ السِّياسِيَّةِ أن يُحافِظَ على الحَدِّ الأدنى من تَماسُكِ الكُتَلِ البَرلُمانيَّة، وعلاقاتِ الزَّمالَةِ بين أعضاءِ المَجلِسِ النِّيابي في مَراحِلٍ عَصيبَةٍ وأزَماتٍ سِيَاسِيَّةٍ حادَّةٍ وأحداثَ أمنيَّةٍ أليمَةٍ طِوالَ فَترَةِ تَوَلِّيَكُم مَهامَ رِئاسَةِ المَجلِسِ النِّيابي.
أتوجَّهُ إليكُم اليومَ وعَبرَكُم إلى نُوَّاب الأمَّة، مُناشِدًا إيَّاكُم جَميعًا، مَستَصرِخًا ضَمائرَكُم، مُستحلِفًا إيَّاكُم بما لدَيكم من حِسِّ وَطَني، وبُعدٍ إنسانِي، الرَّأفةَ بهذا الوِطن وبشَعبِهِ الذي يُعاني الأمرَّين: مُرَّ الحياةِ ومُرَّ المُناكَفاتِ السِّياسِيَّةِ التي لم نَنَل منها سِوى مواقِفَ تَعطيليَّة.
دولةُ الرَّئيس، منذ الأوِّلِ من أيلولِ الجارِي دَخَلنا كلُبنانيين في المُهلَةِ الدُّستورِيَّةِ المُخَصَّصَةِ لإنجازِ أهمِّ استِحقاقٍ على مُستوى الجُمهورِيَّةِ اللبنانِيَّة، هو استِحقاقُ انتِخابِ رَئيسٍ للجُمهورِيَّةِ ذاتِ النِّطامِ البرلُماني، حَيثُ يُنتَخَبُ الرَّئيسُ من مَجلِسِ النُّواب، وبالتَّالي يُعتَبَرُ هذا الواجِبُ من أولى الأولَوِيَّاتِ، ويتصدَّرُ المَهامَ المُلقاةِ على مَجلِسِكُم الكَريم.
دَولةُ الرَّئيس، السَّادَةُ النُّوَّاب، إن الاستِحقاقَ لُبنانيٌّ بامتياز، لا تَجعلونَهُ مَحَلَّ أخذٍ ورَدٍّ على السَّاحتينِ الدَّولِيَّةِ والإقليمِيَّة. إنَّها جُمهورِيَّتُنا اللُبنانيَّة، دُستورُها صاغتهُ عُقولٌ وأيادٍ لُبنانِيَّة، ومَجلِسُكُم منتَخبٌ شعبيًَّا، من لبنانيين أصيلين. عَليكُمُ اليَومَ كأعضاءَ في مَجلِسِ النُّوابِ أن تُجَسِّدوا لُبنانِيَّتَكُم في مُقارَبَتِكم لهذا الاستِحقاقِ الوَطنِي، وتَتَحَمَّلوا مَسؤوليَّاتِكُم النِّيابيَّةِ على هذا الأساس.
أصحابُ السَّعادَة، إن انتِخابَ رَئيسٍ للجُمهوريَّةِ هو واجِبٌ دُستوريٌّ، ينبغي أن يَحصَلَ داخِلَ أروِقةِ مَجلِسِكُم الكريم، وبالتَّحديدِ في قاعَتِه العامَّةِ، وليسَ في دُورِ السَّفاراتِ، أو مَقارِّ الطُّوائفِ والمَذاهِبِ الدِّينِيَّةِ مع احتِرامِنا لها، وتَقديرِنا لِجِرصِها على إنجازِ هذا الاستِحقاقِ في أوَانِه، تلافِيًَا لأيِّ شُغورٍ في هذا المَنصِبِ الحَسَّاس، تنفيذًا لنُصوصِ الدُّستورِ الذي يَرعى أداءَ مُختلِفِ السُّلُطاتِ الدُّستورِيَّةِ وفي طَليعَتِها مَجلِسُكُم الكَريم.
دولةُ الرَّئيس أصحابُ السَّعادَة، إن لُبنانَ واللبنانيين يَمرُّون اليومَ في ظُروفٍ استِثنائيَّةٍ مَصيرِيَّةٍ فائقَةِ الحَساسِيَّة، إن كان على مُستوى البيئةِ اللُّبنانِيَّةِ الدَّاخِليَّةِ حيثُ نُعاني من انقِساماتٍ سِياسِيَّةٍ حادَّةٍ، تَكادُ تُمَزِّقُ هذا الوَطَنَ أشلاء، وتُقَطِّعُ الأوصالَ بينَ أبنائه. والعَدوُّ يَتَرَبَّصُ بنا جَنوبا، وعَينُهُ على ثروَتِنا المائيَّةِ، والحَربُ على الأبواب، وطُبولُها تُقرَعُ دون هوادَة. ونَرزَحُ تحت وطأةِ رُكودٍ اقتِصادِيٌّ قَلَّ نَظيرُه، ووَضعٍ مالِيٍّ مُتَعَثِّرٍ، وعِملَةٍ وَطَنِيَّةٍ مُتهالِكَةٍ، والأوضاعُ المَعيشيَّةُ تُنذِرُ بانهيارٍ شامِلٍ وعلى كُلِّ المُستَويات. أما البيئةُ الخارجيَّةُ فهي أيضًا ليست على ما يُرام، إذ حَربُ أكرانيا ليسَت بحَربٍ مَحصورَةٍ آسيَويًَّا، وهي تَخرُجُ عن إطارِ الحُروبِ التَّقليدِيَّة، حيثُ الآفاقُ مُشرَّعةٌ أمامَ المُسيَّراتِ عن بُعد، والصَّواريخِ الذَّاتِيَّةِ الدَّفعِ والفَوقِ صَوتِيَّة، والمُختَبَراتُ البيولوجِيَّةُ العَسكَرِيَّةُ نشِطةٌ والمَحطَّاتُ النَّوَوِيَّةُ مَحَطَّ أنظارِ القادَةِ العَسكَرِيين، والمُحلِّلينَ الاستراتيجيين؛ وثَمَّةَ حُروبٌ اقتِصادِيَّةٌ صامِتَةٍ تُشنُّ بَعيدًا عن أزيزِ تلك المُسَيَّراتِ والصَّواريخِ؛ أدواتُها الوقودُ السَّائلةٌ والغازِيَّةُ، كما المَوادُّ الغِذائيَّةُ الرَّئيسِيَّةُ كالقَمحِ والذُّرَةِ والزُّيوتِ النَّباتيَّة …الخ كُلُّ المؤشِّراتِ تُنذِرُ بأنَّ المُقبِلَ من الأشهُرِ ورُبَّما الأيَّامُ سَتَجعلُنا غيرُ قادرينَ على تَحمُّلِ المَزيدِ من الضًّغوط.
يُخيَّلُ إلى كُلِّ من يَستَمِعُ إلى نَشراتِ الأخبارِ عبرَ فَضائيَّاتِ بلدِنا، وما يَتلفَّظُ به سِياسِيُّونا من مَواقِفَ حادَّةٍ أن الأزمَةَ السِّياسِيَّةَ في لُبنان أكثرُ تعقيدًا من كُلِّ الأزَماتِ السِّياسِيَّةِ والنِّزاعاتِ العَسكَرِيَّةَ على السَّاحتين الإقليميَّةِ والدَّوليَّة، خاصَّةً وأننا دَرَجنا على رَبطِ مَشاكِلنا الدَّاخِليَّةِ بما يَحصَلُ من مُجرَياتٍ على السَّاحَتينِ الدَّولِيَّةِ والإقليمِيَّة، مُتَلَطِّينَ خَلفَ بَعضِ الاستِحقاقاتِ الخارِجِيَّةِ لتَبريرِ عَجزِنا عن تَسييرِ شُؤونِنا الدَّاخِليَّةِ المَحلِّيَّة، أو لتبريرِ فشَلِنا.
إنَّ التَّراشُقَ وإطلاقَ المَواقِفِ السِّياسِيَّة عَبرَ الخِطاباتِ والمُؤتَمَراتِ الصُّحُفِيَّةِ والبَياناتِ والتَّصاريحِ، سَواءَ صَدَرَت عن مَقارَّ رَسميَّةِ رِئاسِيَّةٍ أم نِيابِيَّةٍ أم حُكومِيَّةٍ، أو من قلاعِ المسؤولينَ سواءَ في الرَّابِيَة أو عَين التَّينَةِ أو ستاركو أو حارَةِ حرَيك أو اللقلوق أو المُختارَةِ أو بشَرِّي أو بنِشعي أو غيرِها، لن تُؤتي برئيسٍ للجُمهورِيَّة، ولن تُوَفِّرَ الحَدَّ الأدنى من التَّوافُقِ على شَخصِيَّةٍ عَتيدةٍ تَمهيدًا لانتِخابِها، ولن يكون المُنتَخبُ رَئيسًا للبنانَ، كُلِّ لبنانَ، إن جاءَ انتِخابُهُ كبنتيجَةِ صَفَقَةٍ سِياسِيَّةٍ بين مُكوِّناتٍ وَطَنيَّةٍ على حِسابِ مُكوِّناتٍ وَطَنيَّةٍ أُخرى.
إن الآليَّةَ الدُّستورِيَّةَ الدِّيمُقراطِيَّةِ تبقى المُقارَبَةُ الأَصَحُّ بل الأمثَلُ لانتِخابٍ رَئيسٍ “فَخامَة”، رَئيسٌ وَطَنِيٌّ على امتِدادِ الوَطَن. آليَّةٌ واضِحةُ المعالِم والإجراءات، هي الملاذُ الوحيدُ الذي يُنجينا من الاتيانِ برئيسٍ غيرِ مُنزَلٍ على الشَّعْبِ اللُّبناني بالبَراشوت، وغير مُظَهَّرُ للُّبنانيينَ من خَلفِ سِتارِ ساحِرٍ مَزعوم، وغيرِ مُفروضٍ بإملاءاتٍ خارِجِيَّة؛ رَئيسٌ يَتِمُّ اختِيارُهُ من خارِجِ الإصطِفافاتِ السِّياسِيَّةٍ الحالِيَّةِ المُدَمِّرَة، يكونُ على مَسافَةٍ واحِدَةٍ من جَميعِ اللُّبنانِيين، رَئيسٌ على قِياسِ الوَطَنِ لا الطَّوائف أو المَذاهِب.
دولةُ الرَّئيس، أصحابُ السَّعادَةِ النُّواب، أنتم مَدعوون كي تكونوا على قَدرِ التَّحدِّياتِ، كُل ما عليكُم هو الإيفاءُ بموجِباتِكُم الدُّستوريَّة، كسُلطةٍ تشريعيَّة، وهيئةٍ ناخِبَة. إنه لمن العَيبِ أن نرى من بيدِهِم الرَّبطُ والحلِّ في مسألةِ انتِخابِ رَئيسٍ للجُمهورِيَّة يُمْعِنونَ في الخُروجِ عن الأُصولِ الدُّستوريَّة، بتَركيزِ جُلِّ اهتمامِهم على كيفيَّةِ الامساكِ بالسُّلطَةِ في ظِلِّ خلوِّ سُدَّةِ الرِّئاسة، موحينَ بأن لا انتِخابٌ لرئيسِ والشُّغورُ أضحى حَتمِيَّا. ومن المُعيبِ أيضًا الخُروجُ عن الأدبيَّاتِ السِّياسِيَّةِ والاستِعاضةِ عنها بلغاتِ التَّهديدِ والوعيد، كما أن اعتمادَ خِطاباتِ عاليَةِ النَّبرَةِ وإطلاقِ المَواقِفِ الحادَّةِ لا تجدي نفعًا، إنما تزيدُ في الأمورِ تَعقيدا، وهي تخفي خلفها تهيُّبا من حراجَةِ الوضع وتوجُّسا مما قد تؤولً إليه الأمور، كما أن تَخلُّفَ السَّادَةُ النُّوابِ المُنتخَبينَ من الشَّعْبِ عن القِيامِ بواجِبِهم الانتِخابي أو تقاعُسِهُم عن القِيامِ به ينطوي على مُخالَفَةٍ فاضِحَةٍ للوكالَةِ الشَّعبِبيَّة، وربَّما ترتقي إلى حدِّ الخِيانَةِ العُظمى. أمَّا المَخرجُ فهو البناءُ على القواسِمِ الوطنيَّةِ المُشتركة، والاحتكامُ إلى الدُّستور ولا شيء غيرَه.
إنَّكم يا دولةُ الرَّئيسِ مَدعوونَ اليومَ بشَخصِكُم بل مُطالَبونَ شَعبِيًَّا ودُستورِيَّا وأخلااقيًَّا بالدَّعوَةِ عاجلًا إلى عَقدِ جَلسَةٍ للمَجلِسِ النِّيابي بصِفَتِهِ هَيئةٍ ناخِبَة، وعلى النَّوابِ الإلتزامِ بموجِبِ الحُضور، ولا عَيبَ دُستورِيٍّ في نقلِ الحِوارِ إلى حيثُ يجب، أي داخِلَ أروقَةِ مجلِسِ النُّواب، وما عليكُم سِوَى مُباشَرَةُ الجَلسَةِ بمُشاوراتٍ جادَّةٍ لتَحديدِ مَزايا الرَّئيسِ العَتيد بما يَتلاءَمُ مع التَّحدِّياتِ الوَطنِيَّة وتَطَلُّعاتِ الشَّعب، تليها مُشاوراتٌ جانِبِيَّةٌ داخِلَ حَرَمِ المَجلِسِ أيضًا، وتنتهي بجلسَةٍ عامَّةٍ تُعقدُ تحت قبَّةِ البرلمان، تُخَصَّصُ للتَّصويتِ لمن أعلنوا عن نيَّتَهم التَّرشُّحَ لهذا المَنصِب، وليعلَنُ رَئيسًا من يَنل أصواتِ ثُلثَي أعضاءِ المَجلِسِ، وإن تَعَذَّرَ حُصولِ أيٍّ منهم على هذه الغالبيَّةِ الموصوفَة، فلتُكَرَّرُ عمليَّةُ التَّصويتِ، ولينتَخَب رَئيسُ بالأكثريَّةِ المُطلَقَةِ وَفقَ الّنَّصِّ الدُّستورِي بعيدًا عن أيَّةِ فذلكاتٍ تَعطيلِيَّة.
إنها فُرصَتكُم يا دولَةَ الرَّئيس في تَسجيلِ مَوقِفٍ وَطَنِي، كما إنَّها فُرصَةٌ للشَّعبِ للتَّخفيفِ من مُعاناتِه، وفُرصَةٌ للوَطنِ للنُّهوضِ من كَبوتِه، حذار أن تفَوِّتكم. إنَّكم لقادِرون على تمريرِ هذا الاستحقاقِ بوصفةٍ لُبنانيَّةٍ صَرفَة، حَبذا لو تَفعلونَها ولو لِمَرَّةٍ واحِدَة.