فليَسعوا لانتِخابِ رئيسٍ إنقاذيٍّ للجُمهوريَّةِ بدلاً من التَّلهي بمُوازَنَةٍ ترقيعِيَّة | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
“يطعمُكُم الحِجَّةَ والنَّاسُ راجِعَة” هو المَثَلُ الشَّعبيُّ الذي يَنطَبِقُ على المَسؤولين في بلدِنا عن السُّلطتين التَّشريعِيَّةِ والتَّنفيذِيَّة، في مُحاوَلَةِ تَمريرِهم لمَشروعِ مُوازَنَةُ السَّنةِ الحاليَّةِ في رُبعِها الأخير. والحَجُّ كَفَريضَةٍ ينالُ ثوابُها من يُؤدِّيها في أوانِها “أي خِلالَ الفَترَةِ الزَّمَنِيَّةِ المُخَصَّصَةِ لتأدِيَتِها، مع تَطَلُّبِ صِدقِ النَّيَّةِ، وبالتَّالي إن قُبولُها مَرهونٌ بالتَّقَيُّدِ بالأُصولِ الشَّكلِيَّةِ من حَيثُ التَّوقيتِ وكيفِيَّةِ تأدِيَةِ المَراسِم، ويُضافُ إلى ذلك العُنصُرُ المَعنَوِيُّ والمُتمثِّلِ في عَقدِ العَزمِ على تأدِيَةِ الفَريضَةِ كواجِبٍ مُقَرَّرٍ تِجاهَ الله عَزَّ وجَل. ولهذا يوجَّهُ هذا الدُّعاءُ لِكُلِّ مَن هو غير جَديرِ بنيلِ ثوابِ الفَريضَةِ حتى ولو قامَ بتأدِيَتِها، وغالِباً ما يُعزَى ذلكَ لعدَمِ تَرَجِّي الخَيرَ فيهم.
إن المَعنيونَ في كِلتَي السُّلطَتَينِ التَّنفيذِيَّةِ والتَّشريعِيَّة يَعونَ جَيِّداً أن هذا الواجِبَ المُقرَّرُ هو مُستَحَقُّ منذُ استِحقاقِ موعِدِ العقدِ الثاني لمَجلِسِ النُّوابَ عن العام الفائت أي اعتِباراً من الفَترَةِ الزَّمَنِيَّة المُمتَدَّةِ من يوم الثلاثاءِ الذي يلي الخامسِ عشرِ من شهرِ تِشرينِ الأوَّلِ ولآخر يوم من العام 2021، والذي يُخَصَّصُ للبَحثِ بمُوازَنَةِ السَّنَةِ التَّالِيَةِ “أي العام 2022 الحالي”، والتَّصويتِ عليها، وهذا ما لم يَفْعَلهُ المجلسُ النِّيابي بهَيئتِهِ السَّابِقَةِ كما الحالِيَّةِ خلالَ عامٍّ بكامِلِه.
أوجَبت المادَّة 83 من الدُّستور اللبناني على الحُكومَةِ أن تُقَدِّمَ في بدءِ عَقد تِشرينِ الأوَّلِ لِمَجلِسِ النُّوابِ مُوازَنَةً شامِلَةَ لنَفقاتِ الدَّولَةِ ودَخلَها عن السَّنَةِ القادِمَةِ، وعلى المَجلِسِ أن يُخصِّصَ جَلساتَهُ في هذا العَقدِ للبحثِ في المُوازَنَةِ المُقدَّمةِ إليهِ والتَّصويتِ عليها قبلَ أيِّ عَمَلٍ آخَرَ وِفقاً لما تَنُصُّ عليه المادَّةُ 32 من الدُّستور، وبنهايَةِ دراسَةِ المَجلِسِ للمُوازَنَةِ يُصارُ إلى الاقتِراعِ عَلَيها بَندأ بَنداً خِلالَ العَقدِ ذاتِه، وهذا لم يَحصل، لأن الحُكومَةُ لم تَتَقدَّمَ بمَشروعِ المُوازَنةِ لا خِلالَ المُهلةِ المُحدَّدَة ولا بعدَها. ولم يستفق مجلِسي الوزراء والنُّوابِ لأهَمِّيَّةِ إقرارِ المُوازَنَةِ إلاَّ مؤخَّراً، وبَعدَ أن دَخلنا في الفَترَةِ الزَّمَنِيَّةِ التي يَتوَجَّبُ فيها انتِخابُ رَئيسٍ للجُمهورِيَّة، وتَحتَ ضَغوطِ صُندوقِ النَّقدِ الدَّولي، طلباً لمَرضَاتِهِ وسَعياً منهم للحُصولِ على قَرضٍ جديد يُضافُ إلى ديونِ لبنانِ السَّابِقَةِ لتمريرِ المَزيدِ من الوقتِ بانتِظِارِ مُعجِزَةٍ ما، يَصعُبُ مَنطِقاً تَحقُّقُها.
وطالما أن الحُكومةَ قد تَخاذَلَت عن القِيامِ بواجِبِها في إعدادِها للمُوازَنَةِ وإحالَتِها إلى المَجلِسٍ النِّيابي في الفترةِ الزَّمنيَّةِ المُحدَّدةِ، بذلكَ تَكونُ قد فَوَّتَت عليها إمكانِيَّةَ جَعلِ مَشروعِ المُوازَنَةِ بالشَّكلِ الذي قُدِّمَت فيه مَرعِيَّاً ومِعمولاً به وفقَ ما تنص عليه المادَّةُ 86 من الدستور “فقرتِها الأولى”.
وعدَمُ إقرارِ الموانَةِ بقانون أو إعمال مشروعِها، يوجِبُ على الحكومةِ الأخذَ بميزانيَّةِ السَّنةِ السَّابقةِ كأساسٍ للجِبايَةِ والصَّرفِ خلال شهر كانون الثاني على اساسِ القاعِدَةِ الإثني عشريَّةِ، وذلك لِحينِ إقرارِ المُوازَنَةِ خِلالَ عَقدٍ استِثاني يُخصَّصُ لهذه الغاية؛ إذ لم يَكُن ليَدورَ في خُلدِ المُشرِّعِ الدُّستوري أن التَّعطيلَ في عَمَلِ المُؤسَّساتِ الدُّستوريَّة وقُصورِ تلك المؤسَّساتِ عن القِيامِ بواجِباتِها الدُّستوريَّةِ سيدومُ أشهُراً وسَنوات.
حُكومتُنا الحاليَّةُ بل حُكواماتُنا بالتَّضامُنِ مع مجالِسُنا التَّشريعيَّةِ المُتعاقِبينِ لم يَكتَفوا منذ ما يُقارِبُ العَقدِ ونِصفِ العَقدِ بعدَمِ إقرارِ الموازناتِ خلالَ المُهلِ المُحدَّدَةِ لإقرارها، إنما تَعَمَّدوا، بالتَّكافُلِ والتَّضامنِ، التَّأخيرَ في إقرارَ المُوازَناتٍ، وتمنَّعوا عن إجراءِ الحِسابِ الخِتامي، والمُصادَقَةِ على قَطعِ الحِسابِ، وذلكَ تَهرُّباً من تَقييدِ الصَّرفِ الشَّهري على أَساسِ ما صُرِفَ في الأشهُرِ ذاتِها من السَّنَةِ السَّابِقَةِ، كما لتَخطي سِقفِ الدَّينِ العامِّ والاستِقراضِ المَسموحِ بهما، وهذا ما أوقَعَ لبنانَ بأزماتِ مَالِيَّةِ واقتِصادِيَّةِ ونَقدِيَّةِ ومَعيشِيَّةِ شَائكَةِ ومتَشابِكَة.
لقدِ استَفاقَ المُمسِكونَ بزِمامِ الأمورِ في لُبنانَ في مُنتَصَفِ شَهرِ أيلول على مُوازَنَةِ العام الحالي، وعَمِلوا على عُجالَةٍ كَرهاً لا طَوعاً لتَمريرِها، توخِّيَاً لمَنفَعَةٍ آنِيَّةٍ يبغونَ من وَرائِها استِجداءَ قُرْضٍ، وإسكاتُ الشَّعبِ بجُرُعاتٍ تَخديريَّةِ على شَكلِ دَعمٍ لبَعضِ السِّلَعِ، وتمادوا بذلك إلى أن شارَفَ احتياطُ المَصرِفِ المَركَزِي من العُمُلاتِ الصَّعبَةِ على النَّفاذ، فاستعاضوا عنها بخُزَعبَلاتِ صَيرَفَة،. وكأن جُلَّ ما يَسعونَ إليه يقتصِرُ على تَمريرِ الوَقت،
وليَقضِيَ الله أمراً كان مَفعولا، بإعلانِ إفلاسِ الدَّولةِ والمَصارِفَ والشَّرِكاتِ والأفراد.
دأباً على عادَتِهم، وعاداتِ مُوَرِّثيهِم للمَناصِبَ التي لم يُغيِّروا من أساليبِ مُقارباتِهِم غيرِ المَدروسَةِ للمَسائلِ المَطروحَةِ كما في تَصدِّيهم للأزَمات، رَغمَ ثبوتِ فَشلِها، لأنَّهُم لا يُحسنونَ التَّخطيطَ والتَّنظيمَ المُسبَقين، ولا إدارَةَ الأزماتِ تَلافِيَاً لانفِجارِها أو توقِّياً لمَخاطِرِها أو تَخفيفاً من مَضارِّها، كما لأنَّهم لا يُعيرونَ اهتِماماً لِما حَصَلَ ويَحصَلُ جَرَّاءَ سِياساتِهِم التي انتَهَجوها وما يزالون مُنذُ عُقود.
هم على عُجالَةٍ من أمرِ تَمريرِ مُوازَنَةٍ، أيَّةِ مُوازَنَة، ولو صُوَرِيّاً على شاكِلَةِ المُوازَنَةِ التي رَموها في أروِقَةِ المَجلِسِ النِّيابي، وكادَت أن تُمَرَّرَ لولا مُناكَفات بعضٍ من النُّوابِ الجُدُدِ مِمَّن اصطُلِحَ على تَسمِيَتِهِم بالتَّغيريين، والذين يبدو أنَّهُم بموقِفِهِم أحرَجوا من يَعتَبِرونَ أنفُسَهم سِياديينَ، فعَطَّلوا نِصاب الجلسة، فَتَقرَّرَ تأجيلَها لِعشرةِ أيَّام، مُتأمِّلين تَمريرَها لسَدِّ الزَّرائعِ أمامَ مَسؤولو البنك الدَّولي، وليُظهِروا ولو بالشَّكلِ أنَّهُم قاموا بواجِبِهم هذا ولو مُتأخِّرا.
عَجَباً لوزراءَ يَتَلَطُّونَ خَلفَ مُسوَدَةِ مَشوعِ مَوازَنَةٍ غيرِ مُتكامِلَةٍ، وغيرِ مَحسوبَةِ النَّتائجِ، ولا تَنطَوِي على رُؤيَةٍ إنقاذِيَّةٍ واضِحَة، ولا تَستَنِدُ إلى خِطَّةِ تَعافٍ كما يَزعَمون، كما عجباً لنُوابٍ متَلهِّفينَ لإقرارِ موازَنَةٍ غَيرِ مُنجَزَةٍ ولا قانونيَّة، إنَّها أقرَبُ إلى مَحاوَلَةِ تَسديدٍ دَفتَرِيَّة، لفَواتيرَ ونَفقاتٍ صُرِفَت، ولتَلزيماتٍ عُقِدت ولصَفَقاتٍ أُبرِمَت؛ إنَّها لمَحاوَلَةٌ لتَبريرِ ما صُرِفَ وما سَيُصرَفُ خِلالَ الفَترَةِ المُتَبَقِّيَةِ من العام الحالي، وخارِجَ روحِيَّةِ النُّصوصِ الدُّستورِيَّةِ، وخلافاً لقانونِ المُحاسَبَةِ العُمومِيَّة، إنَّها سُلوكِيَّاتٌ لاعَقلانِيَّة، تَقومُ على مُقارباتٍ استِرضائيَّةٍ لبَعضِ القِطاعاتِ والفِئاتِ، وتَهميشِ لقِطاعاتٍ وفئاتٍ أُخرى، وجِباياتٌ باحتِسابِ العِملَةِ الوَطَنِيَّةِ على سِعرٍ صَرفٍ رَسميٍّ (1500 ل ل للدولار) وصَرفٍ باحتِسابِ سِعرِ صرفٍ افتِراضِي، إنَّنا فِعلاً في عَصفورِيَّة.
لقد حقَّ المَثلُ الشَّعبي القائل” الناس بالنَّاس والقطَّةُ بالنِّفاس، إذ الشَّعبُ مُنهَمِكٌ في تَدبيرِ حاجِيَّاتِهِ اليَومِيَّةِ المُلِحَّةِ بعدَ أن تخلَّى مُكرهاً عن مُعظَّمِها، تحت وَطأةِ ظُروفٍ مَعيشيَّةٍ قاهِرَة لا سابِقَ لها؛ أما المَسؤولونَ فمُنهَمِكونَ في تَدبيرِ شُؤونِهِم الخاصَّةِ كما انشَغَلتِ القِطَةُ ذاتَ يَومٍ بشؤونِها الذَّاتّيَة، إنهم مَنشَغِلونَ بتبييضِ أموالِهِم التي هرَّبو معظَّمَها للخارِج، وبتحصينِ أنفُسِهِم من تَبِعاتِ ارتِكاباتِهِم خِلالَ فَتراتِ مُشارَكَنِهم في السُّلطَة، من خلالِ سعيِهِم لإقرارِ قوانينَ برَّاقَةٍ جوفاءَ خاوِيَةٍ فارِغَةِ المَضامينِ تحتَ عَناوينَ برَّاقَةِ كمُكافَحَةِ الفَسادِ أو رَفعِ السِّرِيَّةِ المَصرِفِيَّةِ أو التَّحكُّمِ بالسُّحوباتِ والتَّحويلات (Capital Control) وغيرِها من القوانينِ التي يُضمِّنونها بذورَ تعطيلِها، ساعينَ بتَمريرِها إلى إرضاءِ البنك الدَّولي وذرِّ الرَّمادَ في عُيونِ أصحابِ الوَدائعِ المَصرِفِيَّةِ التي نُهِبَ بعضُها وبُذِّرَ بعضُها الآخرُ، ولم يبقَ منها سِوَى القَليلِ في طريقِهِ إلى التَّذير.
ما كان للمُمسِكين باللُّعبَةِ السِّياسِيَّةِ في لبنان، بمن فيهم المُتَربِّعونَ على عُروشِ مُؤسَّساتِنا الدُّستورِيَّةِ وأدواتِهِم البَشريَّةَ من وزراءَ ونوَّاب أن ينجَحوا في ذلك لولا أنَّهُم سوَّاس (جَمعُ سائس) بارعين، أتقنوا تَرويضَ الشَّعبِ اللبناني وتَدجينِه وإخضاعِه، فاستَحقَّ كُلأ منهم لَقَبَ سائسٍ بامتياز، ولكنَّهم لطالَما بدى لَقَبُ السِّياسِي فضفاضاً عليهم؛ ذلكَ أنَّ السِّياسَةَ تُعنى بأمورِ تَسييرِ شُؤونِ الدَّولَةِ بحسٍّ وطنيٍّ إنساني، وعلى نحوٍ يُحقِّقُ للدَّولةِ مَصالِحها العُليا، وللشَّعبِ رُقِيَّهُ ورَفاهِيَتَه، وهذا ما يفتقدونَ إليه.
ونَخلُصُ للقَول أنه أجدى بهم، بدلاً من أن يَتَلهوا بموازَنَةٍ تَرقيعِيَّة، فليَسعوا جادِّينَ لانتِخابِ رَئيسٍ إنقاذيٍّ للجُمهورِيَّة.