ازمة لبنانالاحدث
في ذكرى استشهاده كمال جنبلاط: زعيم إنساني وفيلسوف العدالة الاجتماعية | بقلم المحامي عمر زين

يعدّ كمال جنبلاط واحدًا من الشخصيات الاستثنائية في التاريخ اللبناني والعربي، إذ لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل كان مفكرًا إنسانيًا كرّس حياته للنضال من أجل العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتميّز بفكرٍ متقدّمٍ سابقٍ لعصره، حيث سعى إلى بناء مجتمع قائم على القيم الإنسانية، متجاوزًا حدود الطائفية والانتماءات الضيقة، ليضع رؤية شاملة لعالم أكثر إنصافًا وسلامًا.
تجسدت إنسانية كمال جنبلاط في مواقفه السياسية والاجتماعية والفكرية، حيث كان يرى أن السياسة يجب أن تكون وسيلة لخدمة الإنسان لا أداة للهيمنة أو الاستغلال، فدعا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وحارب الفقر والظلم، مؤمنًا بأن كل فرد في المجتمع يستحق الحياة الكريمة بغض النظر عن طائفته أو طبقته الاجتماعية.
وفي دفاعه عن حقوق الإنسان، كان جنبلاط من أوائل المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم العربي، حيث دعا إلى احترام الحريات الفردية والجماعية، ورفض أي شكل من أشكال القمع أو الاستبداد، وآمن بأن الدولة العادلة هي التي تضمن كرامة الإنسان وتحقق له حقوقه الأساسية في التعليم والصحة والعمل، وهو القائل “التضحية لأجل الغير هي ايضاً طريق الله”.
أمّا بالنسبة للتسامح ونبذ الطائفية، فقد حمل مشروعًا إصلاحيًا يهدف إلى إزالة الحواجز الطائفية التي تعرقل تقدم المجتمع اللبناني، مؤكدًا أن المواطنة يجب أن تكون الأساس في بناء الدولة الحديثة، فسعى جاهدًا لإيجاد حلول تعزز التماسك الاجتماعي، بعيدًا عن الخطابات التي تؤجج الصراعات والانقسامات وهو القائل ايضا “الشعب وحدة اجتماعية تامة، لا عصبية طائفية ولا انعزالية اقليمية ولا امتياز لفريق على اخر”.
أما بالنسبة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فقد أدرك جنبلاط أن تحقيق العدالة لا يقتصر على الحقوق السياسية فحسب، بل يجب أن يشمل توزيعًا عادلًا للثروات والموارد. لذا، نادى بإصلاحات اقتصادية تحقق التوازن بين الفئات المختلفة، وتكفل حقوق الفلاحين والعمال، خاصةً في ظل سيطرة الطبقات الإقطاعية والرأسمالية الجشعة وهو القائل “نريد ان نبني مجتمع الكفاية والعدل”.
من المعلوم أن الإنسانية عند كمال جنبلاط لم تكن مجرد شعارات سياسية ترفع في المناسبات، بل كانت انعكاسًا لفلسفة روحية عميقة استمدها من تأمله في الفلسفات الشرقية والصوفية. فقد تأثر بالبوذية والهندوسية، وقرأ في تعاليم غاندي، مقتنعًا بأن الإنسان لا يمكن أن يرتقي إلا إذا سعى لتحقيق التوازن بين المادة والروح، لان الحياة لا تستقيم الا بانسجام الجانب المادي مع البعد الروحي.
وانطلاقا من هذا الايمان العميق، لم يفصل جنبلاط بين السياسة والاخلاق، بل رأى أن العمل السياسي يجب أن ينطلق من قيم أخلاقية وروحية سامية، اذ لا يمكن تحقيق العدالة الحقيقية إذا كان القادة السياسيون أسرى لأهوائهم الشخصية ومصالحهم الضيقة. ولهذا، دعا إلى مفهوم “أدب الحياة”، وهو نهج أخلاقي يوجه السلوك السياسي والاجتماعي نحو الخير العام، بحيث يصبح الالتزام بالمبادئ الاخلاقية جزءاً لا يتجزأ من الممارسة السياسية.
ومن هذا المنطلق، تبنى الزعيم نهج اللاعنف والمقاومة السلمية، إذ رأى أن القوة الحقيقية لا تكمن في السلاح والصراعات، بل في الوعي والفكر والتثقيف. ورغم انخراطه في الحياة السياسية الصاخبة، ظل مؤمنًا بأن التغيير الجذري لا يتحقق الا عبر الحوار البناء والتفاهم المشترك. لذا، شجَّعَ على التقارب بين الأديان والثقافات، معتبراً أن الإنسان هو جوهر كل نظام سياسي ناجح، ان اي اصلاح حقيقي يجب ان يهدف أولا الى خدمة الانسان وتعزيز كرامته.
ولان الإنسان هو محور كل عمل سياسي ناجح، لم يكن جنبلاط زعيمًا تقليدياً يسعى وراء المناصب والثروات، بل جسّد في حياته مبدأ الزهد والتواضع، مؤمناً بأنّ القيادة الحقيقية تعني خدمة الناس لا استغلالهم. فقد عاش حياةً بسيطةً رغم مكانته السياسية والاجتماعية، وكان يرى أن المسؤول الحقيقي هو الذي يكرّسُ نفسهُ لخدمة مجتمعه، لا الذي يستخدم السلطة لتحقيق مآرب شخصية.
لم تقتصر رؤية كمال جنبلاط الإنسانية على الشأن اللبناني الداخلي، بل تجاوزت حدود الوطن لتشمل القضايا العربية والعالمية، حيث كان نصيراً لكل الشعوب المظلومة والمقهورة، مؤمناً بأن العدالة لا يمكن ان تكون انتقائية، بل يجب ان تكون شاملةً وعابرةً للحدود. ومن هذا المنطلق، اتخذ مواقف واضحة وثابتة تجاه أبرز القضايا الاقليمية والعالمية.
في مقدمة القضايا التي تبناها جنبلاط كانت القضية الفلسطينية، التي رأى فيها معركة انسانية عادلة تستوجب التأييد المطلق. لم يعتبرها مجرد قضية سياسية، بل نضالاً من اجل الحق والكرامة. ولهذا، عارض الاحتلال الاسرائيلي بشدة، ودعا الى دعم الشعب الفلسطيني في كفاحه من اجل الحرية والاستقلال، معتبراً ان اي تقاعس عن نصرة هذه القضية هو اخلال بالمبادئ الانسانية الاساسية.
وإلى جانب نضاله من أجل العدالة في فلسطين، لم يتوانَ جنبلاط عن مواجهة الاستبداد في العالم العربي.
فقد وقف بحزم ضد الأنظمة الديكتاتورية، معتبرًا أن الطغيان يتناقض مع القيم الإنسانية التي يجب أن تسود في أي مجتمع يسعى لتحقيق التنمية والعدالة. ومن هذا المنطلق، نادى بالديمقراطية كوسيلة لضمان حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، مؤكدًا أن الحكم العادل لا يمكن أن يقوم على القمع والاستبداد، بل على احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير.
لم تقتصر رؤيته الإصلاحية على القضايا السياسية والاجتماعية فحسب، بل امتدت إلى القضايا البيئية، في وقت لم يكن فيه الاهتمام بالبيئة ضمن الأولويات السياسية في العالم العربي. فقد كان من أوائل القادة الذين تحدثوا عن أهمية حماية البيئة، مؤكدًا أن التوازن بين الإنسان والطبيعة ضرورة أساسية للحفاظ على الحياة. ومن هذا المنطلق، دعا إلى سياسات تحمي الموارد الطبيعية من الاستغلال الجائر، وشدد على أن البيئة السليمة ليست ترفًا، بل حق أساسي لكل إنسان، تمامًا كما هي حقوقه في الحرية والعدالة.
رغم اغتياله في 16 آذار 1977، لم تُغتل أفكار كمال جنبلاط، بل بقيت حيّة في الوجدان اللبناني والعربي، متجسدة في المبادئ التي ناضل من أجلها. فقد شكّلت كتاباته، مثل “أدب الحياة” و”هذه وصيتي”، مرجعًا لكل من يسعى لفهم رؤيته الإصلاحية والإنسانية، إذ لم تكن كلماته مجرد تنظير فكري، بل دعوة عملية للتغيير والتحرر.
واليوم، لا يزال إرثه مصدر إلهام لكل من يؤمن بأن السياسة يجب أن تكون وسيلة لخدمة الإنسان، لا أداة لقمعه أو استغلاله. فبينما يتبدل المشهد السياسي وتتعاقب الأجيال، يبقى كمال جنبلاط نموذجًا للزعيم الذي تجاوز حدود السياسة التقليدية ليحمل رسالة إنسانية قائمة على الحب والتسامح والعدالة، ساعيًا إلى بناء عالم أكثر إنسانية، عالم تحكمه القيم لا المصالح، ويُحترم فيه الإنسان بكرامته وحقوقه.