ازمة لبنانالاحدث

قانون يهدّد استقرار الليرة: التدخل السياسي في الكتلة النقدية يعيدنا إلى النموذج الألماني الكارثي | بقلم المحامي د. باسكال فؤاد ضاهر

بتاريخ 24/04/2024، نشرت جريدة “النهار” اللبنانية، كما وجميع وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية، خبراً مفاده أن مجلس النواب قد أقرّ في جلسته يوم الخميس المنصرم مشروع القانون الرامي إلى تعديل أحكام المواد من 3 إلى 8 من قانون النقد والتسليف، ويجيز لمصرف لبنان إصدار أوراق نقدية من فئة الـ500 ألف ومليون ليرة مع الحفاظ على الكتلة النقدية في السوق.

تعليقنا القانوني سيقتصر على العبارة التي خُتم فيها النص (في حال كان صحيحاً) وهي: “مع الحفاظ على حجم الكتلة النقدية في السوق”.

بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه العبارة تعني بشكل واضح أحد أمرين:

  • إمّا جهل بالأحكام القانونية والمالية وبدور وآلية عمل المصرف المركزي.
  • أو أن السلطة السياسية تتعمد المس بمبدأ استقلالية المصرف المركزي.

إنطلاقاً من الفرضية الثانية ندلي بأن هذه العبارة الواردة في النص تحمل في طياتها تدخلاً مباشراً في أسس عمل المصارف المركزية، ومن حيث المبدأ، لا يُستحسن تحديد حجم الكتلة النقدية بقانون ثابت. والسبب أن الكتلة النقدية تحتاج إلى مرونة وتكيّف مستمر مع وضع السوق المالي وظروف الاقتصاد (مثل التضخم، والركود) ولذا يُترك أمر هذه السياسات النقدية للمصرف المركزي.

أهمية مبدأ إستقلالية المصارف المركزية

يشير الأستاذان توبياس أدريان (1) وأشرف خان (2) في دراسة مشتركة لهما بعنوان “Central Bank Accountability, Independence, and Transparency” منشورة على الموقع الإلكتروني لـIMF إلى ما قد أدلت به جانيت ييلين، رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي سابقاً، حين قالت:

“sometimes central banks need to do things that are not immediately popular for the health of the economy. We’ve really seen terrible economic outcomes in countries where central banks have been subject to political pressure.”

بما معناه :”البنوك المركزية تضطر أحياناً إلى القيام بأمور لا تحظى بشعبية آنية من أجل صحة الاقتصاد، وقد رأينا في الواقع نتائج اقتصادية مريعة في البلدان التي تخضع بنوكها المركزية للضغط السياسي”.

ويختم البحث بأن الاستقلالية تعني المساءلة وبأن الإستقلالية لا تزال المبدأ الأساسي لضمان سلامة أداء البنوك المركزية.

المبدأ هو التعاون مع السياسة النقدية وليس التدخل بها سنداً لأحكام المادتين 64 و65 من الدستور.

فعملاً بهاتين المادتين، وطالما أن مجلس الوزراء هو من يرسم السياسية العامة للبلاد ومنها السياسة النقدية، فإنه يتوجب أن يجتمع مع الحاكم ليستوضح منه المبادئ العامة للسياسة النقدية، كما ويتم الإتفاق على السعر المستهدف لليرة اللبنانية بحسب إمكانات المصرف المركزي وبالتالي يصار بالحوار والمناقشة والتعاون وبيان الملاحظات إلى رسم مسار عنوان السياسات النقدية التي من الممكن أن تتبدل بما لا يشكل تعارضاً مع أحكام السياسة المالية، وهذا الأمر يتناقض برمّته مع أحكام النص موضوع التعليق.

محاذير النص

أشرنا إلى أهمية مبدأ استقلالية المصارف المركزية لبيان وإظهار حجم مخالفة النص موضوع التعليق للأحكام القانونية لا سيما للمادة 13 من قانون النقد والتسليف، بحيث بات من غير الممكن الحيد عن محاذير هذا الخرق وانعكاساته على الواقع المالي والإقتصادي للجمهورية اللبنانية، لأنه إذا حصل تحديد لحجم الكتلة النقدية كما يقترح النص والذي هو قانون ثابت، فقد تترتب عليه المشاكل الإقتصادية التالي بيانها:

  • أولاً: إضعاف استقلالية المصرف المركزي، ذلك لأن تقييد حجم الكتلة النقدية بقانون يعني بصريح العبارة تدخلاً سياسياً مباشراً في السياسة النقدية، الأمر الذي سيؤدي إلى إفقاد مصداقية المصرف المركزي.
  • ثانياً: فقدان المرونة النقدية. وبالتالي يمسي من الصعب على المصرف المركزي التكيف مع التعديلات في الطلب على النقود، ما قد يؤدي إلى:
          • ركود في حال زاد الطلب ولم يُسمح بزيادة الكتلة.
          • تضخم في حال قلّ الطلب وبقيت الكتلة النقدية مرتفعة.
  • ثالثاً: شلل في السياسة النقدية. إذ ستمسي أدوات المصرف المركزي المعروفة كأسعار الفائدة أو عمليات السوق المفتوحة محدودة الفعالية ذلك لأن النص حدّد حجم تلك الكتلة النقدية.
  • رابعاً: صعوبة الاستجابة للأزمات. بسبب تقييد المرونة في إداة الكتلة النقدية وبالتالي فإنه في حالات الطوارئ (مثل الأزمات المالية أو الجائحة)، لن يتمكن المصرف المركزي من ضخ سيولة.
  • خامساً: النص مولداً للأزمات. فإن تحديد الكتلة النقدية بقانون جامد سيؤدي سنداً للتجارب الدولية إلى اختلالات اقتصادية حادة.

أمثلة عن محاذير التدخل بالسياسات النقدية

وقد يكون المثال الأوضح لمحاذير التدخل بالسياسة النقدية للمصرف المركزي وهتك استقلاليته هو ما فعلته حكومة فايمر في المانيا عام 1923 وذلك بعد الحرب العالمية الأولى حيث عمدت، وتحت ضغط الحاجة إلى تغطية نفقات الحرب والتعويضات الضخمة المفروضة على البلاد إلى طباعة كميات هائلة من النقود، إنما دون مرونة أو رقابة نقدية حقيقية ما أدى إلى واحدة من أسوأ أزمات التضخم المفرط في تاريخ البشرية، بحيث أصبحت الأسعار تتضاعف يومياً، والناس باتت تحتاج إلى عربات مليئة بالنقود لشراء رغيف خبز، وفقدت العملة قيمتها بالكامل تقريباً، وانهار الاقتصاد.

هناك أيضاً مثال معاصر يدلل بشكل واضح على مخاطر التدخل بالسياسة النقدية للمصرف المركزي وهي أزمة زيمبابوي حينما لجأت الحكومة إلى طباعة كميات ضخمة من النقود لتمويل العجز ودفع الرواتب، دون أي ضوابط من المصرف المركزي. ونتيجة لهذا التدخل وصل معدل التضخم إلى أكثر من 79.6 مليار بالمئة شهرياً عام 2008.

وعليه فإنه، عندما يُفقد استقلال المصرف المركزي ويتم تحديد الكتلة النقدية بشكل اعتباطي (سواء بقانون أو بقرار سياسي)، تصبح العملة بلا قيمة، ويتعرض الاقتصاد لانهيار شامل.

الخلاصة

إن هذا النص ينطوي في حال جرى نشره وفق ما تمّ تسريبه على تدخل مباشر في السياسة النقدية، وذلك من خلال فرض سقف أو قيد تشريعي على حجم الكتلة النقدية، وهي مسألة منوطة حصراً بمصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف، ما يدفعنا إلى الإشارة بأن المساس بهذه الصلاحيات يُعتبر انتهاكاً لاستقلالية المصرف المركزي، التي تشكّل ركيزة أساسية في التشريعات المالية الحديثة، وضمانة لحُسن إدارة السياسة النقدية بعيداً عن الضغط السياسي، كل ذلك يدفعنا إلى القول بأن الصياغة الحالية للنص غير دقيقة وتفتقر إلى علم بالقوانين المالية والمصرفية وبآلية عمل المصرف المركزي، وهي تتناقض مع مبدأ استقلالية المصارف المركزية، وبالتالي فإنها ستُعرض التوازن النقدي ومن خلفه الإقتصادي. ونوصي بالطعن به وإعادة صياغته بما يحقق الوضوح ويحترم الأطر الدستورية والتقنية المعتمدة.

(1): يشغل منصب المستشار المالي ومدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي. ويتولى قيادة عمل الصندوق المعني بالرقابة على القطاع المالي والإشراف على أنشطة بناء القدرات، والسياسات النقدية والاحترازية الكلية، والتنظيم المالي، وإدارة الدين، والأسواق الرأسمالية. وقبل انضمامه إلى الصندوق، شغل منصب النائب الأول لرئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك والمدير المشارك لمجموعة البحوث والإحصاء. وقد قام السيد أدريان بالتدريس في جامعتي برينستون ونيويورك، وله أعمال منشورة في الدوريات المتخصصة في الاقتصاد والعلوم المالية، بما في ذلك American Economic Review وJournal of Finance، وتركز أعماله البحثية على الآثار الكلية لتطورات أسواق رأس المال. والسيد أدريان حاصل على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ودرجة الماجستير من كلية لندن لعلوم الاقتصاد، ودبلوم من جامعة غوته في فرانكفورت، ودرجة الماجستير من جامعة دوفين في باريس.

(2): يعمل خبيراً أول في شؤون القطاع المالي في إدارة الأسوق النقدية والرأسمالية بصندوق النقد الدولي. وهو يرأس عمل الإدارة المعني بحوكمة البنوك المركزية وشفافيتها وإدارة مخاطرها وإدارة عملاتها النقدية، كما يساهم في عمل الصندوق المعني بالتكنولوجيا المالية والتمويل الإسلامي، ويدير قاعدة بيانات الصندوق للتشريعات المصرفية.

المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر

المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر هو محامٍ لبناني بارز، واستاذ محاضر في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية متخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية والأجهزة الرقابية المرتبطة بها. حصل على درجة دكتوراه دولة في الحقوق من الجامعة اللبنانية . إلى جانب ممارسته القانونية، يشارك الدكتور ضاهر بانتظام في محاضرات وندوات تتناول الأزمة المالية في لبنان، مسلطًا الضوء على التحديات الاقتصادية والمالية التي تواجه البلاد. كما كتب ونشر مقالات ودراسات علمية متعددة شرحت بواطن الازمة اللبنانية وتوصيفها القانوني وسبل علاجها من الناحية القانونية وتعليقات على مشاريع واقتراحات قوانين وعلى قرارات قضائية، اضافة الى تعليقات قانونية منها الصادرة عن المحاكم الدولية لا سيما منها محكمة العدل الدولية والمجلس الدستوري وقد نشرت في عدد من الجرائد والمجلات المتخصصة، كما قدم العديد من الدراسات حول مواضيع دولية متعددة متصلة بتفعيل اطر الرقابة الامثل على القطاعات المصرفية والمالية وحول مواضيع مثل ارتفاع أسعار الذهب العالمية واسبابها. تقدم ايضا بمراجعات نموذجية سواء أمام مجلس حقوق الإنسان الدولي التابع للأمم المتحدة بالاصالة عن نفسه والتفويض عن عدد من زملائه بموضوع اعتبار ان استقرار النقد يعتبر حق من حقوق الإنسان وشكوى أخرى بموضوع مكب برج حمود، او امام القضاء اللبناني بوجهيه العدلي والاداري، وقد فرض الرقابة القضائية على تعاميم المصرف المركزي وايضا فرض حجز الاحتياط الالزامي لمنع هدره بسبب صلته بحقوق المودعين في المصارف التجارية. بالإضافة إلى ذلك، يسلط الدكتور ضاهر، الضوء على التناقضات القانونية المحتملة في هذه التعاميم . وقد اتبع الدكتور ضاهر في كتاباته الأسلوب المقتضب غير المسهب الذي يصل مباشرة الى ذهن الباحث والمطلع؛ تُظهر هذه الأنشطة التزام الدكتور ضاهر بتعزيز الشفافية والمساءلة ومنع الافلات من العقاب وتعزيز حكم القانون في القطاعين المالي المصرفي والقانوني في لبنان، وسعيه المستمر لمعالجة التحديات القانونية والاقتصادية التي تواجه البلاد. يذكر ان: - الدكتور ضاهر كان قد استحصل عام ١٩٩٧ على تنويه وجائزة من وزير التربية لفوزه على طلاب المدارس بإعداد بحث مكتوب عن البيئة. - منحه المعهد العالي للدكتوراه في الشرق الأوسط منحة لاتمام دراساته وابحاثه في فرنسا لجامعة Pierre mendès .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى