ليس هناك أقسى من مشاهدة المأساة وهي تفتك باللبنانيين في عرض البحر. ولا يكفي طبعًا الحديث عن مشاعر الأسف والمواساة لأهالي الضحايا، بل لا بدّ من تحديد المسؤوليات ومحاسبة الذين تسبّبوا بهذه الفاجعة الأليمة.
والأمر هنا يستدعي طرح سؤال مركزي واحد: ما الذي أوصل الناس إلى اتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة التي تعرّضهم وتعرّض أولادهم لمخاطر كبيرة جدًا قد تودي بهم إلى التهلكة، كما حصل في الحادثة الأخيرة؟
لا شكّ أنّ السبب والمُسبّب هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي المزري الذي وصل إلى الدرك الأسفل، حيث لم يعد ربّ الأسرة قادرًا على توفير أبسط مقوّمات الحياة لأطفاله، ليس فقط في طرابلس بل في كلّ المناطق اللبنانية دون استثناء.
هنا يأتي السؤال المركزي الثاني: ما الذي يجب فعله لكي نخرج من هذا الوضع، حيث تتوفر للناس سبل العيش في لبنان ولو في الحدّ الأدنى، إذ انّ هؤلاء “الغلابى” والمساكين لا يطلبون الرفاهية بل على الأقلّ أن يستطيع الإنسان توفير لقمة الخبز والمأوى والدفء لعائلته.
الجواب على هذا السؤال لا بدّ أن يكون جذريًا لأنّ الوضع في البلد لم يعد يُحتمل، بدليل أنّ عددًا من الموطنين قرّروا الهرب من هذا الوضع إلى المجهول الذي أوصلهم إلى الموت.
ولعلّ الإجراء الجذري الأوّل يكون باتخاذ القرار الجريء على أعلى مستوى بالتخلص من “الموديل” الاقتصادي الحالي الذي لم يكن يصلح للبنان أبدًا، وبالتالي لم يعد ممكنًا الاستمرار به بل بات من الواجب إنهاء العمل به إلى غير رجعة.
ليس المطلوب على الإطلاق إجراء عمليات إنعاش عبر صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو غيرهما، لأنّ هذه الإجراءات تعني إعطاء بعض الأوكسجين للنهج الاقتصادي والمالي الذي أوصلنا إلى الكارثة.
الأوْلى بالمسؤولين البحث عن سُبُل تحرّك اقتصادنا الوطني وتدفعه إلى الأمام وتخرجه من هذا الركود القاتل الذي يؤدّي استمراره إلى مآسٍ جديدة مشابهة لمأساة مركب الموت في بحر طرابلس.
أمامنا اليوم عروض سخية جدًا من دول صديقة تريد الخير للبنان وشعبه مثل روسيا والصين وإيران، وهي لم تكن يومًا دولًا استعمارية كما فعلت وتفعل دول أخرى تحتلّ وتستعمر وتنهب خيرات الشعوب الأخرى.
والعروض من روسيا والصين وإيران تتضمّن مشاريع إنمائية تقدّر قيمتها بأكثر من أربعين مليار دولار تأتي بها هذه الدول من خزائنها وتضخّها في الشرايين اللبنانية الجافة حاليًا، علمًا أنّ المشاريع المقصودة تطال عدة قطاعات حيوية من شأنها أن تساعد في إعادة إطلاق دورة الاقتصاد باتجاه النمو، لأنها تنهي تحكّم سعر صرف الدولار بالكثير من الحاجات الأساسية للمواطن اللبناني كالمحروقات والقمح والطحين والكهرباء والنقل سواء للأشخاص أو للبضائع…
وبالتالي فإنّ تنفيذ هذه المشاريع يوفر على اللبنانيين أموالًا ضخمة يمكن توظيفها في أماكن أخرى لخلق فرص عمل وتعزيز النمو والتنمية تمامًا كما يحصل في الدول المنتجة التي يسعى اللبنانيون للهجرة إليها، حتى لو كلفهم ذلك حياتهم.
ولا شكّ أنّ اللبنانيين بكلّ أطيافهم يُرحّبون بكلّ العروض المشابهة إذا أرادت دول أخرى المساهمة في إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد اللبناني وإخراجه من حال “الكربجة” الحالية، وربما يكون موضوع استخراج النفط والغاز من المياه اللبنانية عنصر جذب للكثير من الشركات العالمية، ولكن ليس على قاعدة ما حصل مع شركة “توتال” سابقًا حين بدأت بعملية التنقيب في البلوك رقم 4 قبالة البترون، وأوقفت الحفر وغادرت قبل أن تنهي عملها، حتى أنها لم تقدّم أيّ تقرير للدولة اللبنانية كما ينص العقد.
المطلوب إذن توجّهات حكومية جديدة واضحة وشفافة وصارمة، توقف الهريان المستشري في كلّ مفاصل البلد، ولا حجة لأحد في التأخّر عن القيام بهذا الواجب الوطني الملحّ، خاصة أننا لا نريد رؤية المزيد من المآسي تنزل بأبناء شعبنا بسبب تقصير مستمرّ منذ ثلاثة عقود وأكثر، وبات التغيير ممرًا إلزاميًا قبل الانتخابات وبعدها، وحتى تكون الخطوات التغييرية ناجحة وتأتي بثمارها لا بدّ أولًا من رفض بل مقاومة أيّ ضغوط خارجية تريد إبقاء البلد واقتصاده وناسه رهينة في أيديها اعتقادًا بأنّ ذلك قد يسمح بتمرير ما لا يتناسب مع مصلحة لبنان، خاصة في موضوع الترسيم البحري جنوبًا، لأنّ زمن الرضوخ ولّى إلى غير رجعة ونحن نعيش اليوم في لبنان المقاوم السيد الحرّ المستقلّ…