ازمة لبنانالاحدث
لا “مُغتربون” ولا “مُنتشرون” بل “مُهاجرون” | بقلم هنري زغيب
تَتَجاذبُ اللبنانيين في الخارج تسميَتَان: “مغتربون” و”منتشرون”، بينما لهم تسميةٌ أَصَحُّ سأَعرِضها في متن هذه الحلقة، تختصر معنى التسميَتَين في أَيِّ موقعٍ من الكلام.
أَبدأُ بالتسمية الأُولى: “مُغتربون”. جاء في اللغة: “اِغْتَرَبَ الرَجُل: نَزَحَ عنِ الوَطَن”، و”غَرَبَ في سَفَره: تمادى” أَو “غاب واختفى”، أَو “بَعُدَ وتنحَّى”.
أَنتقلُ إِلى التسمية الأخرى: “مُنتشرون”. جاء في اللغة: “انْتَشَرَ الناس: تَفَرَّقُوا، تَشَتَّتُوا بلا انتظام”، ومن هنا عبارة: “استُوفِضَت الإِبل”: “تفرَّقت في رَعْيها” (و”الإِبل مجموع جِمال ونُوق وما إِليها من سلالات الدوابّ والقطعان”.
أَصل الآن إِلى التسمية الأَصح، وأَبدأُ بهذه المقدمة القصيرة. جاء في اللغة: “هَجَر فلان: ترَكَ مكانَه وأَعْرَض عنه”، و”هجَّر فلانًا: أَخرجه من بلده على أَلَّا يعود”. بينما جاء في اللغة: “هاجَرَ من مكانٍ: تَرَكَهُ وخَرَجَ منه إِلى مكان محدَّد”. ومن هنا تعبير “عامل مُهاجر: مَن يشتغل في بلاد أَجنبية”. وبما أَنَّ فعل “هَجَرَ” لا يوحي إِجمالًا بالعودة، وفعل “هاجَرَ” يُفسح إِجمالًا واحتمالًا لفكْرة العودة، أَرى أَنَّ اللبنانيين في الخارج “مُهاجرون”، فلا “مُنتشرون” هُم ولا “مُغتربون”. وتعبير “مُهاجرون” جاءَت فيه مصطحاتٌ عدَّة، في طليعتها: “بلادُ الهِجرة” (“الهِجرة” مصدر “هاجَرَ” لا مصدر “هَجَر”)، و”أُدباء المهجَر الأَميركي”، و”الأَدب المهجَري”، وجريدة “الـمُهاجر” لأَمين الغريِّب (وفيها مطالعُ مقالات جبران)، و”العائلات اللبنانية في الوطن والمهجَر”، “الهِجرة النبَوية”، “السنة الهِجرية”، و”المهاجرون هُم الذين هاجروا مع النبي من مكة إِلى المدينة”، وجاء في السيرة النبَوية: “هاجرَ مَن هاجر قِبَلَ المدينة، ورَجَعَ إِلى المدينة بعضُ مَن كان هاجرَ إِلى أَرضِ الحبَشة”. وفي هذا المعنى ما يُشير إِلى أَنَّ في فعل “هَجَر” ما لا يدل ضرورةً على أَنه يعود، بينما فعل “هاجَرَ” يحتمل العودةَ إِلى المكان الأَول. وهذا تمامًا ينطبق على اللبنانيين في الخارج، وهُم يهاجرون ردحًا من الزمن ويعودون إِلى الأَرض الأُمّ في لبنان، ولو جُزئيًّا، ولو موقَّتًا، ولو لم يعودوا نهائيًّا لأَسباب مُرَّةٍ أَبرَزُها فقدانُ ثقتهم بالسلطة التي تدير الدولة، لكنَّ ثقتهم راسخة في تَعَلُّقِهم بالوطن وانتمائهم إِليه ولو حيثما يكونون.
تعبير آخر لا يَنطبق على اللبنانيين: “الدياسبورا”. في اللغة أَنَّ “الدياسبورا” تعني شعبًا مُشرَّدًا مُتَبَدْوِنًا في الشَتات لا أَرضَ له ولا وطن. لذا: من العار استخدامُ هذا التعبير للُّبنانيين في العالم، لأَنَّ لهم أَرضًا أُمًّا، ووطنًا مميَّزًا، وهم ليسُوا أَبدًا مُشرَّدين ولا مُشتَّتين أَشتاتًا مبعثَرَةً في الشَتات. واللبنانيون ليسوا “نازحين” إِلى بلدان الناس، ولا “لاجئين” لدى دوَل العالم، ولم يَرَ أَحدٌ لبنانيًّا شحَّادًا يتسوَّل عند زاويةِ شارعٍ في لبنان أَو في أَيِّ بلدٍ من العالم. اللبنانيون المهاجرون مُبَرِّزون ناجحون، وحيثما يحِلُّون ينالون إِعجاب المجتمعات التي يحِلُّون فيها.
خلاصةً: ليس اللبنانيون في العالم “مغتربين” ولا غرباء، ولا “منتشرين” قطعانًا في هَباء، بل هُم “مُهاجرون” يعودون أَو يتوقون للعودة من حيثُما هم يملأُون الـمَهاجِر اللبنانية في العالم. وغالبًا ما تكونُ هجرتُهم سُطُوعًا ناجحًا حيثُ يكونون، وفخرًا ساطعًا لوطنهم الأَول، ولا أَقول للوطن الأُم، هذا الخطأُ السخيف الشائع (“الوطنُ الأُم”)، فلا يمكن الوطن وهو مذكَّر أَن يكون أُمًّا وهي مؤَنَّثة، بل نقول للمؤَنَّثَتَين: “الأَرض الأُم”، وللمذَكَّرَين “الوطن الأَصلي” لعودة اللبنانيين في الـمَهاجر إِلى أُصولهم في الوطن الأَصلي.
لذا وزارتُنا في لبنان فَلْتَتَحَوّلْ “وزارة الخارجية والهِجرة”، أُسْوَةً بوزارات الهجرة في دوَلٍ كثيرةٍ من العالم.
ختامًا: لم أَشأْ أَن تكون هذه الحلقةُ درسًا في اللغة بل تصويبَ لسان، واللسانُ صوتُ العقل، والعقل وليد المنطق، ولا تجوز خيانةُ العقل بحجة “الخطإِ الشائع”، فالعقلُ هو معيار احترام الحقيقة. ويا تعْسَ شعبٍ لا يحترمُ عقلَه ولا لسانَه، لأَنه يُمسي سهلًا للاختراق.