لبنان يتفوق بظاهرة الفساد : أصبح ثقافة وليس نهجا فقط والكل شاهد على ذلك | بقلم د. مازن مجوز
يشكل الفساد أحد أكبر التهديدات للمجتمع اللبناني في العصر الحديث ، وهذا بالنظر لما ينطوي عليه من مخاطر من شأنها تقويض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر إضافة إلى انعكاساتها السلبية على فرص الاستثمار من داخل لبنان وخارجه، حيث الرهان كبير على دور الأخيرة في إعادة لبنان إلى موقعه الريادي في منطقة الشرق الأوسط، شرط تحقق العديد من العوامل أهمها إقرار “رزمة الاصلاحات” التي باتت معروفة عند الجميع، لا سيما عند القيادة السياسية في لبنان، والتي تتضمن في العديد من بنودها إعتماد مبادىء الشفافية والحوكمة الرشيدة .
ثمّة العشرات من القضايا التي تداولها الإعلام اللبناني عبر تقاريره الاستقصائية والتحقيقات الإخبارية تثبت أنّ ظاهرة الفساد ونتيجة استشرائها واتساع نطاقها وارتباطها في السنوت الأخيرة ليس فقط بالجريمة المنظمة، بل بمسلسل الجرائم اليومية، التي تشهدها معظم المناطق اللبنانية ، فالجرائم على تنوعها باتت تُشكّل تحدّيا ليس لأمن الدولة واستقرارها فحسب ولكن أيضا للحقوق الأساسية للإنسان، حيث أنّ الفساد يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان في لبنان، ومن شأنه تشويه الأسواق وجودة الخدمات والمنتجات على إختلاف أنواعها ومستوياتها وطبيعتها، وإلى تدهور الحياة، وتساهم إلى جانب التهديدات الأخرى في إعاقة إزدهار الأمن البشري .
ولنأخذ على سبيل المثال الشراكة بين القطاعين العام والخاص التي يتغنى بها القادة السياسيون ممن هم داخل السلطة وخارجها، هي في الواقع “وصفة” لا تصلح في أي مكان وزمان، فهل شهدنا خطوات فعلية ممن يتغنون بهذه الشراكة لمعالجة الثغرات الأساسية التي تعيق تطبيق هذا القانون ؟
لقد خلُص تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2021 إلى أنّ الفساد يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان وإلى نشوء حلقة مفرغة، فمع تآكل الحقوق والحريات تراجع مستوى الحرية وفسح المجال للإستبداد الذي يساهم في بلوغ الفساد أعلى مستوياته، وهذا ما لاحظناه في قضية عشرات الموقوفين بتهم الفساد في عدة دوائر عقارية ومن بينها الدائرة العقارية في قضاء بعبدا، وكذلك الأمر في مصلحة تسجيل السيارات في الدكوانة وغيرها الكثير من القضايا.
وفي هذا الصدد لا يُمكننا إلّا أن نتوقف عند دعوة منظمة الشفافية الدولية – إثر صدور مؤشر التصنيف العالمي لمكافحة الفساد 2023- الحكومات إلى منح نُظم العدالة الاستقلالية والموارد والشفافية اللازمة لمعاقبة جميع جرائم الفساد بشكلٍ فعال، وفرض الضوابط والتوازنات على السلطة، خصوصا أنّ أكثر من ثلثيّ البلدان التي تمت دراسة بياناتها ومن بينها لبنان، لم تصل حتى إلى 50 نقطة (*) .
ورأت المنظمة أيضاً أنه يتعيّن على الحكومات عليها، وضع إجراءات وقوانين أفضل لمساعدة مؤسسات العدالة على حماية نفسها من أعمال الفساد وتمكينها من استهدافها . وإضافة إلى ذلك فإنّ الفساد يؤدي إلى تدني كفاءة الاستثمار العام، وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة، وذلك بسبب الرشاوى التي تحد من الموارد المخصصة للاستثمار، وتسيء توجيهها أو تزيد من تكلفتها الحقيقية.
وهنا يثار تساؤل في غاية الأهمية هو : ما هي الآلية التي يؤثر من خلالها الفساد على نمو الاقتصادي ؟ وفي هذا الصدد نستطيع أن نقول أنّ المحك الأساسي الذي من خلاله يؤثر الفساد على النمو الاقتصادي يتمثل في نوعية الاستثمارات، حيث تلعب جودة الاستثمارات دوراً اساسياُ في تحديد انتاجية رأس المال، ومن ثم معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي.
إن عبارة “ونزولا عند رغبة السلطة والمجتمع المدني في مكافحة الفساد” الواردة في الاستراتيجية التي اتبعتها سنغافورة لمكافحة الفساد في العام 1952، وهي اليوم تحتل المركز الخامس عالميا في مؤشر مدركات الفساد للعام 2023 (تقرير منظمة الشفافية العالمية) لا أمل لها أن تتحقق بشكل فعلي في لبنان، لأنه وببساطة لا وجود لإرادة العمل وصفاء النية حيال ذلك، لدى من بيدهم القرار .
فمن بين الخطوات التي قامت بها سنغافورة إنشاء مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد، والذي يعتبر هيئة مستقلة عن الشرطة، تقوم بالتحقيق في وقائع الفساد سواء في القطاع العام أو الخاص ويمكن إيجاز دوره في ما يلي :
– إتباع سياسات من شأنها مكافحة الفساد في الجهاز الإداري والقطاع الخاص.
(*) تقوم المنظمة بقياس الفساد في القطاع العام وفق ثلاثة عشر مصدراً مختلفاً للبيانات، منها البنك الدولي، والمنتدى الاقتصادي العالمي، وشركات المخاطر الخاصة، والشركات الاستشارية. ثم تقوم بتصنيف 180 دولة وإقليماً على مقياس يبدأ من صفر: (فاسد للغاية)، وحتى 100 (غير فاسد).
– التحقيق في سوء استخدام السلطة من قبل المسؤولين، وإرسال التقارير إلى الجهات التي يتبعها المتهمون بممارسة الفساد . بمعنى أشمل لقد لعبت القوانين المرافقة لاستراتيجية مكافحة الفساد دوراً مهماً في تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية، والتي نجحت بفعل عدة عناصر أهمها :
– تشريعات قانونية ضد الفساد : عبر تشديد العقوبة وتوسيع دائرة المسائلة القانونية.
– تنظيمات إدارية ضد الفساد : مثل تسهيل الإجراءات الإدارية، وسد الثغرات التي تؤدي إلى التعسف في استغلال المنصب، ومراجعة رواتب موظفي القطاع العام حتى تتناسب مع مستويات المعيشة، ووضع شروط لإلغاء العقود مع مقدمي الخدمة حتى في وقت لاحق، في حال اكتشفت أنّ العقد تم تنفيذه بناءً على محسوبية أو تفضيل غير قانوني.
– مُخططات وقائية ضد الفساد :
يُحظر على موظف القطاع العام أن يكون خاضعاً لظرف مالي لأي شخص يتعامل معه، كما يتم الإعلان عن الأصول التي يملكها الموظف الحكومي أثناء تعيينه في كل سنة، كما يحظر عليه القيام بأي عمل موازي أو الإنخراط في نشاط بيع أو شراء ما دام موظفا في الجهاز الحكومي. وهذه المتابعة كما تخص القطاع العام، فإنّها تخص القطاع الخاص، حيث يملك مكتب تحقيقات صلاحيات مُتابعة مظاهر الفساد حتى في القطاع الخاص.
وفي الختام يُشكل الحكم الراشد شرط أساسي لحماية حقوق الانسان وتعزيزها، كما وتُعد الوقاية من الفساد عملاً استباقياً يُساهم في التمتع بحقوق الانسان ويحول دون انتهاكه، فيما بات من الضروري اقتران مكافحة الفساد باعتماد نهج قائم على احترام حقوق الإنسان نظراً لما له من فعالية قصوى، خصوصاً أنّ أكثر الحقوق انتهاكاً جرّاء الفساد وفق المنظمات والجمعيات العاملة في حقوق الإنسان في لبنان هي : الحق في التنمية، والحق في الصحة، والحق في مستوى معيشي لائق، بفعل الجرائم الأكثر ممارسة في مجال الفساد المالي، وهي الرشوة واستغلال الوظيفة والسلطة واختلاس وتبديد المال العام في لبنان .