مع إدراك اللبنانيين أخيراً أن الموارد المالية الوطنية لبلدهم قد نُهِبَت، فإن الكثيرين منهم يلومون النظام السياسي الحالي الذي جعل هذا مُمكناً. لقد بدأوا يُدركون أن اقتصاد ما بعد الحرب كان عبارة عن مُخطّط احتيال خلّاق وعملاق، يُثري عدداً من كبار السياسيين والبنوك، من دون أي اعتبار لرفاهيتهم، حيث يواجهون الآن احتمال فقدان كل مدّخراتهم.
هناك شيئان ميّزا النظام اللبناني الذي وُضِع بعد نهاية الحرب الأهلية في العام 1990. الأول هو النظام السياسي الذي أٌقيم على أساس الدستور الجديد المُتفَق عليه في العام 1989، والذي خلق فعلياً الظروف لتقسيم غنائم الأمة بين قادة الطوائف الكبار. والثاني هو طريقة إعادة الإعمار بعد الحرب من قبل رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري بعد العام 1992.
في العام 1989، وافق البرلمانيون اللبنانيون على دستور جديد في مدينة الطائف السعودية. وقد دمج هذا الإتفاق، الذي حمل إسم المدينة التي وُقّع فيها، عدداً من الإصلاحات التي اتُفّق عليها خلال الخمس عشرة سنة السابقة، وسحب فعلياً الكثير من السلطات التي كان يتمتّع بها رئيس الجمهورية الماروني وأعاد توزيعها على مجلس الوزراء الذي لم يعد خاضعاً لرئاسة الجمهورية. أصبحت الحكومة هي السلطة التنفيذية الرئيسة في لبنان، وضَمَنَ نظام التسوية لنفسه أن يتألف في معظم الأحيان من الممثلين الطائفيين الرئيسيين في البلاد.
نص الدستور الجديد على المساواة في تمثيل المسيحيين والمسلمين في المؤسسات الحكومية – البرلمان والحكومة والخدمة المدنية. وقد عنى هذا السعي لتحقيق التوازن بأن جميع القرارات يجب اتخاذها بالتوافق. ونتيجة لذلك، أصبحت الحكومات غير عَمَلية لأن كل قرار كان يجب التفاوض عليه بين القوى السياسية للتوصل إلى توافق في الآراء. ومع وجود مليارات الدولارات على المحك في عملية إعادة الإعمار، كانت لكلٍ من هذه القوى مُبرّرات لعرقلة السياسات لتأمين حصة أكبر من عقود الدولة.
عزّز سلوك رئيس الوزراء آنذاك رفيق الحريري، الراعي الرئيس لمشروع إعادة الإعمار، هذا الإتجاه غير الصحّي. كان رئيس الحكومة الراحل في عجلة من أمره لإعادة بناء لبنان، وبالتالي لجأ إلى العديد من الاستراتيجيات لإزالة العقبات التي تعترض تنفيذ مشاريعه الرئيسة بسرعة.
وقد أدى ذلك إلى نظامٍ سمح للسياسيين الرئيسيين، وكثير منهم أمراء حرب سابقون، بأخذ جزء من عقود إعادة الإعمار الكبرى، والذي من شأنه أن يمنحهم حافزاً لتسهيل تمريرها وتنفيذها. وتمّ تسليمهم وزارات رئيسة، والتي خلقت رابطة بين أمراء الحرب أو أتباعهم، وقبض الريوع من هيئات ومجالس الدولة.
قام الحريري بتوجيه عملية إعادة الإعمار من خلال “مجلس الإنماء والإعمار”، الذي يتبع مباشرة مكتبه. وأصبح هذا المجلس بمثابة وزارة مُمَيّزة لإعادة الإعمار في أوائل سنوات ما بعد الحرب، حيث أدّت سلطاته إلى دفع العديد من الوزارات إلى دور ثانوي. وكانت النتيجة أن أمراء الحرب السابقين اكتسبوا ثروات وسلطة بينما أصبحت الوزارات في كثير من الأحيان منظمات بلا أسنان، يُهيمن عليها سياسيون ويُهمّشها مجلس الإنماء والإعمار.
في موازاة ذلك، موّل الحريري إعادة الإعمار بعد الحرب بشكل رئيس من خلال تثبيت العملة الوطنية والحفاظ على ربطها بالدولار. وهذا سمح له بإصدار سندات سيادية محلية بأسعار فائدة مُرتفعة، مما أثرى البنوك التي كانت لها صلات مع الطبقة السياسية. وكمنت المشكلة في أن أسعار الفائدة قد قوّضت فعلياً أي حافز للبنوك لكسب المال من طريق الإقراض للقطاع الخاص، حيث يُمكن أن تكسب أكثر بكثير بشرائها لسندات الخزانة المُرتفعة الفائدة.
هذه اللامبالاة المُستشرية في البنوك، التي دأبت على مرّ السنين على شراء سندات سيادية محلية جديدة، أدّت إلى تضخّم الدين المحلي. وحقيقة أن الطبقة السياسية كانت تتعمّق في تمويل إعادة الإعمار لتمويل نفسها وأنصارها، كانت تعني أن الودائع المصرفية للمواطنين اللبنانيين كانت موجودة فقط على الورق بينما تم تحويل أموالهم من خلال ممارسات فاسدة إلى حسابات السياسيين الذين قسّموا ثروة الأمة في ما بينهم.
لقد أوصلت سرقة موارد الدولة البلاد الآن إلى حافة الإنهيار. يعرف الكارتل السياسي جيداً بأنه إذا كان الإقتصاد سينهار، فإن السياسيين سيكافحون من أجل إحياء النظام الذي عبّأ جيوبهم على مدى ثلاثة عقود. والأكثر قلقاً بالنسبة إليهم، أن يكون لبنان على وشك ثورة إجتماعية، مع كل ما يستتبع ذلك من تداعيات على مصالحهم الشخصية. اليوم “حزب الله” هو الوحيد الذي يوفّر لهم الحماية، لأن الحزب ينظر إلى النظام الفاسد على أنه وفّر له غطاءً للإحتفاظ بأسلحته.
لا شك أنه كانت هناك حاجة إلى دستور الطائف وبرنامج إعادة إعمار الحريري في ذلك الوقت الإستثنائي. ومع ذلك، فقد أصبحا أدوات لتسهيل إنحدار لبنان إلى نظامٍ لا يتّسم بقدر كبير من تقاسم السلطة، كما ادّعى كثيرون، ولكن إلى نظام يتميّز بتقاسم الفطيرة. كان المواطنون اللبنانيون يعرفون أن سياسييهم يشعرون بالقلق وأن النظام غير مستدام، لكن دعمهم كان دائماً مبنياً على فكرة أن الزعماء الطائفيين سيُعيدون توزيع الثروة عليهم. اليوم، لبنان مُفلس ولم يعد هناك أي شيء للتوزيع.
وهذا يشير إلى أن النظام القديم لا يُمكن ببساطة إعادة بنائه كما كان. ومع ذلك، لا السياسيون ولا “حزب الله” لديهم الرغبة في التخلّي عنه. إن لبنان يتجه نحو أكثر من مجرد الإفلاس، إنه يدخل فترة طويلة إلى غرفة الطوارئ السياسية، حيث هناك حاجة إلى تحويل النظام إلى شيء يُمكن أن يفيد الغالبية. إن أزمة سياسية على رأس كارثة إقتصادية هي وصفة لسنوات عديدة من الصراع المُقبل.
نشر ايضاً في مجلة اسواق العرب اللندنية
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا