ليس أخطر من السياسات الخاطئة سوى سياسة اللاقرار | بقلم العميد المتفاعد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
بئس هذا الزمن الرديء الذي يتوخى فيه اللبنانيون النهوض ببلدهم، من طغمة حاكمة عاثت فسادا في الوطن منذ ثلاثة عقود ولم تزل، بئس زمن تعقد فيه آمال اللبنانيين على طبقة سياسية الكل يعلم أن الفساد ملء ابرادها، ومن رأسها حتى أخمص قدميها، طبقة حكمت فتحكمت بمصير البلاد والعباد، وها هي تجرنا يوما بعد يوم إلى الخراب، طبقة سياسية ليست من علم السياسة ومبادئها وأدبياتها في شيء، تتقن فن المراوغة، والمماحكات والمناواشات والابتزاز السياسي بغرض تحقيق مكاسب فئوية أم خاصَّة محصورة بالأقرباء من الأنسباء والمحاسيب والمتزلفين والمتملقين والوصوليين. ولا تتورع عن الخداع والأكاذيب، وجل ما تجيده الوعود الباطلة والخطابات الفارغة، والقرارات العشوائية.
إنهم لزمر نصبوا أنفسهم مسؤولون في الدولة وتقاسموا المناصب ووزعوا في ما بينهم ما نهبوه من ثروات الوطن، وما اختلسوه من قروض مالية أغرقوا البلد فيها، ولم يكتفوا بذلك فمدوا أياديهم إلى إيداعات الناس فسلبوهم جنى العمر الذي جمعوه بالكد وعرق الجبين.
إنهم لزمرٌ أوغاد سفلة نجسة نتنة لا تعير الحلال والحرام أي اعتبار، هربوا ما اكتنزوه بتقاسمهم النفوذ السياسي وسطوهم على مقدرات الدولة المالية، وأموال الشعب، وهربوا مبالغ طائلة إلى خارج لبنان، فتسببوا بتسارع وتيرة انهيار قيمة العملة الوطتية.
إنهم مجرمون حقيقيون متسترون بياقات بيضاء، وبزات انيقة وسيارات فارهة وقصور تفوق الخيال، ومواكب سيارات داكنة. بل هم أخطر أنواع المجرمين قاطبة، لأنهم يتسلحون بالتعفف، ويتسترون بالدين ويتقنعون بصون حقوق طوائفهم ومذاهبهم ورعاياها.
إنهم لمجرمون محترفون من معتادي الإجرام، تراهم يقتلون الشعب بدم بارد، وبآساليب ناعمة ومن دون صخب، تارة بالتعطيل، وأطوارا أخرى بالحرمان من أدنى متطلبات الحياة من مأكل ومشرب وطبابة، ومحروقات الخ… ولكن أخطر أساليبهم التظاهر انهم على عداوات في ما بينهم، وهم في الوقت عينه يتقاسمون المناصب والتنفيعات من خلف الستار حينا وجهارة أحيان أخرى.
إنهم مجرمون بمنأى عن كل أنواع المساءلات مُتفلتون من العقاب، ليس لكونهم فارون من وجه العدالة بل لأن العدالة فارة منهم، جراء تسخيرهم القضاء لتبرير سلوكياتهم الإجراميَّة، والقوى العسكرية والأمنية لحمايتهم وحراسة ممتلكاتهم، والمجلس الدستوري لشرعنة خروقاتهم القانونية، والمرجعيات الدينية لمباركة أعمالهم الشيطانيَّة، وبتسخيرهم لضحاياهم “أي عامة الناس” لتبجيلهم والرفع من شأنهم إلى حد تقديسهم وجعلهم أنصاف آلهة.
إنهم مجرمون متمادون بإجرامهم، يحتكرون المواد والخدمات الأساسية من محروقات واتصالات وبريد وخدمات مصرىفية ومالية الخ…ويفتعلون الأزمات ليستغلونها في تشديد الخناق على الشعب او لرفع الأسعار والعلاوات، وأغرب من كل ذلك تحكمهم بالتحركات المعترضة كلاعتصامات والتظاهرات الاحتجاجية، باحكام قبضتهم على النقابات والاتحادات العمالية والنقابية.
الغريب في الأمر ليس تماديهم في الاجرام، وتقويضهم لكل مرتكزات الدولة، وبنى النظام السياسي فيها، واعتمادهم للدستور كممسحة لتلميع انتهكاتهم الدستورية والاعراف السياسية، ولا حتى عدم استمرارهم بذات الأداء والأساليب في إدارة شؤون الدولة، ولا حتى في عدم تنحيهم أو اعتزالهم العمل السياسي. لأن ذلك يتطلب ضمائر حية وأحلاقيات رفيعة ليست في مزاياهم.
الأمر الغريب يتمثل في وقوفهم موقف المتفرج على بلد ينهار، وشعب يتلذع من وهج الغلاء المعيشي ويتذوق الأمرَّين في كل ساعة وليس فقط في كل يوم. الغريب هو مواقفهم المقتصرة على انتظار المتغبرات الخارجية، أو معجزات إلهية أو تدخلات وحلول دوليَّة، واستجداء المساعدات من الخارج، والتباكي على ما وصلنا إليه، إلى حد العويل والنواح. الغريب في الأمر انهم مسؤولون على غير مسمياتهم، فهم لا يتحلون بالمسؤولية، ولا يملكون مزاياها، إذ تنقصهم المعرفة والمؤهلات الريادية، وروح المبادرة، والضمير الانساني والأخلاقيات السياسية، هم لا يدركون أن النهوض بالدولة لا يمكن أن يتم من خلال الشحاذة، وأن البهلوانات السياسية، والاتكال على ما يقوله المشعوزون والعرافون لا تنهض بوطن، لأن النهوض بالأوطان والدول من أزماتها يحتاج إلى مبادرات غير تقليدية، وخيارات استراتيجية، وقرارات جريئة محكمة الدرس.
ولكن الأغرب من كل ذلك، يتمثل في حالة الخنوع والاستسلام اللتان تحكم سلوكيات الشعب المقهور، الذي يتصرف كأرملة ليس بيدها حيلة سوى التضرع إلى الله للاقتصاص ممن قتل بعلها او سرق وليدها، كما يتمثل في تماهي البعض في تبرير سلوكيات ومواقف من هم مسؤولين عن كل الخراب والمآسي التي يعاني منها الشعب، وكذلك في اهتمام الكثير من اللبنانيين بمن فيهم المسؤولين في اهتمامات دول وشعوب أخرى وتجاهلهم لأوضاعهم أو غفلتهم عنها.
إن أخطر ما نحن عليه اليوم هو حالة التجمُّد السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي النابعة من حالة الضياع التي تسيطر على معظم المسؤولين، وتبنيهم خيار اللاقرار. الأمر الذي أدى إلى تعطيل الانتاجية في البلد بشكل شبه كامل، في الوقت الذي نحن بحاجة فيه لشحذ الهمم وتوفير فرص العمل لزياد الانتلج القومي، للتخفيف من وطأة الازمات الاقتصادية والمالية والمعيشية.
نعم إن التخلص من الازمات التي أشرنا إليها يتطلب زيادة في النشاط وعدم إضاعة الفرص وحسن إدار الوقت لأن الوقت من أغلى ما يكون.
ألم يحن الأوان بعد للمسؤولبن أن يعوا أن وقف انتاج الطاقة الكهربائية وشح المحروقات شل البلد وقضى على فرص الانتاج وأفلس الكثير من الشركات، وتسبب بالكثير من الهدر وتبذير احتياطي لبنان من العملات الأجنبية، كما أدى إلى إقفال مئات وربما آلاف المشاريع الانتاجية؟ وقضى على السياحة والاستشفاء وكل ما كان بالامكان الاستفادة منه للتخفيف من وطأة وتبعات الازمات.
واخلص من كل ذلك للقول بأن خيار اللاقرار أخطر من القرارات الخاطئة، والجهل أخطر من سوء النية.
اللهم أسألك الرحمة بالشعب وانت تقيه شر سياسات حكامه، وجهلهم ونواياهم الآثمة، وحالة اللاقرار التي تحكم مقارباتهم لمسؤولياتهم السياسية.